الانسان وسلطة الزمن..«أهل الكهف» / ناصر الحرشي
أهل الكهف» هي مسرحية لتوفيق الحكيم نشرت عام (1933). وتعتبر هذه المسرحية الدينية من اشهر مسرحيات الحكيم على الإطلاق. وقد لاقت نجاحا كبيرا وطبعت هذه المسرحية مرتين في عامها الأول، كما ترجمت إلى الفرنسية والإنكليزية والإيطالية، وهذا أكبر دليل على شهرتها. والجدير بالذكر أن المسرح القومي افتتح بها نشاطه المسرحي، فكانت أول العروض المسرحية المعروضة فيه هي «أهل الكهف» وكان ذلك عام (1935). وقد أخرجها رائد المسرح زكي طليمات. ولكن للأسف كان الفشل حليفها واصطدم الجميع بذلك حتى توفيق الحكيم نفسه، عزا ذلك إلى سبب وجيه كونها كتبت فكريا ومخاطبة للذهن ولا تصلح أن تعرض عمليا.
وجد توفيق الحكيم قصة أهل الكهف في القرآن الكريم، وفي تاريخ المسيحية، حيث فر نفر من المسيحيين الاوائل من بطش الإمبراطور الروماني الوثني المتعصب دقيانوس الذي حكم بين (249 م و251م) وآووا إلى كهف ناموا فيه (300 سنة) ثم بعثوا إلى الحياة في عصر الإمبراطور المسيحي الصالح تيدوسيوس، الذي تولى عرش الامبراطورية الشرقية في ما بين (408 م و450م). وكان بعثهم استجابة من الله لدعاء هذا الامبراطور الذي طلب من ربه أن يظهره على برهان محسوس لحقيقة البعث. فبعث الله اولئك الفتية. ولكن توفيق الحكيم يأخذ بما ورد في القرآن الكريم حيث جعلهم ينامون ثلاثة قرون وتسعة أعوام لا مئتي سنة، كما ورد في التاريخ المسيحي. وقد أخذ الشخصيات مما ورد في تفاسير النسفي والبيضاوي والطبري والزمخشري ( مرنوش، يمليخا، مشلينيا والكلب قطمير) وزاد عليهم شخصيتي (بريسكا والمربي غالياس).
تدور أحداث هذه المسرحية حول محور أساسي، وهو صراع الإنسان مع الزمن، وهذا الصراع بين الإنسان والزمن يتمثل في ثلاثة من البشر يبعثون إلى الحياة بعد نوم طويل، ليجدوا أنفسهم في زمن غير الزمن الذي عاشوا فيه من قبل. وكانت لكل منهم علاقات وصلات اجتماعية تربطهم بالناس والحياة، وتلك العلاقات والصلات التي كان كل منهم يرى فيها معنى حياته وجوهرها. وعندما استيقظوا مرة أخرى يسعى كل منهم ليعيش هذه العلاقة الحياتية، لكنهم سرعان ما يدركون أن هذه العلاقات قد انقضت بمضي الزمن، الأمر الذي يحملهم على الإحساس بالوحدة والغربة في عالم جديد لم يعد عالمهم القديم. وبالتالي يفرون الواحد تلو الآخر إلى كهفهم مؤثرين موتهم في داخله على حياتهم في ذلك الزمن المختلف.
تتمحور أحداث الفصل الأول حول حدث رئيس وهو استيقاظ الفتية من نومهم وإحساسهم بالوهن والضعف والإنهاك الجسدي. تساؤلهم حول المدة الزمنية التي قضوها نياما داخل الكهف، ثم تكليف (يمليخا) بإحضار الطعام، حيث قابل هذا الأخير أحد الصيادين، ففزع الصياد من مظهره الغريب، وفراره بعد أن قدم له نقودا من عهد الملك دقيانوس. وصول الخبر إلى أهل المدينة عن طريق الصياد ومجيئهم إلى الكهف بحثا عن الكنز الذي اعتقد الصياد أن يمليخا عثر عليه. وما رافق ذلك من فزع أهل المدينة من منظر الفتية ثم خروجهم من الكهف هربا لإخبار الملك.
الفصل الثاني: وصول الخبر إلى الملك وإحساسه بالسعادة لظهور أهل الكهف في عهده بعد أن أخبره غالياس أنهم قديسون من زمن الملك الطاغية دقيانوس. ثم إحضار أهل الكهف إلى القصر واحتفاء الملك بقدومهم. استئذانهم من الملك ليسمح لهم بمغادرة القصر حيث أراد يمليخا الاطمئنان على أغنامه التي تركها ومرنوش اراد الاطمئنان على زوجته وابنه.
أحداث الفصل الثالث: صدمة مرنوش بموت ابنه وزوجته واكتشافه الحقيقة ورجوعه إلى القصر ليخبر ميشلينيا بالخبر ليدعوه للحاق به إلى الكهف. التقاء ميشلينيا ببريسكا. واعتقد بأنها هي القديسة التي أحبها وحاول تذكيرها بالعهد الذي قطعته على نفسها بأنها لن تتزوج سواه، ثم صده من طرف الأميرة دفعه إلى مغادرة القصر لكي يلحق بصاحبيه في الكهف.
أحداث الفصل الرابع: استيقاظهم بعد شهر من عودتهم للكهف وتحاورهم حول ما حدث، معتقدين أنه مجرد حلم. ثم موت يمليخا ومرنوش وتشبت ميشلينيا بالحياة. وتأتي بريسكا إلى الكهف وتعترف بحبها لميشلينيا، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها بعد إحساسه بالسعادة والفرح. وأخيرا قرار بريسكا البقاء في الكهف ليغلق عليها برفقة القديسين وتموت معهم. ثم يعود توفيق الحكيم ليخبر القارئ بقصة الحب الجارفة التي جمعت بين الوزير ميشلينيا والأميرة المسيحية بريسكا ابنة دقيانوس قبل رقدته الطويلة هو ورفاقه. أما بعد بعثهم من جديد وبعد قضاء ليلة في القصر بقي ميشلينيا ينتظر حبيبته في القصر، وهو يعتقد أن الملك المسيحي الذي وجده قد خلف دقيانوس وجلس على العرش مكانه، ونصب نفسه قيما على الأميرة بريسكا. اما ( مرنوش ) فسرعان ما عاد إلى القصر ليخبر ميشلينيا بالحقيقة المروعة التي اكتشفها، وهي أن زوجته وولده، ماتا منذ ثلاثمئة سنة. فقد توفي ولده شيخا هرما في سن الستين مات قبل أن يفرح بهديته التي كان يحملها إليه، واقتنع في آخر المطاف أن لا شيء أصبح يربطه بهذا العالم. هذا العالم مخيف وهذه الحياة مرعبة لا مكان له فيهما فيعود إلى الكهف مفضلا الموت. أما ميشلينيا، فقد أصر على البقاء في القصر حتى يقابل حبيبته بريسكا، التي جاءت وهي تمسك بيمينها نسخة من الإنجيل التي كان قد أهداها لجدتها وتلبس في عنقها صليبا ذهبيا كان قد أهداه أيضا لجدتها، ما أوهمه بأنها هي حبيبته ابنة دقيانوس، وصارت تحاوره لكي يفهم فارق الزمن بينهما، وأنه كان يعشق جدتها وهو يرى الشبه عجيبا جدا. ورغم اطلاعه على الحقيقة وهي أن بريسكا، التي كان يعرفها ماتت منذ ثلاثمئة سنة وأن التي يظنها بريسكا هي حفيدتها. فقد بقي متمسكا بموقفه. وأنكر ما عرف من حقيقة مؤلمة وتعلق بهذا الوهم لبعض الوقت، ولم يسارع إلى العودة كما فعل صاحباه، وحاول بكل إصرار وعناد أن يستميل إليه بريسكا، ابنة الملك المسيحي تيدوسيوس. يذكرها بأشياء لا تعرفها وبوعود لم تسمع بها. ويسترسل في مغازلتها، وهو يحسبها حبيبته القديمة. ثم تبين له أنها حفيدة حبيبته، وتحول عن هذا الوهم إلى الحقيقة.
ويدرك هو الآخر أن قلبه لم يعد هنا وأنه لا يصلح للحياة في هذا العصر، فقد ولّى زمانه وتبدد الوهم وخضع للأمر الواقع، وآثر الموت على الحياة، كما فعل رفيقاه. بيد أن الحفيدة أحست أنها أحبته فلحقت به لتموت معه مخبرة مربيها غالياس، إذا سأله الناس عن قصتها بان تقول لهم بانها ليست قديسة وإنما هي امرأة أحبت. استعان توفيق الحكيم في تحديد مكان وزمان المسرحية بالشروح والتفسيرات لهذه الآيات من متون تراثية، بعضها إسلامي والآخر مسيحي. كما رجع إلى كتاب «انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية» لجيبتون. وقد وقعت هذه الأحداث زمن دقيانوس، كما سبقت الإشارة حيث اضطهد المسيحيين. وقد هرب كثير منهم من مواجهته. وتذكر الروايات أن عددا من أشراف الروم لجأوا إلى كهف في مدينة طرسوس، وهناك ناموا أكثر من ثلاثمئة سنة.
اختار المؤلف من بين شخوص أهل الكهف ثلاث شخصيات ليكونوا أبطال مسرحيته. وهو يعتمد في ذلك على الحرية التي تركها القرآن الكريم له، حيث اختار صاحب المسرحية من بين هذه الأسماء أخفها على السمع العربي. وهم مرنوش الوزير صاحب يمين الملك، وهو يمثل العقل والمنطق. وميشلينيا صاحب يسار الملك، وهو يمثل العاطفة والاندفاع. ثم يمليخا الراعي، وهو يمثل البساطة والإيمان الساذج. ثم كلبه قطمير وقد ربطه المؤلف بالراعي ربطا حياتيا، وأقام بينهما وحدة عاطفية. إذ يعد إحدى الشخصيات الرئيسة في المسرحية، ويعيش فيها الصراع النفسي والقلق الوجودي الذي يعيشه أصحاب الكهف في مواجهتهم لعالمهم الجديد. على الرغم من الإنتاج الأدبي الغزير للحكيم، الذي يجعله في مقدمة كتاب المسرح العربي، وفي صدارة رواده، فإنه لم يكتب إلا النزر القليل من المسرحيات، التي يمكن تمثيلها على خشبة المسرح ليشاهدها الجمهور. لأن معظم مسرحياته كانت من النوع الذي يمكن أن يطلق عليه المسرح الذهني، الذي كتب ليقرأ. فيكتشف القارئ من خلاله عالما من الرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع لتسهم في تقديم رؤية نقدية للحياة والمجتمع، تتسم بقدر كبير من الوعي والعمق. وهو يحرص على تأكيد تلك الحقيقة في العديد من كتاباته، ويفسر صعوبة تجسيد مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح فيقول «إنني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن، وأجعل الممثلين أفكارا تتحرك في المطلق من المعاني، مرتدية أثواب الرموز، لهذا اتسعت الهوة بيني وبين خشبة المسرح، ولم اجد قنطرة تنقل مثل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة».
اختار توفيق الحكيم مدينة طرسوس مكانا لأحداث المسرحية، مستبعدا رواية الطبري التي تذكر أن اسم المدينة هو أفسوس، واستند المؤلف في اختياره هذا إلى رواية أخرى ذكرها الزمخشري والبيضاوي من أنه قيل إن مدينتهم هي طرسوس، ولعل ما دفع الكاتب إلى هذا الاختيار هو أن مدينة طرسوس متواردة لدى العرب القدماء والمحدثين على السواء. فهي ترتبط بتاريخهم القديم عندما كانت هذه المدينة تمثل الحدود بين العرب والروم. ولما كان المؤلف يريد أن يكتب تراجيديا إسلامية مرتبطة بالعرب، فقد أراد أن يحيطها بالجو المعروف لديهم.
والأماكن في فصول المسرحية هي كهف وادي الرقيم والمدينة وقصر الملك. ينقسم زمن المسرحية إلى قسمين: الأول ما قبل الحدث بثلاثمئة سنة عصر دقيانوس الملك الوثني، والثاني زمن الحدث ما بعد دقيانوس، أي عصر تيدوسيوس ويرتبط زمن المسرحية بالحدث ارتباط كبيرا، حيث برزت صورتان صورة للعصر الذي عاش فيه أصحاب الكهف قبل نومهم والصورة الثانية للعصر الذي استيقظوا فيه وما استتبع ذلك من أحداث مرتبطة بهذا التغير الزمني. لقد برز الجانب التراجيدي في مسرحية «أهل الكهف» في عدة مواقع أهمها: بعث أهل الكهف بعد رقدتهم الطويلة ثم موتهم في آخر المسرحية. ارتباط الوزير مرنوش بزوجته وابنه ثم اكتشافه لموتهما. علاقة الحب المستعرة بين الوزير ميشلينيا والأميرة بريسكا ابنة الملك الوثني دقيانوس، ثم اكتشافه أن حبيبته ماتت وأن من يراها أمامه هي حفيدتها. اكتشاف الثلاثة حقيقة نومهم الطويل وتيقنهم من ضرورة العودة إلى الكهف ليموتوا فيه بعيدا عن هذا العالم الغريب الذي لا ينتمون إليه. قرار بريسكا ابنة الملك المسيحي تيدوسيوس البقاء مع ميشلينيا لتموت معه داخل الكهف بعد إغلاقه عليهم. ينقسم الحب المرتبط بالشرعية في هذه المسرحية إلى قسمين:
قسم يصور علاقة الحب الزوجي داخل الإطار الأسري، وقسم آخر يصور محاولة الوصول بالحب إلى الحياة الزوجية. وتتناول مسرحية أهل الكهف تصوير علاقة الحب الزوجي، حيث ربطت العقل بالحياة الزوجية وجعل ممثل العقل فيها مرنوش، يرتبط في حياته بالمؤسسة الأسرية ارتباطا كبيرا، وهو وزير دقيانوس وساعده الأيمن في مذابحه ضد المسيحيين، ولكنه بعد أن تزوج امرأة مسيحية اعتنق هذا الدين الجديد إرضاء لزوجته التي كان يحبها. ويظهر في الحوار الدائر بينه وبين ميشلينيا في الكهف أنه كان متحررا من العقيدة المسيحية، وأنه لم يؤمن بها إلا لكونه يحب زوجته. بلغة بعيدة عن الإنشاء والبلاغة وبلغة مسرحية رصينة صور عراب المسرح الذهني توفيق الحكيم أبطاله وهم في غالبيتهم ينتمون إلى الطبقة الحاكمة وهم أكثر حرية في قول الوقائع وبسبب سيف الزمن المسلط على رقابهم فضلوا انفصالهم الكلي عن عالم الغرابة.