تحتل مسألة المنظور أو زاوية الرؤية مكانة مركزية كأداة حيوية لتحليل الخطاب السردي. وتعود خطورة هذه الآلية إلى كونها كاشفة لخطة السرد الكامنة أو لنقل البانية لاستراتيجية انتشار عناصر السرد كلها، التي تتحكم فيها الرؤية أو المنظور كموقف يتخذه السارد (narrateur) تجاه شخصيات الحكي، فيتباعد أو يقترب أو يتماهى معها، كما يقطّر من خلالها المعلومات، فيوسع أو يضيق ويسترجع أو يواكب أو يستبق، مما يتيح له إمكانية التحكم والتعديل المستمر للمادة الحكائية.
وقد توالت الدراسات التي تعمّق هذا الدور وتوضحه حتى غدت رؤية السارد هي المعيار الذي يحدد نجاح المؤلف في استراتيجية بنائه السردي أو فشله في ذلك.
إن وضعية السارد تجاه الشخصيات من حيث إدراكها وإدراك عوالمها، تتولد عنه أنماط مختلفة من السرد: فيكون سرد مهيمن في حالة اللاتموضع أي حين يكون السارد موجودا في كل مكان وزمان ومع كل الشخصيات ومن داخلها ومن خارجها، ويعلم ماضيها وحاضرها بل وما ينتظرها من أقدار، كما يكون سردا ذاتيا إذا التزم السارد رؤية شخصية ما، فيرى من خلالها عالم الآخرين، فلا تطفو المعلومة إلا من زاوية محدودة توازيا مع محدودية نظر الشخصية ووفق أهوائها وميولها ورغباتها، كما يكون السرد موضوعيا ووصفيا حين لا يدرك السارد عن الشخصيات إلا ما يعاينه من خارج، فلا يرى إلا سلوكات ومظاهر، وبالتالي يكون علمه أقل من معلومات الشخصية، فنكون إزاء سارد قارئ ومؤول ومحلّل لما يبدو له. هذه الحالات السردية: الهيمنة والذاتية والوصفية، تتقاطع مع حالات ذكر السارد من عدمه، فإذا ذكر السارد في المشهد فمعناه خضوعه لشروط زمانية ومكانية تحدده وتعرفه، ويكون القارئ إزاء مرجعية معلومة تمسك بخيوط السرد وتوجهه، أما إذا لم يذكر فمعناه أن المؤلف لم يتخذ له وسيطا وبالتالي يتحتم عليه اللعب بذكاء لنسج مسار الحكي ويكون القارئ في بحث مستمر عن صوت السرد وزوايا رؤيته. كما يمكن أن تتقاطع الوضعيات هذه مع كون السارد هو إحدى الشخصيات المتحركة على مسرح الأحداث، وقد لا يكون كذلك، وعلى ضوء ذلك نكون إما بإزاء سارد متعالق مع أشخاص آخرين، وهذا يؤدي إلى قراءة نسبية للمعلومات التي يوردها السارد، وإما ألا يكون السارد ممثلا، وهنا تكون القراءة من منظور السارد مطلقة إلى درجة كبيره باعتباره تجاوز النسبية إلى نوع من الهيمنة والتسلط، أي أصبح سلطة تأولية تراعى وجهة نظرها.
السارد المهيمن..
ad
نأخذ مثالا لمعاينة استراتيجية توظيف السّارد، متمثلا في رواية “حجابات الجحيم” لجاسم الرصيف، فنلمس من البداية أن السرد معقود فيها بيد واحدة، حيث يبدأ بوصف مجموعة من المجنّدين الجدد المتجهين إلى جبهة القتال. وينسج السارد من هذا التواجد كل الحكاية، متناولا في كل مرة مسار شخصية من شخصيات المركبة العسكرية التي تقل هذه المجموعة المختارة التي تضم: – دائرة أولى تتكون من: سعيد ثابت ويبدو شخصية مركزية عند السارد وسنرجع إليه، وعمر علي وسامي يوسف ومجيد مراني و “عريف الهاونات” – دائرة ثانية تتكون من أصحاب الرتب العسكرية المرافقين ومنهم خصوصا: الملازم عماد، آمر الفوج، أيوب، النقيب حميد حسن آمر السرية الثالثة، النقيب أحمد شاكر، الملازم أول محمد عبد الله وكيل آمر السرية والمقدم الركن آمر السرية. – دائرة ثالثة: وتتكون من أم سامي يوسف وأخويه أكرم ويوسف ومن أب سعيد ثابت أي ثابت الذي التحق بالجبهة أخيرا كمتطوع ضمن قوات الدفاع الشعبي ثم أمل رفيقة سامي. – دائرة رابعة يمكن أن تجمع كل الشخصيات الهامشية التي أثثت خلفيات الرواية وشكلت إطارها، كالجنود المذكورين من خلال وظائفهم والعصابات المهربة والمسؤولين في الجيش الإيراني الذين أوردوا مبهمين عن قصد.
اللاتحيز في الزمان والمكان..
اختار المؤلف ألا يجعل لنفسه وسيطا ظاهرا يبني من خلاله مسارات السرد، فليس لدينا من يتكفل بالمهمة على الأقل في الظاهر، فمنذ الصفحة الأولى من الرواية (ص5) ندلف مباشرة إلى مجموعة الرفاق الذين جمعتهم المركبة العسكرية: “.. إلى أعلى قفزوا كجسد واحد ثم ضربوا الأرض بأقدامهم، تقدموا ثلاث خطوات سريعة ثم تراجعوا..” (ص5) وفي الفقرة الموالية يبدأ السرد بتناول إحدى الشخصيات وهي سعيد ثابت فيقول: “اشتهى (سعيد ثابت) ستة أقراص، لا أقل، من (اللحم بعجين) الذي كانوا يصنعونه من لحم ضأن ..” (ص5)، وعدم الظهور هذا يجعل السارد ضمنيا لأنه في الواقع موجود ولكن تضمينه وعدم تحييزه مكانيا وزمانيا هو خيار سردي مشروع يذهب بالسرد إلى أقصى درجات الإطلاق والهيمنة، أي أن السارد الذي يضبط بشرط الوجود يصبح متحررا كلية من أي قيد فلا نملك أن نسائله لماذا يتواجد في كل مكان: في جبهة القتال وفي “مرانة” وفي “الموصل” وعلى الجبهة الإيرانية ولا نسائله عن زمن المعلومة فهو يجلبها من ماضي الشخصيات ومن حاضرها ويستشرف مصائرها بل ويعرف ما دق من التفاصيل وما خفي عن الأعين وما كان حبيس القلوب والسرائر.
سلطة التعليق..
لكن هذا الخيار الصعب يرتب على السارد مسؤولية كل ما يرد في المتن، باعتباره مصدرها أو مؤولها، ولا توجد أية مسافة له مع الأحداث ومع المعلومات الموظفة خصوصا، فالوظيفة الأيديولوجية للسارد تشتغل في هذا النمط المهيمن بأقوى صورها بل هي الصورة المثالية للسرد المؤدلج، ومن هنا هذا الحشد الهائل لتعليقات السارد الضمني والتي لم يسترها بأي غطاء بل هي تتخلل مجموع المنعطفات السردية مما كشف الحضور الكثيف للسارد حتى وهو يتنصل من شروط التحيز الزمانية والمكانية: فمن الصفحة الأولى تصدمنا تعليقات السارد المباشرة والصريحة “..ولكنهم الآن يصنعونه من لحوم، الله وحده يدري مصدرها..” (ص5)، ويقول: “عاد الرفاق يثرثرون. جمل مبتورة تتناثر من هنا وهناك. كلمات سبق أن قيلت تتكرر لمجرد قتل الوقت. أطراف قصص ونكات قديمة تحكى بترتيب جديد” (ص 11/12): وهي تبرز مواقف السارد لا غير، والذي ينتصب رقيبا مهيمنا على كل ما يقال ويفعل، فالكلام عنده ثرثرة والقصص مكرورة الخ، بل إن أبرز ما يظهر الحضور القوي للسارد المهيمن هو حشو المقاطع السردية بفقرات كاملة للتعليق وليس الوصف، وهما وظيفتان مختلفتان جدا، فإذا كان الوصف جزءا من تشكيل الإطار السردي فإن التعليقات التي لا تتحملها شخصية سردية أو سارد متحيز في الزمان والمكان تجعل من إيرادها دون هيأة تتكفل بها وتتبناها تدخلا سافرا وتحويلا مكشوفا للكون المتخيل نحو الكون الفعلي الذي يحياه المؤلف، وبالتالي يعتبر خروجا من دائرة الإبداع إلى دائرة التوجيه التي لا ينبغي أن تستدرج المبدع إليها، فنرى مثلا في ص 23 “لحظات بلهاء، ثقيلة، لا يمكن أن يقاومها المرء إلا بالاستسلام لتلك القوة المجهولة النابعة من أعماقه، أثقل من أن تحتمل.. ربما هي قوة الاستسلام أمام إرادة لا يمكن للمرء أن يعارضها، ولكنها قوة مجهولة يمكن أن يعثر المرء عليها في أعماقه، مثلما يمكنه أن يعثر عليها في ثرثرة الرفاق عن أمور تافهة لا قيمة لها، وفي الأهداف التي تتغير لحظة بعد لحظة ليطاردها المرء ككلب صيد”، لا أحد يقول أو يتكلم في هذه الفقرة مما يجعل التعليق يلحق حتما بالسارد المتخفي خفاء جعله أكثر ظهورا وهيمنة، وها هي لفظة “المرء” تقوم بدور الكشف عن هذا السارد الذي طوّع كل ما في نص الحكي لرغباته وأحكامه بل وعواطفه كما سنرى لاحقا، ولفظة “المرء” هذه التي جعلها الغطاء الذي يتخفى فيه، تنتشر انتشارا واسعا في كل النص والأمثلة كثيرة مما يعني أن التعليق في هذا النص هو استراتيجية مقصودة ومتبناة عن قصد لتمرير الرسائل المبتغاة: “لا فرق بين أزميل ومعول إلا في الغاية التي صمما من أجلها، الأول يعيد صياغة حياة والثاني يستخدم لحفر الخنادق. ترى هل استفزت الأشياء الجميلة الأعداء وهم يتقدمون نحو الحدود؟ هل فكروا أن الحياة أجمل من أن تلوثها الشظايا والجثث؟” (ص57)، وفي الصفحة 89 نجد “يا لها من ابتهالات نظيفة في عالم قذر يعج بالموت..”.
سلطة القيم..
بما أن السارد مهيمن على مسارات السرد من خلال حضور ضمني، فإنه يجعل من قيمه الذاتية معيارا لكل القيم المتداولة بل ومصدرا للقيم الصحيحة والسليمة منها، وهذه أخطر الوظائف التي يسعى السارد العليم بكل شيء إلى احتكارها ويمكن أن نمثل له في ثنايا النص بما ورد في الصفحة 113: “ليس مستحبا شرب الماء في أثناء تسلق الجبال” أو في الصفحة 119 “يقولها بإيمان عميق إذ كان يؤدي الصلوات الخمس في مواعيدها كأي متدين عريق غايته أن يبكيك ندما عن إثم لم ترتكبه بعد” ونلاحظ أن السارد لفرط الهيمنة أصبح يخاطب مباشرة متلقيه باعتبار أن كلام الشخصية ليس إلا مطية ليعطي آراءه الخاصة كما في الصفحة 257: “حرر رسالة إلى مقر الفوج وتوقفت أصابعه عند كلمة (الخسائر) البشرية. في عالم فقد إنسانيته ما أهمية أن يذكر المرء خسارة أفراد قليلين، لم يسعوا للقتال، كانت لهم حيواتهم، ضحكاتهم، مشاكلهم الصغيرة، آمالهم وهمومهم اليومية؟ في عالم تحول فيه الموت إلى تجارة رابحة ما أهمية أن يكتب المرء عن عدد من الأنفار خسروا أنفسهم قبل كل شيء؟”، فالسارد يتلبس الشخصية التي من خلال هذه الأفكار لم يعد يناسبها لباس الجندية بل لباس الحكمة والفلسفة، وبعدها مباشرة يطلق السارد لنفسه العنان دون أن تتضح نسبة الكلام هل هي له أم للضابط المحرر للرسالة فيقول: “قبل أيام طلب هذا إجازة لرؤية مولوده الجديد. طلب ذاك سلفة نقدية للزواج. وذاك عاد من إجازته تاركا أمه على فراش المرض. هذا وحيد أبويه الذي ماتت بموته شجرة العائلة إلى الأبد. ذاك أنجب خمس بنات ويسعى لرؤية طفل ذكر لن يراه. تخاصم هذا مع رفاقه قبل أيام بسبب الواجبات. وذاك وذاك.” وهذا الإحصاء الذي يغفل أسماء الناس ليس إلا عمل السارد، فليس للضابط الوقت ليحصي هذه الأمور ولا مهامه تخوله أن يتتبع خصوصيات الجند وظروفهم النفسية وإلا لم يعد قائدا لجند، بل إن هذا الضابط هو الذي يحمله السارد بعد ذلك على البكاء حتى تمر الرسالة المبتغاة مهما كانت الخسائر على صعيد بناء شخصية عسكرية وما يتطلبه ذلك من دقة اختيار، فنجد: “وشعر بدموعه الساخنة تتحدر على خديه فمسحها على عجل..” (ص257) وفي نهاية الفصل لا يستنكف السارد أن يبكي ضابطه: “فأراد النقيب أن يبكي ثانية في ذلك الصباح. علام تأسف يا فتى؟ قطرات دمك أثقل من الجانب المظلم في ضمير هذا العالم، وشرف الميدان الذي حملته رغم جراحك أكبر من شرف كل من ادعى المسؤولية عن مصير الإنسانية في هذا العصر، فعلام تأسف؟ وعن أي ذنب تعتذر؟” (260)، وهذا هو المقصود من توظيف دموع النقيب: أن يمرر السارد رؤيته، ولكن بأي ثمن؟. كما يقطع السارد المهيمن عبارات الشخصيات بالنظر إلى منظومته القيمية، ففي الصفحة 150 وغيرها نجد: “..لماذا لم تجلب معك الكثير يا ابن ال…” وهي رقابة لم يمارسها المتكلم ولا المتلقي بل السارد هو الذي عدل العبارة كما أملته قيمه ومعاييره.
اختراق الشخصيات..
وفي سبيل تقرير هيمنته يمارس السارد العليم تضييقا سافرا على الشخصيات التي لا تتحرك إلا في حدود مرسومة، فلا تتكلم إلا بخطاب السارد: نجد مثالا على ذلك في ص 137 “إذن هو الموت. السباق الرهيب: أن تقتل أو تقتل. حماقة أن تسأل: لماذا؟. قد تقتل قبل أن تسمع الجواب حماقة أن تستغرب أو تتعجب. ثمة من ينتظر أن تغفل ثواني يستغلها لقتلك”: ولا شك أن هذه فلسفة السارد التي اخترقت خطابات كل الشخصيات فالضباط يبكون من الحنان والجنود يتأسفون على قتلاهم الخ.. وأحيانا لا نفرق بين كلام السارد وكلام الشخصيات لأنها لا تعدو أن تكون مطايا لخطابه الخفي، بل نجد أن الشخصيات لا تنمو مع هذا السارد بل هي قلقة التكوين مستعجلة الظهور والاختفاء وتفاجئنا بهذا الظهور والاختفاء، وإذا أخذنا مثالا على ذلك سنجد شخصية أيوب الذي رافق مجيد مراني في بعض المقاطع وقد راعى السارد في البداية كون مجيد لا يعرف أيوب فكان يسميه بـ “أيوب هذا” وسماه دون أي وساطة حوارية تجعل مجيد هو الذي يصل إلى هذه المعرفة بل السارد ينوب كلية عن ذلك وبعد فقرات يستقر اسم أيوب دون أي غرابة مع أن متن الرواية لا يعطينا أي موقف نستشف منه أن مجيد مراني قد عرف اسم أيوب، كل هذا يبين أن معرفة السارد وحدها هي المبرر لإيراد كل التفاصيل دون اعتبار للوسائط الضرورية التي تبيح تمرير بعض المعلومات. وأحيانا لا نعرف عنها إلا الأسماء وبعض الأحاسيس التي تختلط على القارئ أهي أحاسيس الشخصيات أم أحاسيس السارد الكامن خلفها، فهي شخصيات هشة ولا تقوم بأدوار حاسمة ولا تشكل سدى النص بل هي موزعة بين الفصول، والسارد وحده هو الضامن لتماسك النص وليست الأدوار والأحداث هي من يضمن ذلك، وبعض الشخصيات بقيت ضمن كياناتها الوظيفية دون أن نعرف عن دخائلها شيئا لأن السارد اكتفى منها بما يريده هو لا بما يريده متن الرواية، فنرى أدوارا تنتهي دون معرفة الأسباب كما هو دور “مجيد مراني” ودور “سعيد ثابت” الذي ظنناه شخصية مركزية فإذا هو ينتهي نهاية غامضة لم نعرف عواقبها، كما تم استدعاء شخصيات أخرى بلا فاعلية كدور “ثابت”. وفيما يخص اختراق الشخصيات أيضا يبدو لنا السارد متجاوزا لكل الحواجز المكانية والزمانية ويسرف أحيانا في إمطار النص بالمعلومات التي لا يوجد أي مبرر منطقي لسردها دون تقديم قناة مناسبة لذلك، فلا يعجز السارد مثلا عن الحديث عن نوايا الشخصيات كلها ومقاصدها وهواجسها وما حدثت به أنفسها دون أن تعمله: “سحقها بقوة عندما تخيل الأعداء وهم يقتلونه” (ص132)، “أراد أن يفتح المحفظة ليرى صورتها ولكنه لم يفعل” (ص 141)، “تمنى لو كان هناك. ثم تنهد بأسف” (ص 154)، “لم تبزغ نجمة الصباح بعد. لشد ما كان تؤنس حراس الساعات الأخيرة من الليل بوهجها الفضي الساطع” (ص156)، وها هو السارد يكشف أسرار اجتماع أمراء الأفواج دون أية واسطة بل يكشف أهم ما يدور في ذهن آمر الفوج: “ولعل أخطر حقيقة ذكرها هي أنهم سيستغلون واقع تفوقهم العددي الكبير في صنف المشاة للاستفادة القصوى من تضاريس الأرض الوعرة في عمليات تسلل مرافقة للهجوم لتطويق وعزل الأفواج المتقدمة، الحجابات خاصة. ومع ذلك فقد ظل السؤال الكبير نفسه يشغل أفكاره منذ أمس: كيف تنتزع المبادأة في القتال من يد العدو من دون أن يفرط بواجبه الأساس كقطعة ساترة؟ ظل السؤال يلح عليه حد الأرق. ستنفتح بوابات الجحيم بعد ساعات وعليه أن يكون حجابا يستر ما خلفه من أرض ورفاق” (ص 168)، ماذا لو جاءت هذه المعلومات في سياق حوار تتحرك من خلاله المشاهد بالحيوية وتعبر الشخصيات بكل طلاقة عما يشغلها؟ ولكن استراتيجية الهيمنة تكون دائما على حساب الحوار وبروز الأطراف المتفاعلة.
الامتداد الأفقي للسرد..
هيمنة السارد تنجر عنها مركزية حادة للوصف والتعليق على حساب أدوار الشخصيات، وتهميش الشخصيات يجعلها بلا سلطة سردية أو حدثية بل يجعلها في خدمة تمركز السارد الذي يصبح مصدر المعلومات والأخبار، ومن هنا يتمطط النص بصورة أفقية من خلال الإضافات المتوالية لأحداث لم تكن في الحسبان ولشخصيات لم يتم التمهيد لها لأن السارد يعرفها ويعرف ضرورتها هو وحده، وما على الشخصيات إلا أن تفسح الطريق لهذه الإضافات ولذا تبدو فصول بأكملها إضافات خارجة عن الدائرة الأساسية الأولى للشخصيات كما تمت الإشارة إليها في المقدمة. وهذا ما يؤدي إلى احتشاد النص بالشخصيات دون ترابط بينها أو علاقات بل أحيانا ننسى شخصيات الدائرة الأولى وفجأة يعيدنا السارد إليها بعد ذهب مسار السرد بعيدا عنها كما هي حال مسار مجيد مراني الذي تم اختطافه. وهذه الطريقة في تنمية النص لا يفسرها إلا كون السارد هو الضامن الوحيد لوحدة النص ومن ثم نجد فصولا لا تتضمن إلا الحديث عن شخصية يتم إيرادها في بداية الفصل وينتهي الفصل بالحديث عنها ثم ينطفئ حضورها تماما وكأن السارد وظفها فقط لحاجته إلى تأثيث جديد للنص والمباعدة المقصودة بين شخصيات الدائرة الرئيسية الأولى. لعبة الخطاب المباشر.. ليس في النص سرد ووصف فقط وليس فيه بعض الحوارات المقتضبة هنا وهناك، بل فيه صفحات طوال أحيل فيه الكلام إلى “سعيد ثابت” بل إن كلامه المباشر والتأملي عامة يخترق المقاطع كلها وأحيانا يفتتح بعض الفصول، وبعد التمعن نجد أن هذا الخطاب المباشر هو للتمويه على غلبة السرد وهيمنة السارد، أولا لأن الكلام المباشر لسعيد ثابت لا يستدعيه في الغالب أي سياق سردي، فهو لا يملأ ثغرة سردية ولا ينمي عنصرا ضامرا في مسارات السرد بل هو إضافة يمكن أن نحذفها من المتن دون إحداث أي خلل في جسمه الكلي، وثانيا لكون كلامه المباشر يأتي غالبا بعد أو قبل كلام السارد عن سعيد ذاته مما يجعل كلامه المباشر غير متسق مع الحديث عنه بعد ذلك، وهي صورة تبين إقحام السارد له ليمتطيه ويجعله صوتا آخر له يمرر رسائله بأسلوب جديد، وثالثا لأن إعطاء السرد لشخصية وحيدة يجب أن يترتب عنها تطوير الشخصية وتطوير أدوارها وجعلها في مركز السرد وهو ما لم يحدث بتاتا لشخصية سعيد التي بقيت ويا للمفارقة.. هامشية، مع أنها تستحوذ على معظم سياقات السرد المباشر، وفي النهاية بقي مصيرها مجهولا عند القارئ كما عند والده وهو مصير لا ينبغي أن يلحق بشخصية مركزية كما أراد السارد أن يظهرها، وبهذا تنكشف لعبة السارد المهيمن الذي جير الكل لصالحه ومنه الخطاب المباشر لسعيد ثابت الذي لم يكن إلا قناعا آخر للسارد، وأسلوب كلامه توضح عمق تلاقيها مع تعليقات السارد التي تمت الإشارة إليها.
الخيار الخطير..
يقول السرديون إن استراتيجية السارد العليم هي أبسط أنماط السرد، ولكنها بالأساس أخطر أنماطه، لأن الهيمنة تؤدي إلى تحمل كل المسؤوليات، وتجعل كل أفكار السارد في واجهة الأحداث وعرضة للقراءة المباشرة، ولذلك يتهرب المؤلفون منه إلى ساردين متعددين وممثلين داخل النصوص، في نصنا هذا نجد السارد غائبا تمثيلا ولكنه حاضر رؤية وتوجيها، حضورا أسكت كل حركة في النص، وجعل كل صوت مهما خفت لا يعدو أن يكون رجع صدى لرؤيته وقناعاته، مما يبين أن هذا الخيار ليس محايدا بل هو الخيار القصدي (INTENTIONNEL) الذي ينم عن الاتجاه الأيديولوجي، وهو خيار لا يعيب صاحبه فالمبدع سيد خياراته ولكنه خيار ليس هينا بالنظر إلى عواقبه على الشحنة الخيالية والحصيلة الإبداعية، فليس لسارد يخترق كل الحجب وينفذ إلى كل الأعماق ويتواجد في كل الأماكن ويذهب في الماضي ويغيب في المستقبل ليس لمثل هذا السارد القدرة الكافية على نسج الكون الخيالي المتين، وليس له القدرة على لحم مصائر الشخصيات بدقة وترو لأن حريته المطلقة في الحركة زمانا ومكانا تجعله في غنى عن مراعاة شروط هذا الإحكام والنسج، وهو ما نلمسه في نصنا من خلال حشد المعلومات المتسرب في كل لحظة والذي لا يأتي أبدا من خلال الشخصيات التي بقيت هي الأخرى متلقية لها مثل القارئ تماما. إن السارد العليم خيار تسجيلي بامتياز قد يحسن في التقاط كل الوقائع المبتغاة ويسمح بالتنفيس عن كل ما نريد تمريره من رؤانا الخاصة ولكن آثاره على النسيج الإبداعي لا تنكر هناته.