فقدان شهية القراءة من أشد أمراض العصر فتكا بالذوق، والفكر، والصناعة اللغوية…
في العقود الماضية كان في الناس جوع إلى المطالعة، رغم بخل الأيام على الإنسان بوقت يخلو فيه مع الحروف…ولأن الكاتب بحاجة إلى أن يُقرأ، فقد جمع بين الانضباط للمبادئ، وحاجة المتلقي وشح وقته، فظهرت أجناس قصيرة تناسب المشاغل والمشاكل المتراكمة، وتزيح برفق ألسنة التصحر العلمي والتحجر الثقافي التي طمرت المواهب والأحاسيس، وشغلت الناس بالتافه الضار عن الراقي النافع…
تنتشر على جدران التواصل الاجتماعي اليوم مستنقعات وفطريات من أبوال أقلام نحيلة، لم تتجاوز مرحلة الرضاعة اللغوية، تزحف مجهدة على بطونها في الممرات المعزولة بعيدا عن وقار الجمهور الجاد…
الأقلام الصغيرة لا تدرك أنها تحتاج حفاظات سميكة تمنع الرشح…الأطفال يبولون ولا ينذرون، وأحيانا لا يعلمون…
لجأ بعض المعتكفين في محاريب الطبع والصناعة إلى الضغط والتركيز، تركوا لعاب القارئ الماهر يذيب كثافة النص ، ويضيء إعتام الظلال المزدحمة، واعِين تشابك اللحظات وتركيز حمولتها، وحاجة الناس إلى فترات تهوية، وإنعاش وتسخين، وانزلاق أحيانا عن الطريق، هروبا من رتابة المشاهد المتشابهة…
فأما البعض فبدل أن يطرب وينبهر، ينزعج ويضجر، ويبحث عن الحقول الملغومة وعصابات السطو والترويع في النصوص البريئة، بدل السكر بمفاتنها، وتتبع الظل والدفء والعسل وهمس الأطياف الجميلة، والأوتار الرقيقة تبوح للدنيا أسرار القمر، وأحاديث المطر… ذلك قدر التعساء القابعين في ظل القمامة حتى لا يروا رقص العطر والنور، وشغب الحمائم والعصافير، دعهم..دعهم إنهم لا يعقلون…
ما ذا بقي للقارئ اليوم بعد حساباته الصباحية، ومآسي فواتير الصرف المنزلي، والاتجاهات المحرمة والمحروسة بالدائنين، وحصار حسابه البنكي بالمتاريس الحمراء، كل أؤلئك جعلوا من إنسان اليوم منكوب وطن، وحضارة، وعولمة، فاقدا للشهية والذوق لا يميز بين صاب وسكر، محكوما عليه بالإقامة تحت الإكراه وراء قضبان العجز والحرمان، يلتحف كساء خلقا من الأحلام المخنوقة، يحتسي مع آماله المحطمة كأس الخيبات والنحس المنذر بساعة الاكتساح الرهيب…
تتراكم النصوص على بعضها، وتختنق في دواليب الزمن الأسود، تئن من وجع الآتي الذي لا يأتي، والوقت الذي لا يحين…وبين هياكل الأقلام المتكسرة منتحل يتمسح بِريق قلم مفروم الشفة،في لسانه لثغة، لا يبين ولا يفقه الناس ما يقول..والقارئ الأمي كلص عتمة يتهجى هراء صعلوك يروع بشعوذة فاشلة عذراء من قوافل الحنين، تُهَرِّبُ في شاطئ عينيها كلمة تمردت على المحتوى المخيط على مقاس النموذج المقدس، وصنمية النص المعصوم…