ثقافة وفنموضوعات رئيسية
حليب الضّحى مجموعة قصصيّة بلون أدبيّ متميّز/ هناء عبيد
حليب الضّحى مجموعة قصصيّة قصيرة جدًّا للأديب المقدسيّ محمود شقير، صدرت الطّبعة الأولى عام ٢٠٢١ عن مكتبة كل شيء -حيفا- ناشرون. تقع الرّواية في ٢٣٨ صفحة من الحجم المتوسّط. قام بتصميم المجموعة السّيد شربل إلياس.
ليس غريبًا أن يكون إهداء الأديب محمود شقير للقدس وهي الحاضرة دومًا في وجدانه، وربّما كان ذلك من أفضل ما يمكن أن يشمله أي عمل أدبي، فالقدس الشّامخة لا بدّ أن تتربّع في كلّ عمل أدبيّ لتظلّ حاضرة في الأذهان حاضرًا ومستقبلًا، ولن يبرع في الحديث عن القدس أكثر من ابنها البارّ الّذي يعرف كلّ شبر من زقاقها وحاراتها وشوارعها، ولن يكون هناك من يرسم هذه المدينة ببراعةٍ مثل قلمه الصّادق المتمرّس على وصف جمال وبهاء هذه المدينة المقدّسة المميّزة.
الإهداء امتدّ ليشمل حفيدة الأديب الخامسة عشرة ريتا وهي أحد أحفاده الّذين هم امتداد لتاريخه، وكأنّه يريد القول أننا باقون هنا منغرزون مهما مرّ الزّمن ومهما تكالبت الظّروف علينا، فأحفادنا سيظلّون شوكة تغصّ حلق مخططات العدوّ والاحتلال البغيض مهما طال الزّمن.
ابتدأ الأديب قصصه بإشارة تمّ اقتباسها من روايته ظلال العائلة، وكأنّ فيها تمهيدًا إلى أنّ القصص قد تكون امتدادًا للرواية، أو أنّها تشمل أبطال تلك الرواية، والإشارة وحدها تشير إلى مدى ذكاء الكاتب في اختزال أحداث أليمة في كلمات أو جمل محدودة، حيث يقول:”نظرت إليّ بعينها الباقية، ابتسمت وقالت نتبنّى طفلة
مدخل يتّسم بالذّكاء، من خلاله نتخيّل أحداث كبيرة قد مرت بليلى لتجعلها بعين واحدة باقية، حتى وإن لم نقرأ الرّواية المشار إليها.
القصّة الأولى في المجموعة عنوانها قيس، من خلالها نتعرّف على أحد أبطال هذه المجموعة القصصيّة، وهو ابن منّان أحد أبطال رواية فرس العائلة. يتزوّج قيس من نفيسة، لكنّها لا تستمرّ معه فيطلّقها حسب رغبتها ليتزوّج من ليلى الّتي أحبها؛ وهي معلّمة تعمل داخل أسوار القدس في مدرسة أهليّة.
الأماكن في حليب الضّحى
لا شكّ أنّ للأماكن مكانتها الكبيرة في أدب محمود شقير، و تحتل القدس الحيز الأكبر في هذه المجموعة القصصيّة، وحتّى تكون حاضرة على مدى صفحات السّرد، تم تسمية ابنة ليلى وقيس المتبنّاة بقدس، فالقدس في أدب شقير هي أمّنا وهي أختنا وعمّتنا والخالة والخال، القدس هي النّساء العاشقات، هي الأسيرات هي أم الشّهداء، هي حكايات الصّباح والمساء، هي التّاريخ الصّادق الّذي لا يكذب، هي حديث قيس وليلى اليوميّ، هي الشّوارع والأسواق والحارات والأزقّة والّشبابيك المغلقة على الأسرار.
ونتنقل من خلال المجموعة من مكان إلى آخر لنجدنا في راس النّبع وباب العامود لنصل إلى يافا وبحرها وشواطئها ورملها وسمكها ثمّ ما نلبث أن نجوب أريحا لنتعرّف على بحرها ومطرها وهوائها ونجومها وديرها النّائم في حضن الجبل.
الأماكن هي عبق الذاكرة الّتي تطوف بها أرواحنا باشتياق وحنين، فكيف لا تكون حاضرة في وجدان ابن الأرض الّذي ارتبطت روحه بجذورها!
معاناة أهل فلسطين
القصص كانت تصويرًا دقيقًا للمعاناة الّتي يعيشها الفلسطينيون تحت ظلّ الاحتلال الغاشم، وكأنّها يوميّات فلسطينيّة، ترسم لنا تفاصيل حياة الفلسطينيّين بما فيها من عذاب وقهر وظلم، حيث تصوّر وحشيّة الجنود في معاملتهم وقسوتهم
لم تترك القصص معاناة فلسطينيّة إلّا وتناولتها، فالمستوطنات الّتي بنيت على الأراضي الفلسطينيّة لتفصلنا عن جذورنا نعيشها في قصّة طريق مريم حيث يقول:
“قيل لي أنّ مستوطنة للغرباء بنيت على أرضها، وهي تتمدد فيها وعليها مثل خلايا السّرطان”ص ٣٧
الأسر والسّجن الّذي يتعرّض له الفلسطينيّون بحجّة أفكارهم الهدّامة، جاء في قصّة السّجن، الّتي يسردها لنا محمد الكبير الّذي تحدّث لمريم عن مدة السّجن الّتي سيقضيها فيه، والّتي تصل إلى ١٩ عاما ص٣٨
وتبقى قضيّة جثامين الشهداء المحتجزين بالثّلاجات معلّقة، لا يعرف عمق حزنها غير ذوي الشّهداء، أراد شقير أن يطلعنا على تلك القضيّة المسكوت عنها في قصّته نداء حيث يقول:
“والجثامين المحتجزة في ثلاجات الأعداء؛ جثامين الشهداء تصغي بانتباه إلى النداء، نداء المطر.ص ٦٠
وتستحقّ أمّ الشّهيد كلّ مساحات الأدب فنجدها متربّعة بحزنها في قصّة استثناء ص٦١
وفي قصّة مرايا المساء، تنعكس عن المرايا البيوت الّتي تهدمها جرّافات العدوّ لتخلّف عائلات بلا مأوى تلتحف السّماء وتفترش الأرض، تلك المعضلة الّتي لن تتوقّف يومًا ص٦٦
أمّا في قصّة “نقصان” فيذكّرنا شقير أنّ الأسر الفلسطينيّة لن يثبت عددها يومًا، فالنّقصان مآل أفرادها الّذين يتناقصون بفعل رصاص الجنود الغرباء المحتلّين،
أطفال الحجارة الّذين يرهبون العدوّ، لا بدّ من أن يذكرهم التّاريخ من خلال الأدب، فكان لهم ذلك من خلال قلم تعوّد على رصد الأمجاد.
وكما يعاني الفلسطينيّ تعاني معه مدنه، فكم هي صعبة الحياة في القدس حيث الغلاء وصعوبة الحصول على رخص البناء
والشقوق الّتي تتزايد في البيوت يومًا بعد يوم بسبب الحفر الّذي يمارسه المحتلّ تحت القدس
أفراح أهل فلسطين
ورغم الحزن الّذي يعيشه أهل فلسطين، إلّا أنّ الأديب لم يتوان عن ذكر الأيام السّعيدة الّتي يخلقها الفلسطينيّ من بين أنياب الألم، فهناك قصص الأمل والحياة والفرح وربّما كانت قصّته هديل بلغتها الشّاعرية واختلاط الأمل والألم فيها خير دليل على ذلك حيث يقول:
“قلت: لك ولي رونق الصباح ورائحة البن وغبطة النوافذ المشرعة، وهديل البنات الذاهبات إلى المدرسة
قالت: لك ولي هذا الهدوء الّذي قد تعصف به الطائرات ولنا هذا النسيم العليل ودفق الحياة”
ثم يفرد قصّة للعرس الفلسطينيّ عنونها بعرس، حيث أفراح النّسوة والأغاني الشّهية ص٦٤
المرأة في قصص محمود شقير
قضايا المرأة واضطراباتها النفسية، تحتلّ مكانتها في قصص الأديب شقير، حيث يتوغّل في عمقها بكل أريحيّة ودون عناء، ففي قصّة “ندم” نجدنا نستشعر صراعات ليلى النفسيّة حين تحسّ بالنّدم لزواجها من قيس الّذي شاءت الأقدار أن تحرمه من امتدادٍ عائلي، فالإنجاب هو حلم كل سيدة، وتستمر معاناتها وأحلامها بالعائلة الكبيرة في قصّة “أولاد وبنات”
لم تخل القصص من التعرض إلى العادات والتقاليد الّتي تخضع لها المرأة، منها مثلًا أن يكون العريس المتقدّم للزّواج منها من ذوي الحسب والنّسب، وهذا مالمسناه في غضب والد ليلى الّتي رفضت أصحاب النّسب لتتزوّج من قيس سائق سيّارة أجرة.
تعدديّة الأصوات
تتعدد الأصوات في مجموعة حليب الضّحى، فتارة يتحدّث إلينا قيس الّذي نتعرف من خلاله على حبيبته ليلى وطليقته نفيسة لتعقبه ليلى في السّرد، لنتعرف على وجهات النّظر المختلفة من خلال تلك التعددية السردية، ثم نتفاجأ بمحمد الكبير وهو ابن منّان الّذي تعرفت عليه من خلال رواية فرس العائله لنجده يحدّثنا من خلال القصّة المعنونة “اعتراف” عن ظلم أهل العشيرة له، فهو لم يعمل في الماخور في يافا كما كانوا يظنون، إنها القصص الّتي تصل الفروع بالأصول وتعبئ الذاكرة بالأرض والحنين إلى الماضي الّذي لن تنساه ذاكرة أيّ فلسطيني رضع من هذه الأرض، الانتماء يجري في الدّماء ويسقي الأرض حين الشّهادة، فلا مجال أن تنقطع هذه الأنفاس الثّائرة عن الذّود عن الأرض.
ثم يأتي محمّد الأصغر ليحدّثنا عن زوجته سناء العقيم وقصّة حبّهما وهكذا تستمرّ الأصوات بالحديث عن نفسها حتّى النّهاية.
الدّيانات في قصص شقير
تتلاقى الأديان في سرديّة محمود شقير، نراها متجلّية في قصّة مريم المسيحيّة الّتي يعشقها محمّد الكبير، ويطلق عليها معبودته الأولى والأخيرة، ففلسطين تتعانق فيها المساجد والكنائس وتتوحّد فيها الصّفوف على حبّ الأرض وعشق هوائها ومائها وسمائها.
أسلوب السّرد ولغة وشاعريّة النّص
القصص جاءت بأسلوب متميّز، فهي سلسلة من اليوميّات، ويمكن أن تتشّكل منها رواية، رغم أنّ كلّ قصّة تنفرد بفكرة معيّنة، وهو أسلوب لم أصادفه في أيّة مجموعة قصصيّة من قبل، كأنّها حلقات تبدو منفصلة ظاهرًا، لكنّها مربوطة بإحكام لتشكّل سلسلة متينة متشابكة من أحداث تصلح لأن تكون مخطوطة وثائقيّة تاريخيّة تشهد على معاناة الشّعب الفلسطينيّ؛ أي أنّها مجموعة متشابكة من الألوان الأدبيّة لكنّها جاءت بصورة قصص قصيرة جدًّا، وهذا ما جعل منها عملًا أدبيًّا متميّزًا.
تميّزت تقنية السّرد بالقدرة الفائقة على الاختزال، فمثلًا يحدّثنا الأديب شقير عن سيرة كاملة لعائلة من خلال قصّته المعنونة ب “ليلى” إذ استطاعت بضع جمل أن توضح لنا معاناة ليلى الّتي هُجِّر أجدادها من يافا قسرًا حينما لاحقتهم رصاصات العدو ليستقر الأمر بهم في القدس، ثمّ زواجها من سائق التاكسي قيس؛ يا له من ذكاء سرديّ ذاك الّذي يختزل تاريخ عائلات من خلال بضع عبارات رصينة متينة شاعرية!
لغة الأديب محمود شقير قويّة متينة، تتبع السّهل الممتنع، تميّزت بشاعريّة وانسيابيّة، بحيث جعلت من القراءة متعة رغم الألم الّذي يغلّف محتواها ومضمونها ففي قصّته المعنونة مناجاة تنساب الشّاعرية بوضوح
حيث يقول:
“ماذا أحضرت لي معك؟
قلت: أحضرت لك قلبي وعبق المدينة وقبضة من ذكريات”
عبارات شاعريّة تختزل الكثير
وتتجلّى الرّمزية والشّاعريّة في قصّة مشية لصّ حيث يقول:
“في المقبرة، بدا الموت محرجًا أمامنا لأنّه جعلنا ننقص واحدًا، ثمّ غادر المكان، وهو كما يبدو، أكثر تصميما على مزيد من أفعال النقصان” ص٥٩
وللفصول مساحتها الّتي تجلّت فيها الشّاعريّة لتتدفّق بغزارة وانسيابيّة حيث الحواريّات الّتي جرت بين ليلى وقيس، لتأخذنا معها كنسمة رقيقة في مساء ربيعي، حتّى وإن كنّا تحت وطأة قسوة البرد والعراء.
فبالرّغم من الدّموع والحزن والبرد والظّلم نجدنا نقرأ بنعومة نصوصًا كهدير النّّهر وعطر الياسمين، إنها اللغة الآسرة الّتي تستطيع التنقّل بين الفصول لتبهجنا بسحر الألوان ومياه الأمطار ولسعة البرد وصقيع الثّلج ودفء الصيف.
حليب الضّحى مجموعة قصصيّة قيّمة، تضيف ثراءً إلى رفوف المكتبات العربيّة عامّة والفلسطينيّة خاصّة.
المصدر: رأي اليوم