“أوصد الفتى باب الماضي وقذف مفتاحه في نهر التايمز من أحد الجسور العالقة بالمدينة ذات مساء كي لا تحثه نفسه يوما على العودة إليه وفتحه في لحظة ضعف أو يأس.”
كان في أيامه الأولى بديار الغربة يسافر بوجدانه إلى بلاده، ويحنّ إلى الارتماء في حضن وطنه والبكاء بلهفة وحرارة بكاء الطفل الصغير المشتاق إلى صدر أمه. فالرحيل عن الأوطان بدا أصعب وأمرّ مما كان يتصور.. كان هذا الرحيل طعنة خنجر في صدره. ويا ليتها كانت طعنةً مميتة خمدت أنفاسه، وأنهت مأساته! طعنة الرحيل هذه لم تكن شديدة إلى حد مسحه من الوجود، لكنها كانت كافية لتمزق فؤاده، وتسيل دمه ثم تتركه مطروحا على الأرض، يتخبط في حوض من الدماء، لا هو ميت ولا هو حي! كان في ذلك أشبه بجندي جريح، منهار القوى، محاصر، يعلم أنه إذا تعرض للاعتقال، سيكون مصيره الحبس والتعذيب، فتراه يحترق شوقا للارتماء في كتف الموت والخلاص من كل عذاب! لقد أدرك الفتى في غمرة الوحدة والضياع والألم واليأس أنّه “أحيانا في هذه الحياة، البحث عن طريق أسهل للموت، أرحم من عذاب التفكير ومشقة البحث عن سبيل للنجاة”. وفي ديجور المرارة واليأس كان يردد في نفسه، “إن كان العيشُ في ألمٍ وعذابٍ ثمنَ النجاة، فالانتحارُ والموت أفضلُ من الحياة.”
وفي غمرة المرارة واليأس، رام السفر إلى أغوار نفسه للقاء “الألم” و محادثته، والسعي لمعرفته، ومحاولة إدراك أصله ومصدره، والعثور على أفضل السبل لإيقافه. فقطرات الماء التي تتسرب من سقف المنزل لها مصدر، وهذا المصدر قد يكون شروخا صغيرة في السقف. فلا سبيل إلى وضع حد للتسرب دون وضع حد لهذه الشروخ. الألم أيضا له مصدر، ومعرفة مصدر الألم نصف علاجه.
وفي رحلة البحث هذه، أدرك أن مصدر ألمه في واقع الأمر ليس الرحيل عن الأوطان. فالإنسان بطبعه حيوان متنقل، ومحكوم عليه بالحركة والأسفار في عالمنا الواسع.. فمصدر الألم ليس الرحيل نفسه وإنما التفكير في هذا الرحيل، إنه نوستالجيا العودة إلى مهد الطفولة، وتذكر الوسط الذي رحل عنه، وأجوائه، وأهله، وكل شيء جميل فيه. وكل ذلك يشعر الإنسان بالمرارة والألم. فكان عليه أن يصمم حقنته الخاصة المضادة لهذا الألم.. حقنة شديدة المفعول تعمل على تحصين الذهن لكي لا يفكر في الماضي المظلم وإنما في الحاضر المشرق. فالماضي انجلى ولم يعد موجودا، مثل السحب الحالكة الكثيفة التي تغزو السماء ثم تتلاشى لتترك وراءها سماء زرقاء صافية تلوح في أرجائها أشعة الشمس الذهبية فتملأ النفس دفئا ودعة وسعادة.
وهكذا أوصد الفتى باب الماضي وقذف مفتاحه في نهر التايمز من أحد الجسور العالقة بالمدينة ذات مساء كي لا تحثه نفسه يوما على العودة إليه وفتحه في لحظة ضعف أو يأس. لكنه لم يكن يعلم أنّ شخصا آخر في هذا العالم كان أيضا يملك نسخة من هذا المفتاح. إنها والدته التي فتحت له هذا الباب من خلال حديثها عن الجزائر وما كان يدور فيها من أحداث. وفتحت له بذلك الجرح الدامي الذي سعى طويلا لتضميده.
وبعد رحيل والدته، هرع إلى قفل “باب الماضي” من جديد منشغلا ببناء حياته الجديدة رفقة فتاة من النمسا. حتى الفضائية الجزائرية، التي كان يتابع من خلالها أخبار الثامنة المحزنة رفقة والدته، صرف باله عنها لينشغل بمشاهدة القنوات البريطانية والفضائيات الألمانية التي كانت تعينه على تعلم الألمانية، هذه اللغة الصعبة التي كان يرغب في تعلمها لأجل حبيبته أكثر من أي اعتبار آخر.
حبيبته أنجلينا هذه التي ساعدته على شراء المنزل، وشجعته على إيجاد وظيفة أفضل، وبناء المستقبل في بريطانيا، لم تكن في واقع الأمر سعيدة في هذا البلد. فمع مرور الزمن، ازداد اشتياقها إلى الوطن الذي نشأت فيه، وما أصعب لوعة الحنين إلى الأوطان. وفي غمرة ذلك، أبلغت شفيق أنها لم تعد تحتمل كثيرا وتيرة الحياة السريعة والمجهدة في بريطانيا، وأنها لا ترى نفسها تعيش في هذا البلد بعد سنتين أو ثلاثة.
وذات مساء بعد عودتها من العمل، تخيِّم عليها غيوم الإرهاق والحزن، لم تتمالك نفسها، فأجهشت بالبكاء وقالت بصوت تخنقه العبرات:
“أنا آسفة! كثير من الناس يحلم بالحياة في مدينة مثل لندن.. لكني لا أستطيع! لست أدري! لست متعودة على حياة صاخبة وسريعة كهذه!”
كان شفيق يشعر بما كانت تشعر به وهو من كان ينظر إلى نفسه كما لو كان طائرا استوائيا ألقي به خارج وكره وبيئته ليحيا في بيئة باردة مدى الحياة. فهرع إليها وضمّها إلى صدره بعطف وقال متعاطفا:
“أفهم ما تقولين! حتى أنا تعبت من هذه الحياة السريعة! وتعبت نفسيا من هذا المناخ! ليس هذا هو المناخ الذي أستطيع أن أحيا فيه! ولا أعرف كيف أتأقلم! لم أكن أتصور أن يكون تأثير هذا الجو بالغا في نفسي! نستطيع أن نفكر معا في الانتقال إلى بلد آخر، ولمَ لا؟! ربما جنوب فرنسا حيث لدي أقارب! الحياة هناك أقل سرعة والطقس جميل!”
“الطقس في النمسا جميل أيضا!” قالت له مطلقة ابتسامة عريضة والدموع تبلّل وجهها وبريق الإثارة بدأ يسطع في عينيها وعلى خديها. “الصيف فيها حار وممتع ليس مثل هنا! لابد أن تأتي معي إلى النمسا في الصيف! أنا واثقة أنها ستعجبك! ثم، ستكون هذه فرصة لمشاهدة المنزل والمزرعة والتعرف إلى عائلتي! لقد حدثتهم عنك! تعال معي إلى النمسا! أرجوك! ليس لك عذر!…”