حينما سئل الكاتب الجزائري محمد مولسهول الملقب بياسمينة خضرا عن الكتاب الذي أثر فيه وفي مجرى حياته، أجاب أن أكبر خطيئة يرتكبها الإنسان هي نكران الجميل والحديث عن كتاب واحد معناه بالنسبة له نكران فضل أعمال أدبية رافقت حياته ، مع ذلك فقد اختار الكاتب ياسمينة خضرا كتاب “شجرة البؤس” لطه حسين ، لكنه بدأ بهذه المقدمة عرفانا منه بمجهودات أدباء ومفكرين بصفة عامة قدموا للبشرية أفضل ما يمكن أن ترتكز عليه من ماضيها متجهة نحو مستقبلها.
حتى أنه في إحدى حواراته قال أنه لا يوجد كتاب ولا كاتب سيء، لأنه لطالما فكر الفرد في تقديم شيء مفيد للبشرية (كل حسب مفهومه) يجب أن نكون ممنونين له سواء اتفقنا معه أو اختلفنا والاختلاف سمة الوجود التي تمنحه رونقه فالحديقة لا تسر القلب إلا إذا كانت مختلفة الألوان.
نشهد في الآونة الأخيرة ظاهرة انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي التي تعد وسيلة لا يستهان بها لرصد رد الفعل الجماهيري ولتأليب الرأي العام وتوجيهه كيفما شاءت الظروف، تتمثل هذه الظاهرة في اختيار أعمال أدبية يراها قارئها أفضل أعمال روائية.
حينما تنبثق هذه الظاهرة عن مجموعة من القراء فلا ضير فيها لأنها تبقى آراء شخصية تلزم أصحابها ولا تؤثر في الرأي العام الأدبي، لكن لما تصدر عن مجموعة أكادميين لهم وزن في الساحة الأدبية وفي مجال النقد الأدبي خاصة فهنا ندخل في صراع فكري بين مؤيد ومعارض لهذا الكاتب أو ذاك وهذا التيار الفكري أو غيره، وقد شهدت الساحة الأدبية معارضة من بعض الكتاب الذين لهم باع في المجال الأدبي، ولهم الحق في ذلك، فاختيار أعمال أدبية قليلة دون غيرها ونشرها على صفحة ناقد مختص في الأدب وله تأثيره المباشر على متابعيه عبر صفحته، فيه إقصاء لروايات ودواوين من الساحة الأدبية ظل أصحابها شهورا وحتى أعواما يعملون عليها ويؤسسون لها لتكون في المستوى الذي يؤهلها ليتلقاها القاريء ويستفيد منها.
هذا الاختيار فيه دعاية مجانية لا يعلم صاحبها أنه قام بها لأعمال دون غيرها ودون مقابل، ففي الخارج تتم الدعاية عند بعض دور النشر بمقابل مادي، فما إن تصدر الرواية خاصة حتى نقرأ على الصفحة الأولى حكما مسبقا من طرف ناقد أو أديب صديق أو صحفي يشيد فيه بأهمية العمل وتميزه وتفرده بالأسلوب والفكرة، وما إن نلج الكتاب ونقرأه حتى نجدها قصة عادية شبيهة بسابقاتها في عدة أعمال مع وجود أعمال أخرى نتفق فيها مع الناقد في الإشادة والإعجاب.
هذه الظاهرة عرفت انتشارا واسعا بعد المعرض الدولي للكتاب الذي شهد حضورا جماهيريا غير مسبوق عكس المتوقع وهو ما أثار شعورا بالارتياح والرضى لدى الكاتب والناشر على حد سواء، هذان الوحيدان اللذان لهما الفضل في ثراء الساحة الأدبية التي شهدت حضور أدباء لهم باع في مجال الكتابة الروائية خاصة، شاركوا بأكثر من عمل أدبي ثمرة الحجر الصحي المفروض بسبب الوباء وثمرة سعي دائم لتقديم الأفضل، لتواجه بعد ذلك نوعا من الإقصاء بسبب الدعاية المجانية التي يعمل الكثيرون على الاستمرار فيها على صفحاتهم ولحسن الحظ أن هذا الإقصاء لا يدوم طويلا حتى يكتشف القارئ هذه الأعمال وقيمتها البالغة.
والظاهرة لم تؤثر على قدماء الأدباء فقط بل طالت الوجوه التي خرجت للساحة مع قدوم المعرض، والتي لم تكد تخرج للنور حتى تلقفتها ألسنة بعض النقاد ممن ليسوا من أهل الإختصاص أو ممن ينتقدون لأجل النقد. وقد وقع فيها بعض من القراء الحريصين على اقتناء كل جديد ومواكبة الساحة الأدبية.
لا يدرك هؤلاء أن كثرة القراءات تجعل الإنسان يبلغ نضجا فكريا معينا تعود لا ترضيه فيه بعض الأعمال الأدبية التي يراها صغيرة حسب رأيه ولا ترضي فضوله غير المحدود، وهذا حق مشروع، لكن نسي هذا القارئ الناقد أن الكاتب لا يكتب له وحده ولا لمن لهم باع في القراءة، فهناك القارء المبتدئ الذي سيرتقي سلم القراءة درجة درجة وعلينا أن نترك له المجال لصعود هرم الفكر لا أن نثبط عزيمته ونخلق قارئا اتكاليا يعول على مجموعة آراء ليقرأ عملا يتوهم فيه أنه الأفضل أو الأصح.
إن الناقد المختص في الشأن الأدبي باختياره لبضع أعمال دون غيرها يكون قد تحكم في نسبة المبيعات والمقروئية لأعمال دون غيرها تبقى له فيها آراءه الشخصية التي تلزمه وحده وهذا ما نلتمسه على صفحات الكثيرين ممن لا تجد على صفحتهم نقدا ايجابيا واحدا، بل كله إحباط وجزر للكتاب والكاتب وهذا كله منطلقه الميل لتيار فكري معين على حساب آخر ، لا يعلم صاحبه أنه بذلك يخلق حالة من التقوقع الفكري، فالذي يتحكم في هذه الظاهرة أصحاب الفكر الواحد والنظرية الواحدة المتوقعة على نفسها الخائفة من الضوء والتي لا يمكنها التطور إذا خرجت عن إطار رسمته لنفسها وانغلقت عليه وانكمشت فيه دون محاولة الخروج للنور والانفتاح على ما حولها، وكل من يحاول الخروج عن الإطار بالنسبة لها شاذ وجبت معاقبته مثلما حدث في مغارة أفلاطون تقريبا.
لكن للأفكار الحرة دوما أجنحة ولا خوف عليها فستطير عاجلا أو آجلا للأماكن المنوطة بها كما شهد عليها التاريخ.