أرمين هو ميكانيكي لصيانة محركات السفن البحرية، امتاز بإتقان عمله. كانت مهماته حسب اتفاقية عمل مع كل شركة على حدة، فهناك عقود مع شركات لفترة طويلة وعقود قصيرة. وعقده الأخير كان لمدّة ستة أشهر، مع شركة كبيرة ومعروفة بسفنها في كل أرجاء العالم. تتنقل بين قبرص واليونان وفرنسا وغيرها من الموانئ.
في إحدى رحلاته، وخلال تواجده قرب محرّك السفينة، مرّ بجانبه رجل قصير القامة، بوجه متجهم دميم، فقام أرمين بتحيّته: السلام عليك سيدي… فردّ الرجل باقتضاب واستمرّ في طريقه.
لم يهتم أرمين لعدم مبالاة الرجل، فهو يعتبر التحية واجبًا، خاصّة أنه نشأ في بيئة عربية، تحتم عليه التحية لكل من يلقاه وجها لوجه.
بعدها، تمّ استدعاء أرمين لغرفة المراقبة في السفينة من قبل أحد البحارة، وعندما دخل، شاهد نفس الرجل الضئيل فسأل البحار: من يكون هذا الرجل ذو النظرة الجامدة القاسية؟ فأجابه: انه مدير قسم الميكانيكيات في السفينة، يعني مديرك… فدهش أرمين وقام بتحيته كالمرّة التي سبقتها، فتوجه اليه المدير وأعطاه مهمة ليقوم بها. أخذ أرمين المهمة بهدوء تام وأتقنها على أحسن وجه.
في اليوم التالي، التقى المدير مع أرمين وقال له: لقد أعجبني انجازك للمهمة… وقرأ أرمين في عيني المدير عبارات الإعجاب، وتجاذبوا الوانا مستملحة من الحديث.
سأله المدير عن اسم عائلته ساخريان، فأوضح أرمين بأنه اسم أرمني. وعرف أرمين بأن مديره من أصل بولندي، ومعروف عن البولنديين بين البحارة أنهم بخلاء جدًّا.
أخذ أرمين يغني له باللغة البولندية، ثم طلب منه حبّة ملبس في اللغة البولندية، فاستغرب المدير هذا الطلب، واعلمه أرمين بأنّه في صغره عاش في مدرسة داخلية للرهبان البولنديين وقد عرف القليل من هذه اللغة وخاصة الجملة التي رددها الأولاد في المدرسة: “أعطيني حبة ملبس”.
توطدت العلاقة بين أرمين والمدير، وكان بينهم احترام متبادل، مبني على إتقان العمل في قسم الميكانيكيات أولاً وأخيرًا، في نفس الوقت الذي كان جميع العاملين في القسم يهابون هذا البولندي جدًّا.
*****
قبل أن تصل السفينة قبرص وهي آخر محطاتها في هذه الرحلة، وينتهي العقد بين أرمين والشركة، توجّه إلى مديره وطلب منه توصية خطيّة على عمله كبحار في السفينة، لأنّه عازم على أن يتقدم في هذا المجال، وقال أرمين لمديره بوضوح: أعطني توصية فقط إذا رأيت بأنني أستحقها… هزّ المدير رأسه وأجابه: سأفكر في الأمر.
في مساء اليوم الأخير للرحلة، استدعاه المدير إلى غرفته وقال لأرمين: هذه توصيتي، وإليك هدية مني صندوق بيرة وصندوق كوكا كولا. أصرّ المدير بأن يقبل أرمين الهدية، لأنّه يستحقها بجدارة.
شكر أرمين المدير وحمل هديته إلى غرفة الاستراحة لطاقم الميكانيكيات داعيا إياهم للشرب على حساب البولندي الذي نعتوه بالبخل والظلم. استغرب العمال الأمر، لكن أرمين أوضح لهم، بأنّ لكل إنسان شخصية مستترة، وما علينا إلا أن نملك المفاتيح للدخول إليها، فسرت الابتسامة الوادعة في اسارير وجوه العمال.
عتالة وغبرة
بفضل التوصية عمل أرمين في الميكانيكيات لسنوات طويلة في البحر، وبسبب غيابه المتواصل عن البيت، ساءت حالته الاجتماعية مع زوجته، فقرّر أن يترك العمل على السفن وأخذ يبحث عن عمل آخر يبقيه قريبا من بيته. إلى أن طلب منه صديقه، وهو مقاول ترميمات العمل معه، فأجابه أرمين:
– أنا لا أجيد العمل في العتالة والغبرة.
لكن صديقه شجّعه قائلًا:
حاليًا أعمل في ورشة لبيت أحد القضاة، وأنت تمر في مرحلة طلاق صعبة مع زوجتك، يمكنك أن تستشير القاضي في حل مشاكلك.
أعجب أرمين بالفكرة ورافقه إلى العمل. شاهد أرمين في بيت القاضي على الحائط صورًا لأجناس متنوعة وفريدة من الأسماك بدلا من أن يشاهد رفوفا من الكتب. فاستغرب الأمر، وبعد لحظات جاء رجل كهل وقدم لهم الشراب. وقد عرف أرمين أنه القاضي صاحب البيت فسأله في تشكك: هل عملت بحارًا في يوم ما يا سيدي؟
أجاب الكهل والابتسامة تداعب شفته:
كنت مدير عام شركة سفن معروفة جدا لها سفن في كل أنحاء العالم.
لم يصدقه أرمين، فأخبره بأنه هو أيضًا كان ميكانيكيًا على السفن، وليتأكد من صحة أقواله سأله:
– ما اسمك سيدي؟
– اسمي غيرشون.
– ما علاقتك بالسفن والأسماك وانت قاض؟
– أحببت البحر والسفن في شبابي. هل شاركت يا أرمين في اضراب السفن المعروف؟
عرف أرمين الرجل وعرف اسمه، وكان أرمين قد شارك في الاضراب الذي استمر طويلا، حيث اضرب عمال السفن وتوقفت السفن في وسط البحار ورفضت العودة الى البلاد، وانقطع البحارة عن أهلهم، وقد حاولوا إخماد الإضراب بإدخال الجيش للسيطرة على العمال ولم ينجحوا.
قال أرمين لغيرشون بصوت يختلج تأثرًا:
– الآن سأنتقم منك يا سيدي.
فأجابه غيرشون بلهجة صادقة:
– لا حاجة للانتقام، تعال اشرح لك ماذا فعلت لجنة العمال معكم وكيف خانت عمالها، نحن فقط وافقنا على مطالبهم.
عرف أرمين الحقيقة وبأن لا يد للقاضي في اضطهاد العمال، وطال الحديث بينهما وتطرقا لمواضيع شتّى، وتوطدت أواصر الصداقة بينهما، وقد عرف القاضي بأمر التوصية التي تلقاها أرمين من البولندي، وأخبره بأن هذا البولندي لا يعطي مثل هذه التوصية لأي شخص، فهو يعرفه جيدًا، وإذا أخذت هذه التوصية، فأنت شخص مميز. ثم سأله:
– هل انت مبسوط من عملك في الترميمات؟
– لا يا سيدي، أريد عملاً خفيفًا نظيفًا وأرجع إلى بيتي باكرًا، لكن ما من حيلة باليد.
– أي عمل تريد؟
– أفضل أن أعمل في البلدية كصنائعي، فلي يدان من ذهب.
– رئيس البلدية صديقي ونسهر معا في بيته بشكل دائم، فعندما كانت تصل كل سفينة إلى الميناء، كنا نقيم حفلات مرحة منشرحة وندعوه اليها كضيف شرف. هذه المرّة لن تكون توصيتك مكتوبة، فسأبلغ رئيس البلدية شفهيًا بأمرك، واعتبر نفسك منذ الغد عاملًا في البلدية.
كان هذا اللقاء العابر بالنسبة لأرمين مفتاح الفرج، وقد نال على أثره وظيفة محترمة في البلدية، فقال له صديقه مقاول الترميمات:
– يا لك من محظوظ، فأنت لم تعمل معي في الترميمات إلا ليوم واحد، وها أنت اليوم عامل صيانة محترم في البلدية، وأنا لا أجرؤ أن أتكلم مع القاضي سوى لتلبية طلباته في تحسين البيت.
أجاب أرمين وهو يبتسم ابتسامة الرضى:
– أن لكل إنسان شخصية مستترة، وما علينا إلا أن نملك المفاتيح للدخول إليها.
فسرت الابتسامة الوادعة مسراها العادي في اسارير صديقه.
توثقت العلاقة بين أرمين والقاضي وطالت لسنوات، وكان أرمين في كل مناسبة، يحمل له هدية رمزا لمحبته، وفي إحدى المرات، قالت له زوجة القاضي:
– لشدة غبطتي بمجيئك يا عزيزي لكن زوجي القاضي توفي منذ سنوات، فلم تحضر لي هذه الهدايا؟
فأجابها أرمين، وعلى وجهه ملامح الامتنان:
– لا أنسى المعروف الذي قدمه لي زوجك القاضي وانت كنت بجانبه، وما أقوم به ليس واجبًا بل من محبتي لزوجك الذي أدخلني إلى العمل في البلدية، واليوم انا متقاعد وأتقاضى راتبًا محترمًا بفضلكما.