الشخصيّات الغيريّة في رواية احتضار عند حافّة الذاكرة/ د. روز اليوسف شعبان
28 مايو 2022، 12:47 مساءً
رواية احتضار على حافّة الذاكرة للكاتب الفلسطيني أحمد الحرباوي ،الصادرة في بيروت دار هاشين أنطوان 2021 في 133 صفحة من القطع المتوسط..
ترصد الرواية التحوّلات السياسية والعلاقات الاجتماعية في مدينة الخليل، في نهاية الحكم التركيّ لبلاد الشام قبل الحرب العالميّة الأولى ، والحركات الثوريّة التي قام بها الثوّار والمتمرّدون العرب ضد سياسة الأتراك التي اتبّعها السلاطين والتي تميّزت بالظلم والتتريك والسفربرلك واستعباد الناس وتجويعهم وإذلالهم.
اللافت في هذه الرواية هو تسليط الكاتب الضوء على علاقات الجوار الطيّبة التي كانت تربط سكّان الخليل مع العائلات اليهوديّة التي قطنتها، وإظهار صورة مغايرة لليهوديّ الذي يحارب مع العرب ضد الأتراك وضد الحركة الصهيونيّة التي كانت تخطّط لإقامة وطن لها في فلسطين.:” طول عمرنا بندير بالنا ع اولاد اليهود وهم يديروا بالهم ع اولادنا عمري ما طلعت مشوار بعيد الا أحطّ اولادي عند رفقة مرت الخواجة سلّوم وهي لما تروح ع الكنيس يوم السبت بتحط بنتها عندي”.ص 59.
تتّسم بعض شخصيات رواية الحرباوي بالغيريّة، وتفضيلها مصلحة الغير على مصلحتها الشخصيّة. من هذه الشخصيّات شخصيّة المختار، شخصيّة ايلي، أمّا الشخصيّات النسائيّة فقد تميّزت بالقوّة والذكاء والتضحية والغيريّة. منها شخصيّة ميسون، شخصيّة لمياء، شخصيّة بريجيت. من هنا ارتأيت الكتابة عن هذه الشخصيّات وإظهار دورها في سبك الرواية.
يصنّف هنري جيمس، المشار إليه في بحراوي (2009)، الشخصيّات، من حيث علاقتها بالحبكة، إلى نوعَيْن: الأوّل، شخصيّات خاضعة للحبكة، ويسمّيها “الخيط الرابط”؛ إذ تظهر لتقوم بوظيفة ما داخل تسلسل الأحداث السببيّ؛ والثاني، شخصيّات تخضع لها الحبكة، وهي الخاصّة بالسرد السيكولوجيّ، وهنا تكون غاية الحلقات الأساسيّة في السرد إبراز خصائص الشخصيّة.
إنّ هذا التصنيف الذي اتّبعه جيمس، ينطبق على معظم شخصيات رواية الحرباوي، فقد جاءت بعض الشخصيّات خاضعة للحبكة مثل شخصيات نسائيّة عديدة مثل حماة وجيهة، وبعض النساء التي ربطت بينهنّ علاقة مع زوجة المختار ومع ليئا اليهوديّة، وهناك شخصيّات خضعت لها الحبكة مثل شخصية ليئا، المختار، بريجيت، إيلي ولمياء،
في هذا المقال سأسلّط الضوء على الشخصيّات الغيريّة في رواية الحرباوي التي ظهرت لنا بمظهر يختلف عما رسخ في أذهاننا، فتبدو الشخصيّات مثيرة تساهم في بلورة الحبكة بطريقة شائقة.
شخصيّة المختار: ترتبط شخصيّة المختار في أذهاننا بشخصيّة المتعاون مع السلطة، الذي يهتم بمصلحته الشخصيّة، لكنّنا نجده في هذه الرواية شخصيّة غيريّة، تناضل مع الثوار وتخطّط من أجل الانقلاب على النظام التركي، فيغدو مطاردًا من قبل السلطة حتى تلقي القبض عليه وتعدمه.
شخصيّة إيلي: إيلي يهوديّ وهو صديق للمختار، يتبنّى موقف الثوّار ويناضل من أجل حريّة البلاد وتخلّصها من نير الحكم التركي، كما يحارب ضد الحركة الصهيونيّة التي كانت تعمل بالخفاء مع السلطات التركيّة والبريطانيّة من أجل إقامة وطن لليهود في فلسطين، فيكشف عن المؤامرات والاجتماعات التي كانت تُعقد في الكنيس، فيعلن الكاهن عن إخراج إيلي وزوجته من الطائفة اليهوديّة. كما يفشي مكان اختباء إيلي للسلطة العثمانيّة؛ فتلقي القبض عليه وتعدمه دون أن يعرف أن زوجته كانت حاملًا وأنّها توفيت وهي تلد طفلتهما.
ميسون: هي زوجة المختار، تميّزت بقوتها وذكائها، كانت صديقة ليئا اليهوديّة، وقد منحت ليئا ابنتها عند الولادة لابن ميسون. لكنّ القدر شاء أن يسقط ابن المختار عن السطح وكان عمره ست سنوات ومات. وقد ماتت ميسون جزنًا عليه ودفنا في نفس اليوم. وبذلك بقيت الطفلة بنت ليئا دون أب ودون أمً، تميّزت شخصيّة ميسون بالقوّة والذكاء، وتمكّنت بدهائها من التحايل على المختار في عدّة أمور.
يصف الراوي علاقة ميسون بصديقتها ليئا فيقول:” لم تستطع استعادة توازن حياتها تمامًا بعد وفاة ليئا، فهي الصديقة التي كانت ترمي على كتفها كلّ ما تحمله في نفسها من شعور بالغربة والضجر، أو حتّى بالفرح.(ص 54).
وجيهة: هي قريبة ميسون وصديقتها وصديقة ليئا، عندما توفيت ميسون أشفقت وجيهة على الطفلة وأخذتها لترضعها لكن النساء حاولن ثنيها عن ذلك فقالت إحداهنّ:” بندير بالنا علىيهم آه بس ما يصيروا إخوة اولادنا بالرضاعة، إذا حدا شافك بتصيري سيرة على كلّ لسان وعمره ما حدا بيخطب من ولادك وبيصيروا يقولوا اخوة اليهوديّة”. ص 59.
لكنّ وجيهة لم تأبه لكلامها :” نهضت وجيهة من مكانها وحملت الطفلة، أمسكتها وداعبت شعرها الأشقر، انهمرت دموعها دون أيّ تفسير. شعرت بأن ثدييها فاضا في ثيابها اقتربت من الطفلة قرّبتها من صدرها وألقمتها ثديها”. ص 59.
واجهت وجيهة معارضة لتربية الطفلة التي أسمتها ليلى ، من قبل سلفاتها وحماتها، وحاولت إقناع حماتها بالسماح لها بإبقاء الطفلة لديها وإرضاعها، لكن الحماة لم تأبه لتوسّلات كنّتها وباعت الطفلة لامرأة غجريّة.
شخصيّة بريجيت: هي امرأة فرنسيّة وتحمل أيضًا الجنسيّة الروسيّة، قدمت إلى بلاد الشام مع الارساليّات التبشيريّة في عام 1914، ووقفت مع الثوار في نضالهم ضد الأتراك، وهي من ساعدت المختار وليئور في الاختباء بالكنيسة كما ساعدت لمياء في الهرب فهرّبتها إلى روسيا وعلّمتها القراءة والكتابة. من هنا يمكن اعتبار هذه الشخصيّة غيريّة ؛إذ كرّست حياتها من أجل الآخرين وذلك ضمن عملها التطوّعي في الارساليات التبشيريّة ومساعدتها للثوّار.
لمياء: تعتبر لمياء شخصيّة مركزيّة في هذه الرواية، وهي شخصيّة غيرية وثوريّة أيضًا، فرغم وجودها مع والدتها في بيت السيّد وعملها كخادمة واستغلال السيّد لجسدها، إلّا أنّها تمكنّت من الصراخ في وجهه ومنعه من الاقتراب منها، والثورة على حياة الذلّ والإهانة، فتتعرّف على بريجيت وتشجعها على الهرب ليلًا، فتجدها امرأة غجريّة فتأخذها للعيش معهم، وهناك تتعرّف على حياة الغجر وتمكث معهم ثلاث سنوات، وترى الطفلة (بنت إيلي وليئا) فتحبّها وتعتني بها وتأخذها معها بعد أن قرّرت العودة إلى بلدها الخليل، تجد في طريق عودتها عربة الارساليات التبشيريّة فتأخذها بريجيت معها إلى روسيا.
تعيش لمياء في روسيا وتعتني بليلى وقبل وفاتها في عمر الخامسة والسبعين بعد إصابتها بمرض السلّ، تكتب مذكّراتها التي هي هذه الرواية التي عنونتها احتضار عند حافّة الذاكرة، وتكتب لليلى وصيّة توصيها فيها بالعودة إلى الخليل لتلم عظام والدة لمياء وتدفنها في مقبرة الخليل :” بتروحي على لوزا عند قصر دار عمّار قبال القصر في قبور رومانيّة بتفتحي القبر وبتلمّي العظام وبتدفنينهم ع مقبرة الكرنتينا. (ص 130).
لقد طرح الكاتب أحمد الحرباوي، مواضيع هامّة في هذه الرواية، مسلّطًا الضوء على العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة في الخليل في عهد الاحتلال العثمانيّ، كاشفًا عن علاقات حسن الجوار والتعايش الجميل بين سكّان الخليل الفلسطينيّين وبين عائلات يهوديّة آمنت بحق الفلسطينيّين والعرب في التحرّر من نير الحكم العثمانيّ، واصفًا شخصيّات غيريّة ومغاييرة خضعت لها الحبكة الروائيّة وأبرزت خصائص هذه الشخصيّات غير النمطيّة. كلّ ذلك بلغة جميلة تخلّلتها الحوارات باللّغة العاميّة لتضفي الواقعيّة على أحداث الرواية، مضيفًا إلى ذلك الكثير من تراث الخليل والذاكرة الجمعيّة لسيّدات الخليل(أغانٍ شعبيّة وأمثال أكلات وحلويات معروفة، عادات وتقاليد كانت شائعة في تلك الفترة من الاحتلال العثماني وحتى النكبة). ويبقى السؤال: كيف يمكننا استغلال الذاكرة الجمعيّة، في إحداث تغييرات جوهريّة في الناحية السياسيّة والاجتماعيّة بحيث تخدم قضيّة الشعب الفلسطينيّ الذي لا يزال يعاني من نير الاحتلال حتّى يومنا هذا؟