“ميلاد لحظة”.. ديوان للشاعرة خديجة تيدراريني../ بوسلهام عميمر
22 يناير 2023، 10:10 صباحًا
“ميلاد لحظة”، عنوان عتبة المنجز الشعري الرئيسية، بذكاء الحاذق بصنعته صاغته باقتدارالشاعرة خديجة تيدراريني. فإذا كانت الولادة الطبيعية، تعتبر بحسب بعض الدراسات أقسى ألم بعد الحرق حيا، يتطلب من المرأة أن تتحمل 57 وحدة ألم، يعادل ألم كسر 20 عظمة. مؤكدة أو غير مؤكدة، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوصية اللفظ، إنها تعكس مدى الألم الذي يرافق مخاض الولادة و أوجاعها، يشيب لها الولدان.
لحظات حرجة يصعب تصورها، تكون المرأة فيها بين الحياة والموت. فإذا كان هذا بشأن أية ولادة طبيعية، فكيف بميلاد لحظة، ميلاد ما لا يلمس بالبنان ولا تراه العينان؟
يرحم الله القائل و لعله الفرزدق “إن خلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر في بعض الأوقات” ويقول الجواهري “يضنون أن الشعر قبسة قابس متى أرادوه وسلعة بائع”.
ad
“ميلاد لحظة”، عتبة في حقيقة أمرها لدقتها وجمال صياغتها، تشكل بحق أحد مفاتيح المنجز الشعري، من شأنها أن تجعل القارئ في خضم تيمات ديوانها، يتنسم عبير مداد كلمات قصائده المفعمة بكل أنواع التشظيات والتحديات والانكسارات. فالعنوان أعلى اللوحة بلونه الأحمر القاني في انسجام تام مع طبيعة الديوان، أبدعت الرسامة الواعدة نزهة بيغرمان في تشكيل فسيفسائها و اختيار ألوانها، تتماهى ولحظة الولادة العسيرة التي طال انتظارها، “حملته كرها ووضعته كرها”.
فالفقد لم يكن على النفس يسيرا والرزء لم يكن هينا، يسهل تجاوزه بين عشية وضحاها. إنها بأساء وضراء عمرت سنينا إن لم تكن عقودا، فحق لها الاحتفاء الوهاج بميلاد هذا العقد الفريد الوضاء، برقصة غادة في كامل أنوثتها، تؤديها مغمضة العينين، تعانق عنان السماء كناية عن الاستغراق والانتشاء، مع بارقة أمل تشير إليها بضوء مشرق أسفل اللوحة. إنه انبعاث جديد طال انتظاره.
عتبات تفننت الشاعرة في تدبيجها ورسم معالمها. فبجانب العنوان واللوحة، كانت مقدمة الديوان، إذ لخصت فيها كل ما تعج به القصائد من لواعج الفقد و حر الوجع و لوعة التوق و الاشتياق إلى الانعتاق، تقول عن حيثيات ديوانها “سطور تكون متنفسا لآهات وآلام نعبر لضفة النسيان الرحيم” وتزيد قائلة، “فكان ديواني الأول “ميلاد لحظة” مخاضا لميلاد انتظرته بعد تخطي معاناة ألم الفقد، مع تخليد ذكرى من عاشوا في الروح وبين السطور”. حتى إذا انتقلنا على بساط حروفها إلى خلفية الديوان، نجد ما تكتمل به الصورة.
تقول الشاعرة ” أتمخض،، مع ميلاد لحظات ،، ألمس بيدي ،، ضوء الشمس ،، أتتبع السنا الهارب”. فالميلاد لم يكن نزهة سهلة المنال. قمة المعاناة أن يرنو الأنسان إلى القبض على ما لا يمكن قبضه. في آخر قصيدة “زوبعة في داخلي” تقول في ص168 “زوبعة بداخلي ،، تحن للرحيل ،، تتوق ،، لميلاد لحظة ،، لفجر أنيق ،، مزهو بالأنوار ،، مثل الفراشات ،، تتباهى ،، بجمال الألوان ،، كسحر البريق” زوبعة بما تعنيه من سرعة رياح وغبار كثيف يربط الأرض بالسماء. لنتصور زوبعة من الأفكار و الهواجس كأمواج بحر ترتطم و تتلاطم هنا وهناك. فكيف يكون الشعور والمشاعر لما تكتب لها النجاة وتخرج منها سالمة غانمة. ألا تكون ولادة فريدة كما في العنوان “ميلاد لحظة”؟!
فالخلفية باعتبارها أحد أركان أي منجز أدبي، مع بقية العتبات من شأنها أن تشكل خارطة طريق، لما سيكون عليه المنجز الشعري شكلا ومضمونا مبنى ومعنى. ففيها الحديث عن ضياع اللحظة، فيها الغروب، فيها فقد الأمان وفيها الوجع والانهيار، و حتى بصيص الأمل مع ضياء القمر نجد “قد” في قولها “قد يضيء القمر”، تربكه بما أنها مع الزمن المضارع فهي حرف تقليل، عكس مع الماضي تكون حرف تحقيق، كناية عما قاسته وعانته خلال فترة حمل ديوانها فضلا عن عذاب مخاضه وولادته. معان لا حصر لها ولا عد، تتأرجح، وإن بشكل غير متكافئ، بين الألم والأمل، تثير ابتسامة الكاتبة في صورتها أكثر من سؤال، أغلب الظن أنها تستحضر بيت الشابي الشهير متحديا كل الخطوب والكروب لما قال:
سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء
أم إنها ابتسامة أمل تنبئ عن الرضى بالقضاء والقدر، في الصفحة 89 تقول “تيهي نفسي ،، لن تجدي سكنا ،، سوى الإيمان ،، والعيش في ،، كنف ذكرى ،، الوفاء ،، لها عنوان” وفي ص 164 تقول “قد ودعت ،، ألمي الكسير ،، لا تحدثيني عن الأمس ،، ولا عن لحظات اليأس ،، قد تخطيت ،، كل أمر عسير” فهل فعلا تخطته وأصبح لديها في خبر كان، أم هي الرغبة الدفينة في طيه كطي السجل للكتاب؟ “طيفك ألم ،، يطرق بابي،، أدرك أني ،، لن أشفى منك ،، ،، والجسد يخترقه ،، تعب كل السنين) ص27. و مع ذلك يبقى الأمل في الانعتاق حاضرا، تقول في ص91 “أطوي بابتسامتي ،، جنح الماضي ،، أودع ألحان جراحي ،، كشرنقة تطل ،، بلهفتها ،،على الوجود”. وطبعا لم يكن هذا بين عشية أو ضحاها. إنها مكابدة السنين بين تيارات مدٍّ قوية تدفعها بعيدا للتحرر من قبضة زمن التيه، و جزرٍ يشدها إلى الماضي بما يحبل به من مآس وانكسارات يحول دون ميلادها من جديد.
انسجاما مع العنوان، فحضور “اللحظة” كان لافتا في الديوان على امتداد قصائده الأربعين.
لا تكاد تخلو صفحة من التعريج عليها بصيغة من الصيغ التركيبية والدلالية. إحصائية بسيطة ألفيناها تتكرر حوالي ثلاثين مرة. وللرقم دلالته. إنها تشكل بؤرة الديوان الرئيسية.
فقد وردت في سياقات مختلفة مفعمة بالهموم والغموم، قبل أن تنفرج وينبجس الصبح عن ميلاد هذا الديوان. فالجسر إليها لم يكن مفروشا بالورود. إنه نهر من الآهات و الأنين. تقول في ص 8 “وجبال الصدى الصهيلة ،، لحظات قاسية”. فهل هناك أقسى على النفس من اليأس والضياع، تقول في ص 164″لا تحدثني عن الأمس ،، ولا عن لحظات اليأس”.
لكن ما ينبغي التأكيد عليه، بناؤها الهندسي لديوانها. فالشاعرة قبل السماح لنهر الكلمات أن يتدفق معلنا عن ميلاد لحظتها التي طال انتظارها، كان الإبداع في أوجه في التعبير عما كابدته من آلام وما عانته من أسقام. فبضدها تعرف الأشياء. فقد برعت في وصف دقائقه ورسم تشققاته، بما أنها حتى الثمالة تجرعت من كؤوس مرارته. معاناة تصدق على أي فقيد زوجا كان أو حبيبا أو قريبا. على درب الكبار وظفت تيمة الليل أجمل توظيف، لتعبر من خلال حلكته ووحشته ورهبته، عن انكساراتها وجراحاتها استعصت لسنين على البرء والاندمال. أكثر من صفحة على امتداد صفحات الديوان المائة والسبعين يحضر الليل بكله وكلكله. فقد أضفت عليه ما لا يحصى من الصفات الإنسانية، فجعلت له حضنا تأوي إليه، وجعلته يصمت ويسكن ويتوجع، تقول في ص 41 “أتيتك خلسة يا ليل ،، أضمك وتضمني،،، أحس أوجاعك ،، تسكنني،، صمتي لصمتك ،،عناق” ص 41، وجعلت له دروبا ترأف لحالها تسمح لها لتهيم بينها، تقول في ص 45 “كما أتيتك خلسة ،، يا ليل ،، سأهيم بآهاتي ،، بين دروبك”.
معان كثيرة خصته بها بفنية عالية، حتى إنها جعلت له جفونا تقول “جفون الليل الشهيدة،، تمسح كل دمعة ذليلة”ص8، ونسبت لليالي النوم يقض مضجعها الضجر في ص153 “الريح تبتل ،، والليالي لا تنام ،، تعيش الضجر”. وأكثر
من ذلك لما جعلت نفسها المتلاشية “تتوسد الليالي ،، دون ذاكرة” ص 32. ولم يفتها وهي تسرد خيوط معاناتها بكلمات منتقاة بعناية تعبر بعمق عن مبلغ الحزن في دواخلها، أن تستدعي الفراغ لتجعله أحد مراكبها تعبر من خلال أشرعته عن ألمها و أساها ووحشتها، فخصته بقصيدة “صوت الفراغ”. فليس هناك أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في لجة السراب و في دوامة الفراغ، تلفه أطرافه و تشل حركته. تقول في ص53 “كم سألقى ،، من فراغ ،، في شرخ دربي ،، سراب الزمن الموحش ،، فصول هاربة ،، تخشى الزحام ،، حوافي الصمت ،، خطوات جامدة “.
فصور المعاناة لا حصر لها في الديوان من أول قصيدة “مخاض ميلاد” إلى آخر قصيدة “زوبعة في داخلي”. آلام لا تطاق. ولنا أن نتخيل زوبعة برياحها الهوجاء تثير غبارا يدور بما يحمله من قش وريش يلامس عنان السماء. لنتصور الأفكار القاتمة كزوبعة تعتمل في خلجات نفسها، مضطربة لا قرار لها. و من قبيل هذا المشهد المرعب نجدها تقول في ص “بعد رحيل الأمان ،، نشب وجع ،، بين الأضلع ،، سر وكتمان ،، غربة نفس ،، لا وطن ،، لا عنوان” هكذا “وجع” نكرة، ليطوي تحت جناحيه كل أنواع القهر و المحن والإحن، و”غربة نفس”، إنها أشد إيلاما من أية غربة. ثم هل هناك أقسى على النفس من وجع وكأن له مخالب من حديد ينشبها في الأضلع؟
قمة الألم مع الغربة، يبلغ مداه لتعلنها بصريح العبارة قائلة في ص81 “حين غبت عن واقعي،، عشت المحن ،، قد اغتربت بعدك،، لم يعد لي وطن” “فالجرح أعمق وأكبر” ص 150. تعبير في غاية الجمال رغم سوداوية المضمون. فبعد غيابه عاشت التيه بكل معانيه تقول في ص88 “فقدت ظلك ،، كنت أرسم منه خطاي،، على خط الأمان،، أمسيت تائهة،، في أرض غير الأرض،، لا أمن لا وطن،، لا خمائل تقيني ،،حر الشمس ،، وريح المطر”.
عذاب تتنهد لوطأته الليالي ص29 “أحمل ما تبقى مني ،، مثقل بعذاب،، ليالي تتنهد ،، بوح عتاب ،، تلفظ النفس الأخير ،، على جسر غياب”. معاناة لا ساحل لها في ص27 “غيابك عني ،، يسقيني نخب عذابي ،، حتى الثمالة”. قمة اليأس والقنوط. فقد بلغ سكين الألم العظم و استعر الجمر و استوطن بين الضلوع القهر، فتعلنها مدوية مستلهمة قصة إبراهيم الخليل في القرآن الكريم، فتقول فيص166 “يا نار ،، كوني بردا وسلاما ،، على قلبي المكلوم”. وعلى درب المسلمين لما تزلزلت الأرض من تحت أقدامهم وبلغ بهم الفتك مداه فتنادوا مكلومين “متى نصر الله” تقول الشاعرة بحرقة “متى ينبعث النور ،، في دربي ،، ويذوب الصقيع ،، متى يخضر الربيع ،، يدفئ القلب ،، وتنتهي رحلة الأرق ،، تنفى الأوجاع ،، للشط البعيد ،، وتنطلق فراشات أمل ،، بألوان الحياة ،، تتوهج أيامي ،، بميلاد لحظات”.
ويبقى أي عمل إبداعي شعرا كان أو سردا أو فنا تشكيليا أو نحتا، مهما كانت الأسئلة الوجودية التي يشتغل عليها، و مهما كان عمق تيماته، وأهمية موضوعاته، لن تكون ذات جدوى، في غياب بناء فني سامق من لغة انزياحية سلسة، وصور بلاغية بديعة من شأنها أن تضمن فرادتها عن بقية أجناس فنون القول؛ مقالة أو خاطرة وغيرهما. فالشعر قبل أن يكون معنى على أهميته وضرورته، فهو مبنى بالأساس. ذلك ما نلفيه بشكل لا لبس فيه في ديوان “ميلاد لحظة” للشاعرة خديجة تيدراريني. فالديوان حافل بالصور الشاعرية الجميلة، تعبر بجمالية مائزة عن معانيها على قتامتها. فليس هناك أشد على النفس من الفقد بغير رجعة. لنتأمل هذه الصورة تقول في ص 83 معبرة عن عمق الجرح الذي خلفه الفراق “أصوم الدهر ،، عن ابتسامة ،، ألون شفاهي بالسواد ،، الغيوم جفت ،، والغياب بكى ،،،، صحراء نفس ،، تصارع الخلجات” قمة الحزن والأسى. وتقول في ص 26 (في مفترق العمر ،، أغوص في ذاتي ،، شوارعي مهجورة ،، أتوسد أرقي). لنتصورها وقد جعلت في أعماق ذاتها شوارع مهجورة، يصوت فيها الريح من كل جانب، تسكنها العناكب والخفافيش، وهي تغوص فيها، حتى إذا أعياها الغوص لا تجد ما تتوسده غير أرقها. وتبقى
قصيدة “بلا عنوان” واسطة عقد الديوان وجوهرته. تقول في مستهلها ص99 “لا وطن لا عنوان ،، منذ أن رحلت ،، تهت في سراب ،، بين الشطآن ،، قذفني المد ،، للحيرة قربان ،، أنت ملاذي ،، أنت الوطن”، إلى أن تختمها بقولها ص 100 “غربة نفس ،، لا وطن ،، لا عنوان”.