موريتانيا تنصف فنانيها من الإجحاف والتهميش
تزخر موريتانيا بإرث فني كبير خاصة في مجال الموسيقى الذي قدمت فيه تجارب مختلفة كليا نالت انتشارا عربيا وعالميا واسعا. ولعل أبرز ما يميز الموسيقى الموريتانية، علاوة على مقاماتها وأساليبها الفنية وآلاتها ومواضيعها، هو أنها فن متوارث، غير أن الصورة ليست بتلك النصاعة التي نعتقدها إذا تأملنا في مكانة الفنان الاجتماعية المهتزة.
صادق مجلس الوزراء الموريتاني نهاية العام 2023 على مشروع مرسوم يتضمن النظام الأساسي لمهنيي الفن في موريتانيا، في خطوة وصفها المراقبون بالمتقدمة لضمان حقوق العاملين في مختلف مجالات الإبداع الفني كالموسيقى والمسرح والسينما والفنون التشكيلية.
وبحسب بيان حكومي ، صدر الأربعاء السابع والعشرين من ديسمبر 2023، يهدف مشروع المرسوم الحالي إلى وضع إطار قانوني وتنظيمي يساعد على تحفيز الفنانين، من خلال خلق ظروف ملائمة لتفتق المواهب الفنية بطريقة تنسجم مع الرؤية الساعية لتنمية الثقافة في البلاد.
يحدد المرسوم مفهوم الفن والفنان، وينشئ هيكلة تنظيمية تسمى “مجلس مهنيي الفن في موريتانيا” ستكون الأولى من نوعها في المنطقة، وستفتح باب التواصل الدائم مع الحكومة ومختلف الجهات المسؤولة في البلاد.
ويعتبر هذا المرسوم إنصافا لمهنة الفن التي تواجه تمييزا اجتماعيا واضحا ضد العاملين فيها، حيث أنهم منبوذون من أغلب فئات المجتمع بسبب العادات والتقاليد المتوارثة. ويرى باحثون اجتماعيون أن الشباب الموريتاني يتعمد إخفاء مواهبه الفنية حتى لا ينظر إليه نظرة سلبية في مجتمع يعتبر الفن نقيضا لقيم التدين والورع والنبل والعراقة والاستقامة الأخلاقية.
ضد تهميش الفن
وبحسب الباحث في التراث الشعبي عالي ولد هنون، فإن الفن في موريتانيا مهنة متدنية ومنبوذة ينظر إليها باعتبارها مسيئة للمكانة الاجتماعية، والعمل بها مناف للورع والالتزام، ولا تمارسها إلا الطبقة الاجتماعية الأقل شأنا ومكانة واحتراما بين الطبقات.
وهذا لا يعني أن الشعب الموريتاني يكره الفن بل على العكس، حيث إن الجميع لديهم القدرة على قراءة وإدراك وتذوق الفن في عمومه وبمختلف أشكاله، ورغم ذلك فإن المجتمع يحمل في داخله رفضاً قوياً لممارسة الفن يحول دون التطبيع معه، وفق تعبير الباحث.
◙ المرسوم ينصف مهنة الفن التي تواجه تمييزا اجتماعيا ضد العاملين فيها؛ فهم منبوذون من أغلب فئات المجتمع
ولا تزال ممارسة مهنة الموسيقى والغناء حكرا على فئات اجتماعية بعينها تسمى “إيكاون” ينظر إليها على أنها من سلم اجتماعي أدنى وتشكو من التهميش المتعمد، رغم أنها كانت تتمتع بسلطة معنوية مؤثرة في المجتمعات التقليدية المحلية، وتعتبر ركنا أساسيا من المجتمع البيضاني باعتبارها حاضنة الفن والثقافة والتاريخ وأمجاد الأبطال، وهي ذاكرة الشعب الموريتاني وحافظة موروثه.
وتتميز فنون الموسيقى والغناء في موريتانيا بأنها مهن أسرية ويتم توارثها أبا عن جد، وكثيرا ما يتزوج الفنان من فنانة ليرثهما أبناؤهما لاحقا في مجال الفن، ولا يكاد يوجد مغنّ موريتاني لا يجيد العزف على الآلات التقليدية وفي صدارتها “التيدنيت” المعروفة بأنها هي أم الموسيقى الموريتانية “أزوان” وهي آلة موسيقية تقليدية يختص في عزفها الرجال الفنانون وأيضا آلة تحليلية تستطيع أن تعطي أجزاء دقيقة من النغمة الموسيقية، وخالية من الملاوي الموجودة في العود العربي رغم احتفاظها ببعض خصائصه الشكلية، أما المغنيات فيعتمدن آلة “آردين” وتعني الكلمة باللهجة الصنهاجية “معزف الجارية” وتختص بالعزف عليها المرأة في العائلات الموسيقية.
وبعد تولي الرئيس محمد ولد الغزواني الحكم بادرت مجموعة من شريحة إيكاون بالتظاهر أمام القصر الرئاسي في نواكشوط في أكتوبر 2019 مطالبة بلقائه وبإنصافها من الظلم الواقع عليها والتجاوزات التي تتعرض لها من قبل المتطاولين. وذلك بعد أن تم اتهامها بالكفر وبأنها تخدم الشيطان من خلال آلاتها الموسيقية.
ومنذ ذلك التاريخ أوصى الرئيس ولد الغزواني بضرورة حماية الفنانين وتقنين مهنتهم والتعامل معهم وفق إطار قانوني ودستوري يتجاوب مع دورهم الثقافي والاجتماعي الكبير، حيث من غير المعقول أن يبقى الفنان الموريتاني ضحية التهميش.
مواجهة الإساءة
في فبراير 2022 قال وزير الثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان الناطق باسم الحكومة المختار ولد داهي خلال تدشينه مقرا جديدا لاتحاد الفنانين الموسيقيين إن ولد الشيخ الغزواني تعهد بإنشاء جوائز رئيس الجمهورية للفنون الجميلة من بينها جائزة للموسيقى، وإن القطاع وضع بعض الإجراءات الجديدة من بينها إنشاء معهد للموسيقى واكتتاب أصحاب الكفاءات والخبرات والمواهب للرفع من شأن الموسيقى الموريتانية وحفظها وتطويرها، بالإضافة إلى تنظيم مهرجان وطني للموسيقى سيتم الإعلان عنه بعد النقاشات وتلقي الآراء والاقتراحات مع أصحاب الخبرات في المجال، مؤكدا أن القطاع يمد يده لكل الآراء والأفكار التي تصب في تنظيم هذا المهرجان بالشكل الأمثل.
ووفق تعريف لموسيقى إيكاون منشور على موقع وزارة الثقافة الموريتانية، فهي موسيقى شعبية لأنها تحترم وتُستقبل في جميع الأوساط، لكن “التيدينيت” التي هي آلة الرجل و”آردين” الخاص بالمرأة المطربة لهما خصوصيتهما التي لا يتم هضمها بسهولة من طرف العامة، كما أن هذه الموسيقى هي بمثابة خليط خاص من النغمات الموسيقية ذات طابع بنيوي تتضح فيه الخلفية الإسلامية العربية وخاصة الأندلسية والشمال أفريقية.
◙ لا يمكن فصل محاولات تهميش الفنانين والإساءة إليهم في موريتانيا عن الخطاب الديني المتشنج الذي انتشر خلال العقدين الماضيين
ولهذا الفن محترفوه الذين يوجدون في كافة الجهات الموريتانية، ويعود التطور النغمي لهذه الموسيقى -كما يفهم من مقاماتها- إلى خلفيات ثقافية تقليدية ضاربة في أعماق الثقافة العربية المنصهرة في فترة النضج مع الثقافة اليونانية القديمة التي تجعل الفن عبارة عن ظلال للسلوك النفسي الإنساني. إن الموسيقى الموريتانية تنقسم إلى أربعة مقامات شبه متدرجة مع الطبيعة البشرية.
ويقدم التقرير الوطني حول الحركات الاجتماعية والفضاء المدني تعريفا لإيكاون على أنها “فئة الفنانين والمطربين وهي مهنة يتوارثها المعنيون أبا عن جد. وقد كانت لهذه المجموعة مكانة كبيرة في صدارة المجالس والتغني بالأمجاد والطرب، إلا أن منتسبيها الآن يشكون ضعـف اهتمام المجتمع بهم ومنافستهم من غير المنحدرين من وسط فني أصيل”.
ولا يمكن فصل محاولات تهميش الفنانين والإساءة إليهم في موريتانيا عن الخطاب الديني المتشنج الذي انتشر خلال العقدين الماضيين بالخصوص، والذي ينظر إلى الخطاب الفني كمنافس عنيد له داخل الفضاء العام.
ويتذكر عموم الموريتانيين قضية الشيخ عليين ولد همت، إمام مسجد “دار النعيم” في العاصمة نواكشوط، بعد رفض المصلّين الصلاة خلفه، لأنه شارك في مسلسل اجتماعي بثته القناة التلفزيونية الموريتانية الرسمية بعنوان “بنت الناس”، وقد رفض الدعاة مساندته.