منذ بضع سنين وبضعة أشهر أكاد أحصيها, لم أرى شقيقتي الكبرى التي تقيم وعائلتها في مدينة دالاس الامريكية, كانت لي بمثابة الأم الثانية والصديقة الصدوقة القريبة الى قلبي, لم يكن ليمضي يوم واحد دون أن أحادثها أو تحادثني, ولم تغفل مشاعرها الفيّاضة عن وضع بصماتها على رقعة يومي وسعادتي, ولو تذكّرتُ خصالها نحوي لكتبت ألف خصلة وبسمة, هاتفتني شقيقتي في أحد الأيام على استحياء, وطلبت مني طلباً على غير عادتها, أخبرتني أن إحدى القريبات ستسافر لزيارتها بعد يومين على الأكثر, وسألتني سؤالها الخجول :” لا أريد أن أسبب لك أي مشقة تُذكر, ولكن هل بإمكانك أن ترسل لي كمية من “الجميد” والبهارات والبقلاوة, لقد أشتقت لهذه الاشياء التي يندر توفرها هنا, وإن استطعت إرفاق أحد كتب دوستويفسكي باللغة العربية معها, سيكون هذا لطف منك”, لقد كان طلبها المتواضع مني ألذّ من تناول العسل أو شمّ رائحة الورد, فلطالما أغرقتني بالهدايا والعطايا, فأسرعت لتنفيذ طلبها الرقيق من باب التحبب ومحاولة ردّ الجميل.
ذهبت الى محل بيع الألبان القريب من منزلي, كان محلاً صغيراً ولامعاً يحتوي الكثير مما لذّ وطاب من تلك المشتقات, طلبت من صاحب المحل كمية من “الجميد” المفتخر, وأخبرته بضرورة أن تكون تلك الكمية محكمة الإغلاق, وملفوفة بطريقة جيدة, لأنني سأرسلها الى الولايات المتحدة الامريكية, ولا أريدها أن تتأذى أثناء نقلها, نظر إلي ذلك الرجل وهو يصنع ابتسامته الباهتة, كأنني قد أخبرته بنبأ خطير وغريب.
الرجل: هذا ” الجميد” سيسافر الى الولايات المتحدة !, كم أحسد هذه القطع من ” الجميد” !, كم هي محظوظة برأيي !, وكم أتمنى لو كنت مكانها في هذا الكيس الأزرق, عندها سيبتسم لي القدر وتنفرج لي الدنيا , تفضل يا سيدي, فكل شيء جاهز.
أكملت مسيري صوب أحد محلات البهارات المميزة في مدينتي, وما أن وطأت أقدامي مدخله الزجاجيّ, حتى أخذ ذلك الشاب الذي تغوّلت لحيته السوداء على مساحة وجهه يرحب بقدومي اليه, طلبت منه تجهيز ما طُلب مني, ورجوته تغليفها بطريقة تمنع تسرّبها, كونها ستُنقل الى الولايات المتحدة الامريكية, أخذ ذلك الشاب يضحك بصوت منخفض, ثم وضع مكياله الرمادي على الطاولة الجاثمة أمامه, ونظر الي محدّقاً.
الشاب: هذه البهارات ستذهب إذن الى أمريكا !, أتمنى أن لا تسخر مني يا سيدي, لكنني أتمنى أن أقفز معها وأتموضع قربها, إنني أغبطها وجهتها ومستقرّها, تخيّل يا سيدي إنها المرة الاولى في حياتي التي أتمنى فيها أن أكون نوعاً من البهارات, كم ذلك مضحكاً ! أليس كذلك؟
ابتسمت له دون الإجابة على سؤاله, ورغبت حينها بتغيير موضوع الحديث ومجراه, فقد كان كلامه مؤلماً, وأمنياته صادمة, أحسست أنني كمن يفتح الجراح ويؤجج المشاعر الدفينة, ثم تناولت مطلبي وشكرته على لطفه قبل أن أغادر.
وما هي الا دقائق معدودة حتى وصلت محل بيع الحلويات الموجود على أطراف مدينتي, تقابله من الجهة الأخرى صفوفُ الأعمدة الرومانية القديمة, وأفواجٌ من السائحين المنهمكين بالتقاط الصور وتوثيق روعة المكان, اقتربت من أحد العاملين وحييته, كان رجلاً يعلوه البؤس وتملأه الكآبة, توجد بعض الندب الغائرة على خدّه الأيمن, ويبدو أنه يحاول إخفاء بعض أسنانه المفقودة بإطالة شاربه الممتلىء بالشيب, ترددت بإخباره عن وجهة البقلاوة التي طلبت منه إعدادها لي, لكنّ ضرورات التغليف قد أباحت لي محظورات الإفصاح, وأخذت أتهيأ لسماع ما قد يقوله الرجل, لم يقل شيئاً ولم يغبط بقلاوته الشهيّة, حينها لم أستطع كبح فضولي أو التغلب على استفهامي, أخبرته بما حصل معي قبل القدوم اليه, وسألته عن سبب اختلافه عمن سبقوه من اصحاب الرغبات والامنيات.
الرجل: يا سيدي أنا لاجىء سوريّ اقيم هنا منذ اندلاع الازمة في بلدي, لا أمتلك مجرد حلم الذهاب الى أمريكا, وأدرك أن جميع الأبواب مقفلة في وجهي, لقد رضيت بحالي وتقبّلت قدري, أما الأمنيات فهي بالنسبة لي ضرب من الأوهام المتبددة.
ابتدأ يومي واعداً لكنه سرعان ما أصبح ثقيلاً, لقد كانت تلك الكلمات تهتزّ في أذني, وتتصارع تلك الحروف الحزينة في خاطري, لكنني عزمت على أن أكمل غايتي, فلربما لدى دوستويفسكي البارع ما ينعش نهاري وينسيني ما خدش صفوي, سألت عن مكانٍ كبيرٍ لبيع الكتب المشهورة, فأخبروني أن أفضل مكان لذلك هو رصيف أحد الشوارع القريبة !, كانت المئات من الكتب المتنوّعة تفترش الأرض وتنظرُ أغلفتُها الى السماء, وفي بعض الاحيان تداعب الرياحُ الرقيقة بضعاً من صفحاتها الاولى, سألت صاحبها عن غايتي فأرشدني الى دوستويفسكي العظيم وهو يقبع هذه المرة فوق الارض.
الرجل: أريد أن أخبرك بشيء يا سيدي, الكتب الثقيلة بوزنها بخمسة دنانير, والمتوسطة بأربعة دنانير, أما خفيفة الوزن فبثلاثة دنانير فقط, بغض النظر عن نوع الكتاب أو مؤلفه.
اقتربت من دوستويفسكي وقلبي يكاد ينطق لطلب العذر منه, وأقدامي تتمترس خشية في حضرته, نظرت الى قدمي اليمنى كان بالقرب منها رائعة غابرييل ماركيز ( الحب في زمن الكوليرا)!, أما بالقرب من قدمي اليسرى فرائعة تولستوي ( آنا كارينينا)!, تذكرت مقولة تولستوي ” لكل منّا طريقته الخاصة في التعاسة” !!