يختلف النقاد على رواية (السيد بالومار) للإيطالي إيتالو كالفينو، ففيما يصنفها البعض رواية يذهب البعض الآخر الى اعتبارها مجرد تأملات فلسفية في الحياة والموت، بينما يقول طرف ثالث بأنها سيرة ذاتية، وسواء كانت رواية أو تأملات أو سيرة، فإن المهم لدينا هو هذا النص الفلسفي الصعب الذي كتبه كالفينو عن حياة رجل لم يجد بين البشر من ينسجم معه فاستعاض عن ذلك بتفاصيل الكون التي يعتبرها ثروة لا متناهية، وحينما نقرأ (السيد بالومار) سنخلص بالنتيجة الى أنه رجل مضطرب نفسياً لكنه على قدر كبير من التركيز على كل ما تقع عليه عيناه من الأشياء، وهو يفلسف كل حركة من حركاتها ويفكك كل فكرة من الأفكار التي تدور في ذهنه لأن الأشياء عنده مترابطة في هذا الكون.
هناك ترجمتان لرواية السيد بالومار، الأولى للشاعر ياسين طه حافظ وصدرت عن دار المدى ببغداد سنة 2019، والثانية لبسّام حجّار وصدرت عن دار الفارابي في بيروت سنة 1997، والسيد بالومار هو المشّاء الذي يبحث عن ذاته فلم يجدها بين البشر فالتحم بالكون وتفاصيله، في كتاب يقول عنه مؤلفه (عندما أعيد قراءة الكتاب أدرك أن حكاية بالومار يمكن تلخيصها في جملتين هما: يشرع رجل في السير ليبلغ الحكمة خطوة بعد خطوة ، لم يصل بعد) ويقول المترجم بسام حجار (بإمكان القارىء أن يرى خلف ما يقدمه كالفينو في صيغة رواية، نسقاً أخلاقياً أو جمالياً أو وجهة في التأمل الفلسفي، إلا أن السحر في كتابته يكمن في هامش الحرية الذي يمنحه للقارىء في أن يحسب أن ما يطالعه على قدر كبير من العمق دون أن يكون كذلك فعلاً)
يمنح كالفينو بطله صفات واضحة ستكون جزءاً من شخصيته التي ستوصله الى مصيره المحتوم (خجول، انطوائي، عصبي المزاج) لذا فهو يعمل على تقليص علاقاته بعالم البشر ليعيش في عالم خاص به، دخله ولم يخرج منه حتى وفاته، عالم يتأمل فيه أشياء ويضفي عليها الكثير من قيمتها الحقيقية، إن رجلاً بهذه الصفات لابد أن ينتهي الى ما انتهى إليه بعد أن أرهق نفسه في تأملاته البعيدة عن اهتمامات غيره، لقد كان يعتقد بان الأشياء في الكون مترابطة فلماذا إذن عزل نفسه عن الآخرين الذين يشكلون جزءاً مهماً من تكوينات هذا الكون؟ سنتوقف باختصار عند فصلين من الكتاب هما، النهد العاري، و أن نتعلم الموت.
في فصل النهد العاري، يمشي السيد بالومار على الشاطىء الذي يعج بالمستحمين، يتمدد بعضهم على الرمال تحت أشعة الشمس، ولأن بالومار خجول بطبعه فإنه يدير نظره بعيداً بعد أن وقع على امرأة مكشوفة الصدر، سار في طريقه كالمعتاد، ولكن عندما عاد أبقى نظره ثابتاً على صدر المرأة، وجعلها جزءاً من المشهد العام للبحر الممتد امامه، حيث الأمواج والزبد والزوارق والشمس الساطعة، وحدد نظرته على نهد المرأة باعتباره تكويناً لا يتجزأ من هذا المكون البحري، في الوقت نفسه كان يتساءل: هل ما يقوم به أمر صائب؟ أليس هذا تكريس لعادة الهيمنة الذكورية المستأصلة عبر السنين لتصبح وقاحة اعتيادية؟ ألن يكون هذا حطاً من قيمة الشخصية الإنسانية الى مستوى الأشياء، وأسوأ من ذلك اعتبار ما يميز الجنس الأنثوي شيئاً من الأشياء؟
يحاول محاسبة نفسه على ما فعله ويقرر الابتعاد، لكنه على النقيض من ذلك يعود ويتساءل: أليس امتناعه عن النظر أنه يساهم في تدعيم العرف القائل بأن رؤية نهدٍ عارٍ هو أمر غير مشروع؟ فيعيد تثبيت نظره ليمنح النهد العاري قيمة ما يستحق لوجوده ضمن ترابط الأشياء في هذا الكون، ومع ذلك لا ينجو من التساؤلات المحيرة: هل التصرف بمثل هذه الطريقة أمر عادل حقاً؟ أوليست طريقة ما لإدراج الكائن البشري في مصاف الأشياء والنظر على أنه موضوع، بل والأسوأ من ذلك النظر الى كل ما يمت الى جنس الإناث في الكائن على أنه شيء؟ يتساءل كثيراً لكنه لا يمنع نفسه من النظر، ويقرر الاقتراب من هذه المرأة، إلا أنها في اللحظة التي اقترب فيها نهضت وابتعدت، وهو عندما ثبت نظره إليها ليس بقصد إثارة غرائزه بل لكون هذا الجزء من جسد المرأة مكمّل للطبيعة التي يراها بكل مافيها من مكملات، حتى ضوء الشمس الساطع له تفسير خاص، والرياح التي تحرك الأمواج، والغيوم المتناثرة، لا يفصل ما يراه عن بعضه، إنه كل مكتمل، لذلك فابتعاد المرأة وخروجها عن المشهد أحدث في نفسه تخلخلاً وجعله يشعر بانه هنا ويمكن أن لا يكون هنا.
وكأن بالومار لم يكن ميتاً في الحياة، فها هو في فصل (أن نتعلم الموت) يقرر أن يتصرف كما لو أنه ميت، طبعاً بعد جولات في فصول كثيرة من التأملات المضنية، سيمنح نفسه فرصة الشعور بالموت ليرى كيف يسير العالم من دونه، كان طيلة الفصول السابقة يتساءل ماذا يدّخر له العالم، أما الآن فلم ينتظر شيئاً من العالم، ولذا عليه أن يتصرف كما لو أنه ميت، وهو على قناعة بأن العالم سيصبح منقوصاً منه لذلك فهو قلق للغاية، فهل العالم وهو منقوص منه يعني نهاية القلق؟ وأين تكمن راحة الموت؟ ماذا يحدث للعالم عندما نخرج منه؟
إطمئن يا بالمومار، ستظل الأمواج تضرب الشاطىء وتستمر الزلازل والبراكين، وستنتهي مشاكلك عندما تموت لتبقى مشاكل الآخرين، ولم يعد لديك وقت للسؤال هل سيمحو الموت الشعور بالأخطاء التي ارتُكِبت، وما شعورك بأنك ميت سيعني أنك لم تكن ميتاً وأنت في الحياة.. ولكن حتى بعد الموت سيُبْقي الإنسان شيئاً منه ينقله الى السلف.. وها قد مات بالومار وهو في تقمصه لحالة الموت، مات ولم نعرف إذا ما كان له خلف سيمنحهم جينات الانغلاق والخيبة بعالم لم تكن له فيه حصة.