يتخذ الكاتب السعودي علي سعيد من القصّ المتدفق أسلوباً في عمله الروائي الأول والمُحكم «كونيكا 19» الصادر حديثاً عن دار أثر السعودية. ففي الرواية التي تقع في 208 صفحة، لا مكان للحشو أو حشد اللغة الفضفاضة لملء المساحة. بل هنالك عمود فقري سردي تتوالد منه القصص المتشعبة، التي يؤسس عليها علي سعيد معماره الروائي المتقن. إنها حكاية شرط شبه تعجيزي يقع على الابن الوحيد كي تتمكن الأسرة من توزيع تركة الميت، ولأن الابن شخصية غير متدينة، فإن الشرط الذي اختاره الأب هو أن يصلي الولد 19 سنة لم يكن قد تمكن من صلاتها في حياته. من هذه الحبكة المبتكرة يدخلنا الراوي إلى أزمنة عالم غرائبي تدور أحداثه المتخيلة في جغرافيا الساحل الشرقي السعودي، وتحديداً داخل أسرة عملت أربعة عقود وأكثر في مجال استوديوات التصوير الفوتوغرافي.
في «كونيكا 19» هنالك مضخة قصصية لا تتوقف برفقة حكّاءٍ أثبت قدرته على امتلاك ملكة القص، إذ لكل شخصية رئيسة حكاية نتنقل بين أزمنتها في بنيان سردي متداخل ذاهباً وإياباً في الزمن. غير أن هذا لا يعني تراجع الجانب اللغوي، فثمة لغة وصفية مرئية ووقفات تأملية تظهر من مكان لآخر في النص، تماماً كضربات الفرشاة على لوحة العمل التشكيلي، وهذه الضربات هي مجازات أو إشراقات تأملية، كأن يقول الراوي البطل وهو ينظر لأشياء والده الشخصية التي تركها ورحل ثم يعبر بنبرة لا تخلو من الحسرة بأن الإنسان ما هو إلا كائن هش وهو من الهشاشة والضعف بأن تعيد الطبيعة تدويره بينما تلك الأشياء التي صنعها بيده تبقى إلى الأبد. أو أن يصف لحظة ما بعد موت الأم بالقول: «بعد موت أمي، شعرت كأن ذلك الحبل السري الذي كان يربطني بها جنيناً، قد قطع للتو، اهتزت قناعاتي الكبرى، وأنا أدخل رحلة صمت غريبة أبعدتني عن كل اتصال بهذا العالم».
منذ البداية يبدو التماسك في رواية «كونيكا 19» جلياً وهو ما يشي بنضج وإدراك علي سعيد بوعورة الأرض التي يطؤها، لهذا نلاحظ خفة السرد وتوازنه وهو يستلهم من مهنة بطل الرواية (مصور ومحمض صور فوتوغرافية)، الشكل الذي سيكون عليه العمل الموزع على صور متعددة هي بمثابة أبواب تفتح وتغلق على فصول الرواية الـ19.
ولأن الصور هي ذاكرة، نتحرك بصحبة الرواية إلى أزمنة الثمانينات والتسعينات من الدمام والظهران والكويت إلى مدينة كولونيا في ألمانيا الغربية، وذلك في رحلة بحث متواصلة مع البطل لمحاولته كشف لغز الأب.
أخيراً، يمكن تفسير القدرة على شد القارئ في رواية «كونيكا 19» في تجربة صاحب كتاب «الحقيبة الجلدية» بأن سعيد استثمر تجاربه في كتابة السيناريو السينمائي وأيضاً عمله في الصحافية ليأخذ الرواية لمنطقة تنأى عن الملل، بصحبة لغة مرئية مشوقة ستزيد من فرص المتعة لدى قرّاء هذا النوع من الأدب الروائي.
إقبال عبيد- كاتبة ومترجمة كويتية والمقال للحياة
تعليق واحد