حَالَة سَأَم.. (قصّة قصيرة)/ د. محمّد محمّد خطّابي
14 مارس 2022، 15:15 مساءً
كانت أشعة الشّمس الشفقية التي دلق عليها المساء لونه الأورجواني تتعانق فيه الزرقة الفاقعة مع اللون الأحمر القاني،كان قرص الشمس المُذهّب المائل للمغيب ما زال يبدو في الأفق البعيد .
تقدّم “شعيب” بخُطىً وئيدة متثاقلة نحو حديقة عمومية صغيرة تقع على مرتفع يطلّ على البحر، أخذ مكانَه على أحد المقاعد الرّخامية ، أسند ظهرَه إلى جِذع شجرة عتيقة،وأخذ يسرح بنظره فى الشاطئ الجميل الواقع بين جبلين شاهقين، الذي يُطلق عليه أهلُ البلد ” الشاطئ المحروق”، تحوّل نظرُه إلى الصّخرة الكبيرة التي تتوسّط الشاطئ، التي طالما إرتادها وهو صغير،كان يجيد السباحةَ كالضفادع، ومن أعلاها كان يقفز إلى عرض البحر، تحوّل برأسه نحو الغابة الكثيفة التي تحوط بالسّاحل، تبدّت له موحشةً مقفرة، لم تعد كما كانت أيّام الصِّبا مُخضرّةً مُورقةً باسقة . لم يكن يهمّه من أمر هذه الدّنيا شئ، كانت آماله صغيرةً فى حجم مدينته الصغيرة ،لم تكن هذه الآمالُ تتخطّىّ مرتفعاتِ الجبال، والآكام المحيطةِ بالمدينة من كلّ جانب.
كانت الدّنيا بريئةً هادئة ، لم يكن يُشغله من متاعبها شئ على الإطلاق، لم يكن يَطيق المدرسة ، كانت بالنسبة له سجناً رهيباً ينغّص عليه متعةَ الطفولة ، وبهجةَ الحياة الطليقة ، ويحرمه من الإستمتاع بأجمل أوقات العُمرالبريئ، كان لا يستطيب من هذه الدّنيا سوى اللّهو، واللّعب بشتى ألوانهما.
-آه يا والدي العزيز كم بذلتَ من الجهد المُضني من أجلي، كم عَلَا سَوْطكَ وَصَوْتكَ وَنَزَلاَ عليّ نزولَ الصّاعقة، ولكن بدون جدوى.
الوعيد والتهديد كانا لا يزيدانه إلّا التعنّت، والفرار من الواجب، والمزيد من الإنغماس فى ملذّات الحياة التي تتواءم وعمرَه الصّغير.
كان والده يتمنّى له أن يُصبح مهندساً أو طبيباً عندما يكبر، بل أحياناً كانت تشطّ به الأحلامُ بعيداً فكان يقول له :
– فى يوم من الأيّام ستُصبح ذا شأنٍ كبير يا ولدي..!
* * *
منذ سنواتٍ وهو يعمل فى وَرْش لميكانيكا إصلاح السّيارات ، إنه عملٌ شاقّ ومضنٍ، ولكنّ ظروفَ الحياة الصّعبة ، أرغمته على إمتهان هذا العمل الذي قبله على مَضَض، وساعدته عضلاته القويّة على مزاولته ،وكثيراً ما تساءل :
– تُرى لو كنتُ واهنَ القوى ، ماذا كنتُ سأصنع..؟
ظلّ يحدّق فى صفحة البّحرالصّافية ، التي كانت تبدو له كبحيرة هادئة طفقت تتلألأ بعد أن علتها حمرة مذهّبة لإنعكاس لون الغروب عند الشّفق عليها ، وبين إنحناءات أخاديد الجبليْن العالييْن طفق هيدبٌ من ضبابٍ خفيفٍ يَتَدَلَّى ويتدنّى، وَبَدَا وكأنّه يطفو على صفحة الماء.
خُيّل إليه أنّه قد تأخّرعن العودة إلى البيت ، قام لتوّه ، كان يرتدي لباسَ العمل، وقد علقتْ به مختلف أنواع الزّيوت،ومواد التشحيم من جرّاء إحتكاكه بالأرض فى كلّ حين تحت بطون السيارات المهترئة فى ورشة عمله ، كانت تفوح منه رائحة غريبة ،إشمأزّ من نفسه فقرّر العودة إلى البيت ، وضع يديه فى جيوب سُترته فتحسّس محفظتَه الصغيرة التي لم يكن بداخلها سوى بطاقة تعريفه، ضغط عليها بأصابعه بشدّة، وتقدّم مُثقلَ الخُطى نحو مسكنه مطأطئَ الرأس، شاردَ الذهن، كئيباً حزيناً،مهزوماً،مخذولاً، هدّه المللُ والضّجرُ من الرّتابة وتكراراليوم ما فعله بالأمس، وأوّل أمس، يرمي بعينيْه هنا، وهناك،وهنالك علّهما تقعان على شئٍ ثمينٍ بين نفايات الشّارع ، ولكنّه لم يعثر أبداً على شئٍ ذي قيمة .
* * *
رَمَقَ تجمّعاً غفيراً بالقرب من السّاحة الكبرى المُقابلة لملعب كرة القدم بالمدينة الذي يقع فى الطريق إلى بيته ، دفع به الفضولُ ليعرفَ ماذا كان يَجري هناك ، فإذا بالناس قد تجمّعوا وتجمهروا للتفرّج على عرْضٍ سينمائيٍّ كان يُقدَّم بالمجّان فى الهواء الطلق تقيمه بعضُ القوافل السّينمائية المتنقلة بين الوقت والآخر فى المدن،والقرى، والمداشر النائيّة . إندسّ بين الجموع وقد شعر ببعض السّعادة تغمره منذ أن ترك تلك الورشة اللعينة التي لا ينقطع فيها الضّجيج،والصّخب، والدّأب، واللّجب، والضوضاء من أوّل النهار إلى أوّل الليل، تركّزت عيناه على الشّاشة الكبيرة الموثوقة إلى عموديْن كبيريْن يتوسّطان السّاحة، وصار يتتبّع ما كان يجري عليها من أحداث، كان فقط يتتبّع الصّور، ولم يكن يفهم شيئاً من الحوار الدائر لكثرة الزّحام، وكأنّ المدينة كلّها قد تجمّعت هناك. صاح فيه بعضُ الواقفين وراءه من المتفرّجين :
– إبتعدْ قليلاً لقد حجبتَ عنّا الرّؤية..
إلتفت نحو الجهة التي جاء منها الصّوت، فإذا به شاب هزيل الجسم ، نحيف البِنية ، غائر العينيْن يرتدى معطفاً رثّاً، وطاقيةً بالية يُخفي بها مرضاً برأسه ،لم يجبه، بل رضخ لأمره وغَيّرَ مكانَه . إندسّ ثانيةً بين جموع أخرى حاشدة من البشر، ولكنه ما أن إستقرّ بمكانه الجديد حتى إنتهى إليه صوتٌ آخر يصيح :
– ألم تجد مكاناً غيرَ هذا..؟ نحن هنا منذ الظهيرة !
إلتفت نحو صاحب الصّوت، فإذا به فى حالة ليست أحسنَ من حالته ، فلم يعره إهتماماً هو الآخر، وغيّر مكانَه للمرّة الثانية فى هدوه بعد أن شقّ طريقَه وسط الجموع المحتشدة باحثاً عن مكان آخر ، وما أن رفع رأسَه من جديد ليتتبّع الفيلم حتى إنتهى إلى سَمْعِه صوتٌ ثالث، وبنبرة غاضبة هذه المرّة، صاح فيه :
-إبتعدْ من هنا أيّها القذر..
إلتفت خلفه فإذا برجلٍ سمين الخِلقة فى الثلاثين من عمره ذي عينين جاحظتين، ووجنتين محمرّتين، رمقه بنظرة فاحصة ، ثمّ أدار رأسه نحو الشّاشة من جديد، ولم يأبه بكلام الرّجل إليه بل ظلّ واقفاً بثبات فى مكانه ، وما هي إلاّ لحظة حتى شعر برفسةٍ شديدةٍ على ظهره كادت تفقده صوابَه، غَلِيَ الدمُ على إثرها فى رأسه ، لم يتمالك نفسَه، ولمْ يَدْرِ كيف إستدارَ وَهَوَى على أمّ رأس الرّجل بضربةٍ قوية أردته طريحاً على الأرض فى الحين، إلتفت إليه الواقفون، و نهض الجالسون، وإختلطت الأصوات ، ظلّ ينظر مشدوهاً برهةً إلى الرّجل السّمين الذي لم يعد يتحرّك ،إنقضّ عليه بعضُ مرافقيه، وهمّوا بالإمساك به، ولكنّه صدّهم جميعاً وهَرْوَلَ صوبَ ناحية أشجار الصّنوبر الكثيفة المنتشرِة خلف الملعب التي كان يغلفها ظلام دامس ، لم يتفطّن حتى وجد نفسَه قد بَعُد عن مكان الحادث ، إلتفت حوله علّه يرى أحداً فلم يتعقّبه أحد.
* * *
كان الليل قد أرخى سدوله ،وأطبقها على الغابة المحيطة به من كلّ جانب ،صار يلهث لهاثاً متواصلاً من فرط السّرعة والركض اللذيْن قطع بهما هذه المسافة، لَمْ يَدْرِ كيف فعل ذلك، أسند ظهرَه إلى جذعِ دوحةٍ عظيمة، وفى حِلكة الليل صار يتأمّل مصيرَه ، محاولاً إسترجاعَ شريط ما جرى .
تُرى من يكون الرّجل..؟ هل هو من رجال الشّرطة أو السّلطة..؟ أم هو من رجال المخابرات السرّييّن المندسّين خفيةً بين الجموع لدرء القلاقل والفتن، وإخماد أيّ تحرّك مشبوه بعد المظاهرات الصّاخبة التي عرفتها المدينة مؤخّراً ..لابدّ أنه يعرفه ..بل حتماً عرفه بعضُ الحاضرين ، إذن ماالعمل..؟ لماذا لم يتحرّك الرّجل..؟ هل أرداه قتيلاً أم أُغْمِي عليه فقط..؟ أمَا كان له أن يتروّى قليلاً ؟ كيف خانته أعصابُه ..؟
سرح بفكره بعيداً يتخيّل الأمورَ وإلامَ ستؤولُ إليه عواقبُها، شعر بتعبٍ شديد فقرّر العودةَ إلى مسكنه ، وهو يقول فى قرارة نفسِه :
– فليكنْ ما يكون فى علم الله .
عندما دلفَ إلى البيت كان أبواه وأخواتُه يَغطّون جميعُهم فى نومٍ عميق ، خلع عنه نعليْه، سَرَى على بَنَانِ رجليْه الحافيتين فى هدوء، ثمّ إستلقىَ على مرتبةٍ بالية من غير أن يخلع عنه ثيابَ العمل، ظلّ يحدّق فى الظلام المُدلهمّ الذي يملأ الغرفة من كلّ جانب، ومنظر الرّجل البدين المُسجىَ على الأرض لا يحيد من أمام عينيْه ، قهقه عالياً بدون إرادة منه، ردّت جدرانُ الغرفة صدَى قهقهاتِه، ثمّ أسلمَ نفسَه لسُلطان النّوم .
****************
*كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديميّة الإسبانيّة – الأمريكيّة للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا)