ذكرى أحداث 1984. (6).. الشهيد لبات/ الشيخ بكاي
8 إبريل…
أثار انتباهي خلال أيامنا الأولى في التحقيق وكيل شرطة شاب مهذب إلى أقصى الحدود عكسا لزملائه العرب.. كان يؤدي عمله بصمت ورفق، وحذر في الوقت ذاته..
كان يعيدني ذات مرة إلى زنزانتي.. تصادفنا في الطريق مع كثيرين “يسوقهم” شرطيون ..كانت مدرسة الشرطة تغص بالناصريين وترتفع منها أصوات الصراخ من كل الأركان…
ثبت عينيه في عيني وأنا أدخل وقال :” كل ليمونة ستنجب طفلا/ ومحال أن ينتهي الليمون…”
كان يكرر دائما بيت نزار قباني كلما رآني في وضعية استياء…
لم أثق في الوكيل محمد… ربما كان مدسوسا علي، لكنني استحسنت أدبه.. وأنا في هذه الظروف على استعداد لقبول أي شيطان يقبل الحديث إلي ويسمح لي بقليل من الهواء يدخل من باب الزنزانة.. أو يهرب لي سجارة أو كأس شاي..
مع الزمن تحولت العلاقة إلى أخوة وصداقة، لم يكن فارق العمر بيننا كبيرا .. لم يزد محمد مطلقا في الإيحاء على بيت نزار قباني خلال الأيام الأولى، ولم أحاول أنا مطلقا استكناه حقيقته…
لم يكن صوته جميلا كثيرا ، لكنه كان أحيانا يحاول إخراجي من أجواء الاكتئاب بتقليد أم كلثوم وفيروز.. أتذكره الآن وهو يدندن: “غني لي شوي.. شوي.. ”
بعد انتهاء التحقيق طلب مني أن أدرسه اللغة الانجليزية فأعطيته من الوقت ما يسمح به عمله.. وقد أبدى ذكاء وقدرة كبيرة على الاستيعاب… التقيت بوكيل الشرطة هذا في سنوات الألفين وقد أصبح يحمل الدكتوراه ورجلا ذا شأن.. كان قصة نجاح…
لم يكن الحصول على الأخبار من صديقي الوكيل سهلا، وكنت أشفق عليه أيضا مخافة أن يكون لبيت نزار دلالة خاصة… وكان يبتعد عن الثرثرة ابتعاد ثقافة أهل الترارزة عنها.. غير أن إيحاءاته كانت بليغة..تحدث لي قليلا عن صعوبات يمر بها الشهيد سيدات..
9 ابريل:
خلال الليل حل نزيل جديد في وقت متأخر بالغرفة الرقم 1 الملاصقة لغرفتي… أيقظني أنينه… لم يعد الأنين والصراخ أمرا مثيرا فقد تعودنا عليهما، لكنه كان يئن بطريقة مؤلمة.. مؤلمة جدا…
في الصباح أعددت شرابا من “المخزون” المهرب وشربت، وناديت الشرطي الذي يحرس الغرفتين: “تعال إذا كنت تريد أن تشرب”…
تناهى إلى سمعي صوت ضعيف من ثقب في الجدار:” أريد أن اشرب”..
خلتني عرفت الصوت.. إنه هو…دفعت الباب بقوة.. أمسك الشرطي برقبة دراعتي من الخلف.. كانت من “الشكه” وتمزقت… دخلت… كان ينزف.. ينزف.. ينزف.. جروح في كل مكان.. الوجه الرأس.. الصدر .. البطن.. الظهر.. كان يلبس بقية ثوب ممزق…
قال لي: “أكلتني الوحوش”…
كان الشرطي الزنجي عند الباب.. أغلقه علينا خوفا على نفسه… رجعت إليه.. استعطفته بوجه المصطفى عليه الصلاة والسلام أن يتركني أعود بشراب.. قال “أسرع… ستخلق لي مشاكل”…
أسندت أعز الناس بصعوبة .. كان يتحرك بصعوبة وألم بالغ.. نظرت في أجزاء جسمه الممزق.. ضبطت عليه ما بقي من دراعته….
كانوا كلابا فعلا…..
كان سيدي محمد لبات (سيدات) من أعز أصدقائي.. أمضينا معا سنوات خارج البلاد أيام الدراسة.. وجمعنا النضال فترة طويلة… وعرفته في بيته.. وعرفته سندا في أيام كنت أحتاج فيها إلى من يقف معي….
كان لحسن أخلاقه ونزاهته مقبولا من الجميع.. من القواعد وقيادات الدرجة الثانية ومقبولا داخل قيادة التنظيم…كان الكل يثق فيه….
10 إبريل:
كانت جلسة التحقيق الللية الماضية مؤلمة للغاية.. كانوا أكثر وحشية… أعادوني في وقت متأخر..
في الصباح كان الألم يأكل كامل الجسد مصحوبا بحمى تسري في الجسم سريان “الجاغوار”.. أرسلت إلى الرقيب سيدي محمد أني مريض.. لم يرد..
في اليوم الموالي طلبت ست مرات عبر شرطيين أن أعالج، لكن الرقيب واصل الرفض.. ومرة لقيته قرب الزنزانة وأنا في الطريق عائدا من دورة المياه، قلت له إني مريض رد في جفاء: ” ادخل”..
11 ابريل:
اليوم رئاسة قسم الشرطة للوكيل ديوب.. زارني ووعد بأن يحاول مع الرقيب.. وكما وعد أقنع رئيسه بإرسالي إلى المصحة..
كان الطبيب رائدا في الجيش خدم في النبيكه بولاية تكانت ويعرفني جيدا، ويحترم والدي رحمه الله .. قلت له “أهلا فلان .. أنا محظوظ إذن…” .. تصرف كما لو كان لا يعرفني وأظهر وجهه استياء بالغا… تفهمت الرجل فالوضع صعب…
أتي الرقيب سيدي محمد بالدواء.. أعطاني جرعة اليوم. ورفض ترك الدواء معي.. قلت: “دع عنك دوائي معي.. لمَ تأخذه؟”.
رد في وحشية: “أخاف عليك من الانتحار”، وخرج…
في المصحة لا حظت أن معتقلين كثرا كانوا مرضى…
12 ابريل:
حديث بين شرطيين عن شخص في حال خطرة… كنت حينما أسأل يقولون لا شيء… ومرة سمعت أحدهم في حديث هامس مع زميله ينطق اسم “لبات”.. سألته: سمعتك تذكر لبات ما به؟… قال أحدهما ” سأكون حارسه الليلة”…
كنت قلقا إلى أقصى حد بسبب الحالة التي رأيته عليها قبل أيام…
15 ابريل:
دخل الوكيل محمد.. وكنت متعبا جدا وفي غاية التبرم.. قال لي: “سيفرج عنكم قريبا”… اعتقدت أنه يريد فقط أن يخفف عني.. قلت: “لا أعتقد.. لجنة التحقيق ترفض أن أوقع محضري، مصرة على أن يكون فيه ما لا يوجد إلا في خيالها”.