كتاب “الدوائر السبع..” (6 من 17).. موسى جيبي: سجن الصحراء وركوب الإبل
……………………………أرسلتُ للصحراء.. أو بتعبير آخر إلى سجن المدى، إلى أرض من الصخور والرمال الجرداء القاحلة، وأنا ابن الضفة والماء والأرض الخضراء.
وجدتُ ضمن الفريق المُعيَّن لموريتانيا رفيق طفولتي ” آلاسان علي سِي”، كان الفرنسيون يطلقون علينا نحن مزارعي الضفة ” التُّكُولورْ” في حين يطلقون على ” البيل peuls” “الفولبي” سواء من ” فوتا تُورُو” أو فوتا جالون” من موريتانيا أو من غينيا.. علمتُ في داكار أنِّي من ” التُّكُولُورْ”! سمونا ” التُّكُولُورْ”!
لم يكن البيض يقدِّرون عِرْقيَّتنا، سبق أن قلتها لكِ وسأكرِّرها عليكِ.
بالنسبة لنا العرق هو اللغة، وكل ناطق “بالبولارية” هو بالانتماء من عرق “الهالبولارن”.
نَقلونا عند الفجر الى “روصو”، بِـ “اترارزة” ومنها الى الحرب.. أعداء فرنسا في كل مكان، وكانت تصلنا أنباء عن اشتباكات في الصَّحراء وبموت بعض “الرماة السود”.
حُشرنا كالأمتعة في شاحنات عسكرية.. سافرنا طويلا على أرض منبسطة عبر مدى لا ينتهي، كان معنا مجموعة من “السَّراغولي” من مالي ومن موريتانيا، و”وولوف” من موريتانيا ومن السنغال، و “بامبارا” من مالي، و”موشي” من بوركينافاسو.. توقَّفْنا لأسبوع في “اكجوجت”، حيث الحامية العسكرية مع وجود بضع منازل وبعض الخِيَّم.
في “أكجوجت” تلقيا على مدى أسبوع تدريبات شاقة لننتقل منها إلى “أطار”..
بهرني اتساع البادية، “أطار” مدينة صغيرة جدًّا شديدة الحرارة والبرودة، عانينا من الرياح المُحمَّلة بالحصى.. أي بلد هذا؟ لا نهر ولا حقول، وخصوصًا: لا بقر!
في “أطار” تَعلَّمنا ركوب الإبل، والرماية، وتفكيك واستخدام مختلف الأسلحة، من الرشاش الى الهاون.
ذات مساء سُمح لنا بالخروج، تجوَّلنا في المدينة وابْتعنا بعض التُّمور والفول السوداني، وهناك اكتشفنا أنه تماما مثل داكار توجد هنا أيضا أماكن مخجلة! فحيثما حل الفرنسيون يُسخِّرون بعض النساء.. وحتى بعض الرِّجال للفجور.
وقتها لم تكن مدينة “أطار” ذات قيمة، فعلاوة على الجيش لا يوجد إلا “البيظان” وبعض عبيدهم السُّود. وكانوا يهابوننا ولا يختلطون بنا… تم تقسيمنا بين الحامية ووحدات البادية.
أثناء التدريب على الاشتباك مع العدو، كنا نحاكي أحيانا بعض المعارك الوهمية، فنتعرض لهجوم مباغت من بعض وحداتنا الأخرى التي تمثل دور العدو، وكانت المفاجئة الكبرى أن من ضمن “العدو الوهمي” الذي “هاجمنا” يومها شقيقي الأكبر “آمادو” الذي فقدنا كل أثر له منذ سنين…صُعقت من هول الصَّدمة.. تعبثُ بنا الأقدار، وتفرقنا في الضفة، ليلتئم شملنا في فيافي “آدرار”… أسرتنا لا تعرف شيئا عن مصيره، ما إذا كان حيا؟ ما إذا كان سيعود يوما ما؟
ترقَّى “آمادو” ليصبح مسؤولا عن الراديو، حكيتُ له بحرقة عن كل شيء.. عن سيئات المستعمر، وعن حطِّهم من قدْرنا لمرتبة العبيد.. العبيد؟ العبيد في مجتمعنا لديهم حقوق، أما عبيد “البيض” فلا حقوق لهم.
عند ما يعتقلنا المستعمر سواء ليسخِّرنا لخدمته، أو ليفرض علينا إنجاز أعماله مجانا، أو للخدمة العسكرية، يتساوى الرجال، النبيل والعبد! يلقون علينا الأوامر بِصيَّغٍ مُهينة، وعلينا تنفيذها، ولا نتلقى أي تعويض…كان الأمر مُخزيا.. حتى عبيدنا المجندين معنا كانوا مصدومين من معاملتهم لنبلاء أمثالنا، نحن نبلاء، ولم تهيئنا تربيتنا الاجتماعية للتعامل مع مواقف مثل هذه.
حاول شقيقي تهدئتي، خصوصا أنه يعرف أني صعب التَّرويض ومتمرِّد بطبعي، طلب مني تَمثُّل قيم “هلايبه” الماجدة في الانضباط والصبر، ثم قال: لا قِبَلَ لنا بالمستعمر، ومادام لا يطالبنا بالتنازل عن ديننا الباقي يهون..
ما صدمي حقا وبشدة أن شقيقي النبيل يعمل كذلك طبَّاخا للفرنسيين ويعتبر ذلك امتيازا! طباخ!
…………………
يتواصل بإذن الله تعالى
…………………
ملخص من كتاب ” Les sept cercles, Une odyssée noire “، ” الدوائر السبع، ملحمة سوداء”، رؤية أحد ” الرماة السود” من مجتمع ” الهالبولار” الموريتاني لواقع استعمار موريتانيا، صدر سنة (2015م)، بالتعاون مع خبيرة الأنثروبولوجيا ” Sophie Caratini “، نشرته مطابع ” Thierry Marchaisse “، بفرنسا.