فجأة، قررت الابتعاد عن الشاشات، بعد أن خطرت ببالي فكرة تلميع حذائي الصحي رأفة بمظهره الباهت. فقمت على الفور بجولة خفيفة انطلاقا من صيدلية باب الزيتونة، وتركت أمر هندسة المسار للصدفة. كان مزاجي معتدلا، فيما الوقت ما بعد ظهيرة خريف جاف لا تجود سماؤه بقطرة مطر. حين توغلت في سويقة الخضر العشوائية، لعنت الفوضى التي تعرشت على ضفاف ثانوية سيدي عزوز العريقة. فوضى الناس وفوضى القوانين. سقيفات عشوائية وسخة تعبث بها الرياح فوق عربات من الخشب المتآكل لبيع الخضر والفواكه من الخشب والصناديق مكسورة ومهترئة. عتبات متربة صدئة صممت على عجل وخوف، وسرعان ما تحولت إلى ملاجئ دائمة يحف بها العبث والضياع من كل ناحية. فضاءات تتغاضى السلطات البلدية عنها لحاجة في نفس يعقوب. وباتت مآوي قابلة للتفكيك والمسائلة المزاجية للقائد وأعوانه في كل لحظة وحين كأصحابها.
لم أتأخر كثيرا. لقد صببت جام غضبي على شرذمة من منتخبي الزمن السياسي الضائع. ولعنت بأشد النعوت قساوة مرحلة الخنانيش وانتهازيي المرحلة وسياسة اغنم واكسب طالما لا حساب ولا عقاب. وتابعت السير، وسرعان ما انزلقت مثل سمكة مخبولة في مصب بارد. ولما وقفت أمام مفترق الطريق المفضي لقبة السوق المشور، القلب النابض للحاضرة العليا استحضرت زمن الطفولة والتجارة والحنين. فالخبز هي الخبز والملامح نفسها والزفرات والعيون تصدر الاكتئاب بالجملة والتقسيط. إذ منذ عقود والمدينة جامدة خامدة تشكو لله بؤسها ونكبتها في عينة متناسلة من منتخبين وصوليين انتهازيين. استولوا على أجمل البقع الأرضية واكتسحوا الأحواز وشيدوا الرفاهية بأذرع محورية. بعد أن احتكروا الأسواق ودجنوا بالمال أصوات البسطاء في أسواق الذمم عقب كل استحقاق.
الآن، أعبر نحو زنقة الجزارين ثم الطرافين التي لم تعد كذلك، كانت عيناي طائشتين مثل بندقية محشوة في انتظار فريسة على شكل ماسح أحذية. لأن المسعى في حد ذاته مجرد شفقة بلا روح وتقديم مساعدة على شكل صدقة جارية ليس إلا، ولا علاقة للتلميع بأناقة المظهر على الإطلاق.
يا إلاهي! لا يحتاج الزائر العابر أو ابن السبيل إلى كبير عناء كي يدرك بؤس المدينة. للوهلة الأولى تبدو له بدون أفق ولا انتظارات. مدينة ماضيها أفضل من حاضرها. مدينة تكدس الإسمنت، وتتسلح بانجرافاته وتجاذباته في المجالس والبورصات. إذ في الوقت الذي تزدحم في أبوابها العاهات، وتتكدس على مداخلها مظاهر البؤس وتلتمع في الأفق القريب علامات الشلل الاجتماعي ضدا على النماذج التنموية، لا يمكن العثور في أحيائها على ملمعي أحذية في الركنات والردهات الرطبة الباردة! رغم أن مسح الأحذية مهنة من لا مهنة له، كما هي عنوان غريض لتخلف تنموي واجتماعي بلا مقدمات. واصلت السير مقذوفا عبر المماشي الزاحمة بالأنفاس والعطور والزفرات حتى أشرفت على ساحة باب أحراش. وأنا على يقين أن حذائي الشاحب الذي استحال لونه رماديا بعد الذي فقد لونه الأصلي سيغدو بعد حين في حلة أبهى، وسيستعيد بعضا من جمال المظهر بعد دقائق. لكن المكان كان فارغا، والفضاء الذي كان مخصصا لملمعي الأحذية، تلك الزمرة من صعاليك المجتمع. المركونين على الدوام بجانب المقهى العالية، يطرطقون بتناغم ناشز صناديق المسح اختفوا تماما. أما المقهى العالية فقد أغلقت أبوابها جراء إفلاس وتواطئ أخلاقي مريب، إلا من بضع طاولات حفت بها كراسي مقهى زائغة تكاد تستولي على ما تبقى من الشارع العام كلية.
مسحت الفضاء بعينين باردتين وفم متيبس. باحثا عن هدف ما، سألت عن كهل كان هنا، وأثر رجل كان هناك. نقبت عن رجل أكتع كان ملمع أحذية مألوف ومحترف، فأخبرني أحدهم أنه توفي إلى رحمة الله. أما الشاب الذي التحق مؤخراً بالحرفة، فهو مكتئب، وقد كسر صندوق التلميع على رأس أحد زبنائه بعد أن لعب مخدر البوفا بعقله. فيما الشيخ الثالث يضيف المصدر ذاته، غير حرفته من ماسح أحذية إلى كسيح مقعد، بعد ان اختار التسول مهنة وارتكن بباب مسجد بعد ابتكار عاهة. صمت محدثي برهة ثم أشار إلي ناصحا ” يمكنك انتظار “سيرور” جوال قد يظهر بين الفينة والأخرى ؟؟؟؟ مدينتي تازة باتت دون ملمعي أحذية إذن! لكن تازة ازدهرت بفئة أخرى من ماسحي الكابات، ولاعقي المال العام، وملمعي الصفقات والاختلاسات، وتجار العشوائيات التي تتناسل كالفطر. أمام أنظار سلطة تتعاطى مع الشأن الاجتماعي بعاهات تدبيرية مستدامة!!