قراءة في قصة الشيخ بكاي القصيرة جدا: “روح القمر…” / النجاح محمذن فال
اختلس الخَفَرُ في عيني روحِ القمر نظرات دسها على استحياء في عينين أخريين تحاولان كتم نداء جامح…
سرى النداء سريان العطر المحتشم الآسر…
غنَّى الليلُ وكان الميلاد…
الاختلاس يناسب الضبابية المطلوبة في القصة القصيرة جدا ..خاصة إذا تم التعبير عنه بفعل ماض في صيغة المزيد ؛ ذي إيحاءات متعددة تبعث علي التقابل بما توحي به من صور متناقضة منها السرقة بأنمَاطها المتعددة / اختلاس النظر -اختلاس النظر – اختلاس المال – اختلاس العقول..
وللمحبين مع الاختلاس مسارح حيث يوحي بالالتحَام والتلاقي في غياب الرقيب ..
مع مالذلك من إيحاء لبعض مدالِيله اللغوية المتمثلة في كونه يعني الاختلاط إلي حد الامتزاج حين يتعلق بالأرض عندما يخالطها ماء حد الامتزاج .. والاقتران أو حين تطلع نباتا..
وقد وجد الأدباء في الاختلاس مصدر خلاص من سطوة الرقيب ومن ريب الزمان …
يقول الشريف الرضي:
يخَالسنا الأحباب حتى تقطعت
قَرَائِينُنَا، رَيْبَ الزّمَانِ المُشَتِّتِ
فما بالك إذا التأم الشمل بين الاختلاس (اختلس ) وبين الحياء (الخفر ) في علاقة إسنادية يكون الحياء فيها فاعلا للاختلاس وفاعلا أيضا لفعل دس .. ذلك الفاعل المقهور إلى درجة التماهي مع الحياء والمعاند في نفس الوقت للرقيب عن طريق التآمر والدسيسة (دسها على استحياء ) فلا مكان هنا إلا لاثنين هما بطلا القصة :
- العاشق
- الحبيبة
فَالثناىية هي المنحى العام للبناء الفني للقصة ..اثنان لا ثالث لهما يضفي أحدهما (العاشق ) على الآخر (الحبيبة) هالة قدسية ترقي إلي درجة الرٌَوْح (اختلس الخَفَرُ في عيني روْحِ القمر) في إيحاء يتجاوز حدود المحسوس إلي مستوي توهم القرب منه دون غيره ، كما يحدث للمؤمنين المبَشرين دون غيرهم “فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيم”
ولكي تنسجم هذه الصفة القدسية مع الانثى بطلة القصة جاء الفعل( دَس) مقترنا بالضمير (ها )المعبر عن النظرات في صيغة التأنيث في تنسيق بديع انسجم مع إيحاء القمر الدال هنا على انثى..
كذلك فإن تحويل الروْح من المجرد الغيبي إلي المادي الآدمي ؛ بجعل العينين مضافة إليه “في عيني روحِ القمر”
ياتي كل ذلك تناغما مع مسعى إضفاء الصور الجمالية – تراكميا – علي الحبيبة ..
غير أن المستحيل يظل سيد الموقف .. فرغم مخزون العيون لدى شخوص القصة فإن الخَفر والدسيسة كانا ندا لنداء مكتوم محتشم جعل الليل يغني ..
ولغناء الليل رمزيته التي توحي باليأس والانحسار والتواري خلف حجب الظلام حيث الليل منتجع اسرار العشاق
يقول بدر شاكر السياب
لــــعـــيــنــيــكَ يــا لــيــل سـر لا تبوح به
أغمضت عنه عيون الناس فانكَتما
وحيث الليل لباس تمارس فيه الروح انسلاخها عن عالم الصحو و تحقق حريتها بعيدا عن الرقباء ، حين تتحرر من عالم الدسائس والخوف ، لذلك جاء غناء الليل تحررا من حسرة الصحو في منحي تحرري من الواقع التراجيدي للقصة.. ازدحم فيه كل ما يحيل إلي التنائي بالتعويض بكل ما يوحى بالتداني عن طريق اللجوء إلي التجريد (الروْح) ومن ثم الهروب إلي سرداب الليالي الواعد بحب قدسي كالروْح .. قاتم كقطع الليل .. بعيد المنال كالقمر.. ، عسير كلحظة الميلاد .. حالم كالصغير الوليد …