كتاب” تراصيع على وجه الرمل” في المكتبات/ الشيخ بكاي
:صدرت في نواكشوط الطبعة الأولى من كتابي ” تراصيع على وجه الرمل”، وهو عبارة عن مختارات من تحقيقات وقصص إخبارية كتبتها في فترات مختلفة لوسائل إعلام دولية وعربية..وسأترك القارئ مع رئيسي في ال “بي بي سي” وفي جريدة “الحياة” اللندنية الأستاذ ماهر عثمان في تقديمه هذا للكتاب:
تشكل التحقيقات والتقارير الصحافية التي اختارها الشيخ بكاي مادةً لهذا الكتاب من بين كتاباته الصحافية الوفيرة مشاركةً مهمة عالية القيمة في اي تدوين لتاريخ موريتانيا السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، على الاقل في الثلث الاخير من القرن العشرين.
ومن يقرأ التقارير عن حوادث في وقت قريب من حدوثها يتكون لديه رأي يعزز فهمه لما وقع لكنه قد يظل فهماً ملتبساً بالتفاصيل المتداخلة والكثيرة احياناً. والتقارير تنشر على فترات زمنية متباعدة نسبياً، وتكون قراءتها متقطعة. لكن من يقرأ نفس التقارير مجموعةً متجاورة بين دفتي كتاب بعد مرور عقود من الزمن على وقوع تلك الحوادث تنقشع امامه الامور فتبدو له اجلى واوضح واكثر ترابطاً، وكأنها قطع من الموزاييك رصعت كل منها في مكانها لتكون صوراً متكاملة.
وإذ اذكر كلمة “تأريخ” في سياق الحديث عن كتابات الشيخ بكاي، فاني ازيد على ذلك ان الادب الذي يصور حوادث واحوال فترة زمنية معينة بأمانة فكرية وفنية كان وما زال عبر العصور اكثر صدقاً من التدوين التاريخي المدعي بموضوعية التوثيق والذي كثيراً ما يعتوره الانحياز او الرهبة من الرقباء، وهو ما قد نسميه “استخدام” التاريخ او “استغلاله” او “إساءة” استخدامه لغاية ما او تحت ضغوط أسباب معينة. والشيخ بكاي يحافظ في كتاباته الادبية بامتياز على الصدق التاريخي النابع من امانة الادب.
ينقل الشيخ بكاي بكتابته إلى حواسنا كلها، بصراً وسمعاً وشماً ولمساً وذوقاً وإدراكا، مشاهد مواضيع كتابته فيرينا إياها مرسومةً، ويسمعنا ما يتردد فيها من أصوات وأصداء، ويجعلنا نشم روائحها، ويكاد يحسس أصابعنا، ولو عن بعد، ملمس المكان وتضاريسه. وهذه قدرة فنية قيِمة لا يملكها سوى امهر الكتاب حرفيةً وأعظمهم موهبة، والفنانين المبدعين لفن الرسم، والمثالين الذين يُنطِقون قِطَعَ الصخر والرخام الصمَاء. وهي بالطبع قدرة أساسية لازمة خصوصاً لكتاب التحقيقات والتقارير الصحفية بقدر ما هي لازمة للكتاب الروائيين.لعل ابرز الصفات الجامعة بين أمثال أولئك الفنانين، من كتاب ورسامين ومثالين، ملكة التأمل والاستيعاب وتوظيف كل الحواس الإنسانية ليس لإعادة تمثيل المرئي وما هو ماثل في الحاضر الثقافي والسياسي والمعيشي وحسب، وإنما لإضفاء علامات الحياة عليه نبضاً وتنفساً وحركة من خلال النفاذ إلى أعماق هذا الحاضر، أو الماثل، وخلفياته الكامنة والمتخفية والموروثة.
لو أراد الشيخ بكاي أن يكون رساماً، وتدرب على ذلك، لصار فناناً مرموقاً. ودليلي هنا على ذلك الكلمات الست والعشرون التي يفتتح بها تحقيقه الصحافي عن صيادي “النمادي” والتي يصور بها ارضيةَ مَشْهَدِ تحقيقه وسماء ذلك المشهد. وهذه هي تلك الكلمات الافتتاحية:”تحت سماء بلون الرمل تمتد الصحراء أمام ناظريك لوحةً شاسعة تمنحها الأعشاب الصغيرة والشجيرات “الحليقة” رونقاً وحزناً مردُهما تداخل الأخضر اللوزي بالرمادي الفضي بالأصفر الباهت”. بهذه الكلمات وضعنا الكاتب في المشهد، في اللوحة الشاسعة، ومد أمام أعيننا الأعشاب الصحراوية الصغيرة والشجيرات غير المورقة غير المرتفعة كثيراً عن سطح الرمال، ثم صور لنا اكتساء ذلك المشهد برونق محدد وحزن نكاد نحس به مثلما احس به هو لسبب ادركه وعبر عنه: انه تداخل الالوان واختيار الطبيعة الصحراوية لها. الاخضر هنا ليس اي اخضر بل هو لوزي، والرمادي ليس داكناً وانما هو فضي، والاصفر ليس فاقعاً او ليمونياً وانما هو باهت.ان من ينقل الينا ظلال الالوان بهذه الدقة له عين ثاقبة وملكة فنية عالية – انه فنان يعرف ظلال الالوان ويحرص بعفوية على اختيار ظلال الكلمات ويميز بين المرادفات. وقد يكون هناك تناقض ما بين “الحرص” في الاختيار، وهو ما ينم عن تمهل وتعمد وقدر من التردد، وبين “عفوية” الاختيار التي تنم عن فوريةٍ في القرار نابعة من المراس والخبرة ومن موهبة متفتحة. لكني استحضر هنا مثلاً انكليزياً كثيراً ما يردده الحرفيون المهرة إن عبَرْتَ لهم عن انبهارك بقدرتهم على حل مشكلة ميكانيكية او كهربائية او غير ذلك بإتقان وسرعة ناجمين عن معرفة بكيفية معالجة الامور والمشكلات. هذا المثل بالانكليزية هو It is easy if you know how، اي ان”المسألة سهلة اذا عرفت كيف (تعالجها)”. وفي ضوء هذا المثل اقرأ وافسر سلاسة اسلوب الشيخ في الكتابة، فالرسم بالكلمات هين عليه، والكلمات تتابع بيسر كانسياب جدول ماء متمهل الجريان تعكس صفحة مياهه ظلال ما يحيط به وخيالات الاجسام حوله. تعود معرفتي بالكاتب الزميل الشيخ بكاي لاكثر من ثلاثين عاماً عندما كان يرسل تقاريره الاخبارية من موريتانيا الى القسم العربي في هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي). وكان صوته متسماً دائماً بهدوء وسكينة داخلية ينبئان بثقة بما يقول ويكتب.كان الشيخ بكاي ينقل بتقاريره الصوتية المنتظمة تلك الى انحاء العالم العربي اخبار بلده موريتانيا ويلقي الضوء على شؤونها واحوالها وصفاً وتحليلاً، جاعلاً ذلك البلد البعيد في اقصى غرب العالم العربي اقل بعداً واقرب مسافةً في اذهان مستمعيه. وكانت تقاريره تعنى ايضاً بالمناطق والبلدان المتاخمة لبلده والقريبة منها– الصحراء الغربية، والمغرب، والسنغال ومالي- وتغطي الشؤون المغاربية المهمة بعمق ودقة وتصوير تفصيلي في لوحات باهرة الاسلوب مرسومة بعفوية قد تجعل المتأمل فيها يحسب انها سهلة المنال، مع انها صادرة عن خبرة ومراس وتطويع للغة غير متكلف يصيب المعنى المراد باختيار الالفاظ في مواضعها لتوصل المعنى المنشود. اما السمة الاخرى البارزة في كتابته فهي المعرفة الدقيقة بالمواضيع التي يتناولها وجرأته في تقديمها للقاريء، او المستمع، كما يراها. وهكذا فان جمال اللغة والاسلوب لا يصرف اهتمامك عن فحوى الموضوع وانما يساعدك على استيعابه بدقة. كثيراً ما قلت لنفسي ان هذا الرجل المقيم في نواكشوط هو بمثابة سفير لامع متجول لموريتانيا، يذرع آفاق الاثير موجهاً تقاريره ليس الى وزارة خارجية كما يفعل السفراء، وانما الى كل مستمعيه وقرائه فرداً فرداً. ثم تجددت معرفتي بالشيخ بكاي، او استمرت واكتسبت بعداً آخر، ولو عن بعد الى ذلك الحين، عندما التحقت بصحيفة “الحياة” اللندنية التي صار هو مراسلها ومراسل شقيقتها مجلة “الوسط” في موريتانيا، وكنت انا مدير دائرة الشؤون والاخبار العربية في الصحيفة. وهكذا، اضافةً الى سماعي صوت الشيخ بكاي، صار بوسعي عندئذٍ ان ارى خط يده مرسوماً وان اتأمل في كلماته وعباراته وجمله على مهلي، وهو ما قد لا يتيحه الاستماع للصوت وحسب.كنت في صحيفة “الحياة” اطلع يومياً على عشرات النصوص الواردة من مراسلينا في مختلف انحاء العالم وكان علي ان اقرأ خصوصاً التقارير والتحقيقات السياسية ذات الطول المناسب لصفحاتنا الاخبارية. وهذا الجانب من العمل، مع ما يقتضيه من تدقيق ودرجات متفاوتة من التحرير والتصحيح من اجل تقديم نص نظيف سلس سهل على فهم القراء عرفني بمزايا مراسلينا وقدراتهم. وكانت قراءة نصوص الشيخ بكاي بالنسبة الي متعة خالصة لا يخالطها اي عناء. واخذت اقرأ له بانتظامٍ ايضاً ما ينشر له في مجلة “الوسط” من تحقيقات. ولست ابالغ اذ اقول انني من بين مئات المراسلين الصحافيين البارزين الذين قرأت موادهم او استمعت اليها في “الحياة” وغيرها من الصحف والاذاعات وجدت الشيخ بكاي دوماً في الطليعة البارزة على صعيد العالم العربي.ومع اني لا اريد ان افسد على القاريء بهجة استكشاف جماليات كتابات الشيخ بكاي ومزاياها الراقية ومضامينها الغنية، فاني اود ان اشاركه في بعض، وليس كل، تلك المزايا مدركاً ان اي نوع من الوصاية على القارىء غير مستحبة. دقة الوصف:المراسل وكاتب التحقيقات الناجح هو الذي ينقلك الى المكان والزمان من دون ان تضطر الى شراء تذكرة سفر. هل تحتاج الى رؤية الاماكن والاشياء والى وصف دقيق لها في زمن ما او وقت ما من النهار او الليل؟ اليك هذه الامثلة القليلة:في تحقيقه عن صيادي “النمادي” يصف لنا الشيخ بكاي الشمس في لحظة معينة من بقايا النهار، فيشخصنها بحيث نرى قرصها ووهجها الاخير قبل غيابها: “يحتقن وجه الشمس، وتحمر عيونها ايذاناً برحيل يوم ساخن وسط صفير الريح وازيز محرك (سيارة) مجهَد يصارع كثبان الرمل الاخرس…”.
وفي تحقيقه عن “تلاميذ ولد آده في موريتانيا” يكتب واصفاً هيئة القمر وما يطل عليه بضيائه من اشجار وآدميين واشباح: “القمر يسبح في عنفوان ناحية الغرب، يطل ويغرق في بحر السحب الاسود، ثم يطل، وشيئاً فشيئاً تنسحب كتل الظلام امام اعمدة النور وتستحم القرية – النائمة على جناحي كثيب يعانق السماء – بالضياء، ويهب نسيم يلين ليل “بومديد” ويداعب اشجاراً تمايلت في تناغم مع رؤوس اشباح آدمية ملفوفة في الاسمال ترى من بعيد في ركن قصي من القرية…”.
التحقيقات السياسية وفن “القطف”
اذا اراد القارئ أن يلم بملابسات وتفاصيل الصراع على الصحراء الغربية وارتباط الدول المغاربية به تبعاً لموقعها منه، فقد لا يجد ضالته في اي مكان افضل من تحقيق الشيخ بكاي المعنون “في مخيمات تندوف..الـ”بوليساريو” جمهورية في ثلاثة بلدان..شكوك في السلام وخوف من الفراغ” (نشر في 13/11/1995 في مجلة “الوسط”)، والذي اعتبره اوفى واسلس واغنى تحقيق عن جوانب هذا الموضوع ذي التفاصيل المتشعبة في ذلك الحين وربما منذ ذلك الحين.
يغطي هذا التحقيق عن الـ”بوليساريو” ونزاع الصحراء كل الجوانب المهمة للموضوع ابتداءً بسلسلة عمليات التفتيش عند الحواجز التي اقامها الصحراويون عند “الحدود”، وصولاً الى المخيمات الاربعة التي اقامتها “بوليساريو”، مروراً بحالة اللاسلم واللا حرب بين المغرب و”بوليساريو” مع وفرة في الاقوال المقتبسة عن المسؤولين الصحراويين وعن علاقات نظام حكم الجبهة بسكان المخيمات. ويأتي الانتقال يسيراً من الحديث عن جانب من النزاع الى الحديث عن جانب آخر مثل مواقف الدول الكبرى منه ومواقف الدول العربية المشرقية ثم تفصيل مواقف الدول المغاربية منه، ومن بينها موريتانيا طبعاً التي كان رئيسها آنذاك معاوية ولد سيدي احمد الطايع.
يجيد الشيخ بكاي ما اسميه “فن القطف” الذي يشتهر به كتاب المسرحيات الدرامية. واعني بذلك انه يقتطف من الاحاديث الكثيرة التي يستدرجها رداً على اسئلته اوجزها وابلغها تعبيراً عما يريد تسليط الضوء عليه والنفاذ الى صميمه ليتخذه مرتكزا ينطلق منه الى نواح اخرى، مثلما يقتطف من المشاهد ما يعادل مساحة مسرح يكفي لكي يلعب عليه الممثلون ادوارهم.الشيخ بكاي يجول بنا عبر كتابته في عوالم سحرية، واني لأرجو ان اكون قد وفيته ما يستحق من الثناء متمنياً ان يلتفت، او ينتقل، في وقت قريب الى كتابة روايات. ماهر عثمان