جماليات السرد في المجموعة القصصية (قشرة الملح) للقاص واثق الجلبي/ مصطفى لطيف عارف
23 يونيو 2022، 15:50 مساءً
المفهوم الذي تتبناه هذه الدراسة اعني (جماليات السرد) – بل أن تودوروف الذي وصل إليه أمر السرد من الشكلانيين الروس ثم أبحاث دي سوسير اللغوية , ومن جاء بعده من الالسنيين ,لم يعد لديه الموضوع الحكائي ديدن السرد بل أصبح العالم كله لديه قابلا للسرد ,فالفلسفة سرد للفكر الإنساني, وعلم الاقتصاد سرد للحاجة, والندرة المتصارعة مع قانون العرض والطلب, ومن ثم أصبحت كل الأفعال في الوجود تمثل سرد الأنا المنطوية في العالم , وفي هذا الصدد نود الإشارة هنا إلى نظام المهيمنة الذي قال به الشكلانيون الروس, ويعني بروز احد الأنساق البنائية,وتحكمه بالعناصر الأخرى بوصفه العنصر البؤرة في الأثر الأدبي,فإذا ما قلنا السرد في القصة ,واللغة في الشعر ,والحوار في المسرح, فهذا لا يعني وجود عناصر أو انساق بنائية غير ما ذكر في الأجناس الأدبية المشار إليها(القصة-الشعر-المسرح), إنما هذه العناصر هي مهيمنات فرضت حضورها على عناصر اقل حضورا منها في الأجناس المشار اليها, واستنادا إلى هذا الفهم فان القصة إذا ما قررت الدخول في الشعر ,فإنها تدخل بأدوات الشاعر ,وعناصره بوصفها ضيفا مؤدبا على الشعر ومن ذلك إهمال التفصيلات والميل نحو التكثيف,والإشارة السريعة واللمحة الخاطفة الموحية المتعددة التأويلات,وعدم الاستغراق في وصف إبعاد الشخصيات ,وتحديدها ,وتفصيلاتها,لان الشعر معني بالوقوف عند انفعالات النفس,أي انه يتحدث عن كوامن الأشياء وانعكاساتها في الذات المنفعلة بها,هذا من جهة القصة, إما من جهة الشعر فهو إذا ما قرر استضافة القصة فعليه التنازل عن بعض مميزاته لكي تتمكن القصة من اخذ مكانها المناسب فيه,ومن تلك المميزات اصطباغ الشعر بطابع التقريرية والمنطقية,ولاسيما في الوصف ,الأمر الذي يجعل ألفاظه تشير إلى اتجاه واحد هو المباشرة,وهذا يفضي إلى انكماش القدرة الإيحائية لبنيته اللغوية عند حدود الدلالة المعجمية ,ومن ثم تقل أهمية اللغة الخاصة به لتصبح اقرب إلى الأسلوب النثري ,وانه سيقاوم محاولات القص المتكررة لأخذ النص الشعري إلى الاستغراق بالوصف , ولاسيما تصوير الأشياء من الخارج تصويرا منطقيا مع التركيز على تفصيلاتها,بغية إقناع المتلقي بصدق ما يقال,من هنا جاءت الصعوبة في دمج هذين الفنين المتباعدين في طرائق البناء الفني,إذا لكل منهما اشتراطاته ,ومطالبه ,وعناصره ,الأمر الذي يتطلب أكثر من قدرة الشاعر وأكثر من مقدرة القاص لدمجهما ,فالقصيدة بحكم أنها قصيدة لابد أن تكون شعرا,وبما أنها قصة لابد أن تنقل ألينا قصة في شعر,وقصة في آن واحد,ونسبة متوازنة بين فنية الشعر ,وفنية القصة, نلحظ مما تقدم تداخل الفنون الأدبية بعضها مع بعض ,وعلى الرغم من استقرار كل فن من الفنون الأدبية بخصائصه, ومميزاته ,إلا أن الشعر المعاصر سمح لنفسه الخلط, والدمج بين الفنون , وفي المجموعة القصصية ( قشرة الملح ) للقاص المبدع (واثق الجلبي) نجدها تتميز بكتابة شعرية ,وشاعرية , فهي تجمع بين أسلوب الشاعر المتألق ,والقاص المبدع فنراه يقول : جميل أن أرى صمتي تنمره حروف الناي ويلتف الخريف به حروبا تكنز الأموات في شبق من الشباك يدخل رأس من سقطوا على ارض بلا توراة أو طفلا شرى اللوم, إن الناظر إلى عنوان (قشرة الملح ) تتقاسمه دلالتان سطحية مكشوفة تؤدي وظيفة تفسيرية وصفية , وأخرى تأويلية إيحائية غير مكشوفة تتصل بعمق الدلالة المطلوبة , وتنأى عن السطحية الساذجة ,وعلى الثانية المعول, فالعنوان (قشرة ) يحيل سطحيا على مجموعة (الملح) أنتجها الشاعر والقاص والروائي ( واثق الجلبي) ,لكن الدلالة العميقة تشير إلى مؤثرات زمكانية تنثال منها دلالات متعددة , (قشرة الملح ) معادل موضوعي للذات إذ هو مكون شخصي بحت ,ومن هنا تحيل دلالة كل مفردة من مفردات المجموعة القصصية على موقف شخصي حصل ذات يوم في مكان, وزمان معين , ولذلك جاء العنوان لمؤلفه الجلبي ، اقرب إلى الرسالة العلمية، مع بعض التحويرات الإضافية، التي تسمح بأن تكون المجموعة القصصية في متناول القارئ العام, والمتخصص،على الرغم من أن نوعية الموضوع لا يتوقف عندها إلا من كان يتعامل مع النقد ,والقراءة النقدية التطبيقية ,والنظرية, درج العرف النقدي , ولاسيما التقليدي على التفريق بين القصة, والشعر,بوصفهما نوعين مختلفين , فالقصة فن نثري يكمن الإبداع فيه في بنيته الحكائية , وطرائق رسم شخصياتها , على حين بني الشعر على نظام لغوي تتراجع فيه الوظيفة اللغوية إلى الوراء ,وتكتسب الأبنية اللغوية قيمة مستقلة, وكلما اقترب القصص من شرط الشعر ازدادت دقة كلماته أهمية,وكلما تحرك الشعر صوب السرد قلت أهمية لغته الخاصة, جمع القاص واثق الجلبي بين الشعر, والقص في مجموعته القصصية أنفة الذكر فنراه يقول :
غارقة هذه الأرض بالذنوب
فكلما كلمنا الراعي .. أخرسه الفلاح
وظل حارسنا العتيد .. يتوحد مع الظلام
كأننا قطعة من أدام
لوّحنا للسماء .. وصفقنا مع صفير الريح فطارت الملائكة
معلنة أن الأبدية .. ركام يرتطم بالرجوع
لقد فتح النقد الأدبي الحديث المجال واسعا أمام هذا المصطلح جماليات السرد فاكسبه دلالات أوسع من القص أو الحكي حتى صار يعني كل عمل طابعه الحكي أو الحبك, سواء أكان مكتوبا أم منطوقا أو مرئيا أو مسموعا, أي انه كل عمل تضمن قصة أو رواية بغض النظر عن مظهره التعبيري, وبناء عليه صار موضوع جماليات السرد يشتمل على القصة والرواية والمسرحية والحكاية الشعبية والأسطورة والحلم والشريط السينمي والنكتة والحزورة والحديث الإذاعي , وغيرها كثير حلبة المصارعة , فمن هو الذي سينتصر أخيرا,والذي يميز القاص واثق الجلبي تناوله عدة أمكنة , وشخصيات وإحداث متسلسلة , وأزمنة كثيرة , في مجموعته القصصية ( قشرة الملح) لكنها جاءت متناسقة مع لغته السردية والتي يمارس فيها النقد الاجتماعي المباشر, وغير المباشر و التناص الديني , فنراه يقول : وتساءل الشيخ عن كيفية عقاب الدجالين من السياسيين ورجال الدين الكاذبين اللذين زوروا الحقائق ولفقوا التهم والأباطيل على الناس المساكين وكيف ملأوا الكتب بالخرافات التي أخذوها من أدمغتهم السيئة السمعة غير أن الفكرة الرئيسة التي لم يتوسع القاص في شرحها تتمثل في تصوره حول التداخل الدينامى, إن العلاقة المتفاعلة بين الزمن ,والذات، وهو ما يفرز لنا مدى التركيز على الترابطات الزمنية التي لا يتم ترتيبها بانتظام في المجموعة القصصية ، مما يعنى كسر العلاقة بين السابق واللاحق ,كما تكشف عنها الأحداث في الطبيعة ,وهنا يبدو واضحا أن الجلبي يعيد تركيب بعض الأفكار المعلن عنها في العلاقة بين المجموعة القصصية ,ومفهوم الزمن، إذ يخلص إلى القول بان الذاكرة والديمومة تعدان الأداتين اللتين يتفق حولهما الزمن النفسي, والفلسفي للأدب، فإذا كانت الديمومة هي التدفق المستمر للزمن، فإن الذاكرة ليست سوى مستودع أو خزان للمسجلات ,والآثار الثابتة للأحداث الماضية يشبه السجلات المحفوظة في الطبقات الجيولوجية , فنراه يقول : سأكتب ما أقول ويقول وتقول وارسم ما سيكون واتكئ على عصاي ولا أهش بها وسأكون صامتا بكلامي مع الله وأقول له إذا سالني عن عصاي أنت تعرف ما تفعل وهذا الكلام يدحض الرأي القائل بضرورة الترتيب الكرونولوجي التصاعدي في ترتيب الأحداث في النص الجمالي السردي,لأنه كأي نص سردي آخر محكوم بمبدأ الانتقائية النابعة من زاوية نظر القاص الجلبي ,ورؤيته لحياة مضت ,وانفلتت من بين يديه ولم يعد بإمكانه مهما فعل أن يعيدها كما جرت دون أن ينالها النسيان, أو يشوبها الوهم, أو يعسر البوح, والكشف عن جوانب منها ,فضلا عن أن هذه الحياة إذا ما أراد الجلبي أن يرويها بحسب تسلسل وقوعها من دون هدف ,فانه سيحتاج إلى مجلدات ضخمة وزمن طويل لتدوينها كما أن من شان هذا النوع من التدوين أن يباعد بين الحوادث, والأفكار, ويبعثرها بين السنين, فيفقد النص الجمالي السردي حيويته الإنسانية الكاشفة عن الذات المسرودة في النص ,وإذا كانت هذه الطريقة تسري بقانونها على نصوص المجموعة القصصية ( قشرة الملح) بشكل عام , فإنها تكون أكثر فاعلية في النص الجمالي السردي عند القاص ( واثق الجلبي) .