مكثت في العراء كنبتة عطشى تروم الماء بأي ثمن. استرعى انتباهي فتاة تبتاع بعض الحاجيات عندما سقط من حقيبة يدها ورقة مالية سارعت الى التقاطها واعادتها اليها. شكرتني الفتاة برغيف وجرعة ماء وكنت لها ممتنّاً . ثم ذهبت لحال سبيلها.
أقبل الليل ، وبصرت كلباً أعجفاً نبح في وجهي عدة مرّات. وحين أدرك مقدار بؤسي، استدار واختفى في البستان المجاور.
بغتة ، أضاء الليل وجه الفتاة ذاتها . قالت باسمة: أبي يدعوك.
تبعت الفتاة بخطى متعثّرة ، ووجدتني داخل بيت يجلس في صدره شيخ مهيب، انحيت بكامل قامتي لإقبّل يده الذي سحبها في الوقت المناسب ، وطلب مني الجلوس . سألني عن أحوالي ، فحدثّته عن شرور ألأصدقاء ، وعاديات الزمان ، ونوائب المسافة . امتدح الشيخ ثقافتي ، لكنه عاب عليّ تشاؤمي . ثم رغب أن يدرك كربتي . فأخبرته أني قتلت نفساً . وللغرابة علّق قائلاً بأني نجوت من القوم الظالمين .
بعد قليل ، جاءت ابنة الشيخ بطعام وشراب ، ولم أفوّت سانحة من اختلاس النظر الى وجهها الذي بدا شاحباً ، لكن آسراً كهالة القمر .
كان للشيخ بستان ، ورغب أن يستأجرني للعمل . أجبت طلبه ، ولمّا رأى تفانيّ ، زوّجني ابنته . وفي بضع سنين ، أثمر البستان ، وصار لي بنين . وذات ليل ، فاتحت الشيخ برغبتي في العودة الى موطني . فنصحني بالتحسّس من ألأمر . فربما لا يزال القوم يأتمرون بقتلي .
بعد أيام، أسلم الشيخ الروح ، فشيّعته، وقررت العودة الى الوطن . في السيّارة ، جلست زوجتي بجانبي ، وألأولاد في المقعد الخلفي . كان هنالك بروق ورعود وأمطار غزيرة ، احتمينا منها في كوخ مهجور وجدت فيه سلاحاً .
كان أبو ضحيّتي حوّل بيتي الى ملهى . وحالما رأني ، سأل رجاله : أليس هذا الذي ثكلنا بإبننا ؟ فردّوا : بلى . سأل الرجل بتعالٍ : ماذا ترون ؟ وكجوقة قالوا : النفس بالنفس . قلت : لا أريد سوى رفع ألأذى عن أهلي ، والعيش بسلام. قال الرجل: مستحيل . ثمة ثأر يجب انجازه . قلت غاضباً : اذن ، إنتظر مني مكرالأفعى ، وعصف الطقس ، وصريخ الدم ، ونقق القرينة ، ورهو البحر ، وهول الصاعقة . ثم أطلقت صلية رصاص ، جعلت أتباعه يتفرّقون هلعاً .
ولم ألبث أن صوبت بندقيتي نحوه ، وأطلقت النار. فأبصرته يسقط أرضاً رغم أن الرصاصة لم تصبه . وبدا أنه قضى رعباً . ألقيت سلاحي ، واستلقيت على رياش التقوى ، التوبة سائلاً .