canlı casino siteleri casino siteleri 1xbet giriş casino sex hikayeleri oku
تحقيقات ومقابلاتموضوعات رئيسية

دراسة – الناصرية والدين – بقلم : د.مخلص الصيادي

بسم الله الرحمن الرحيم

تأصيل ومراجعة:

إن خير ما نقدمه للثورة في أعيادها وأيامها هو تأصيل ومراجعة مواقفها، وتجلية أفكارها، وتعميق رؤاها، وإعمال منهجها في فهم واقعنا، وتلمس مستقبلنا، ولعل ما أقدمه هنا خطوة على الطريق.

الناصرية والدين

د. مخلص الصيادي

مقدمة

يكاد يجمع الباحثون على أن ثورة 23 يوليو دخلت بمصر وبالأمة العربية ، في مرحلة جديدة ، وتجربة جديدة ، كان لها تجلياتها على المستوى الدولي ، ومثلت عنوان مرحلة كاملة بخصائصها ، وخياراتها التي لم تقتصر على النطاق المحلي ، وإنما امتدت إلى النطاق الدولي ، حتى ليصح القول إنه مع ثورة يوليو كان العالم يشرف ـ بفعلها وبفعل ما رافقها من أحداث ـ على أبواب عهد جديد .

كذلك يكاد يجمع المراقبون أيضا على أن الهزيمة التي منيت بها الثورة وكشفت عن طبيعتها ، ومداها عقب حرب رمضان ومسيرة الارتباط بالولايات المتحدة ، أدخلت مصر وثم الأمة العربية في خضم مرحلة جديدة ما زالت تعيشها حتى الآن ، وترافقت هذه أيضا مع تطورات دولية جذرية عمقت من تلك الهزيمة ، ووضعت الأمة في حالة من عدم التوازن ، والإهدار لطاقاتها ، ومواردها ، ومخزونها الحضاري قد لا يكون لها مثيل ، أو سابقة .

وإذا كانت قوى الأمة قد انقسمت في زمن ثورة يوليو بين مؤيد للثورة ، ومعارض لها وإذا كانت شواهد التاريخ الحاسمة تقول إن القوى الاجتماعية الأساسية وقفت مع الثورة في كل ما دخلته من معارك ومراحل وخيارات ، وأن القوى الشعبية المنظمة كانت تلاحق هذا الانحياز الشعبي وتحاول أن تتمثله ، وتعبر عنه ، فإن قوى عديدة منظمة كان يجب أن لا تقف ضد الثورة لكنها وقفت ، وكان يجب ألا تعادي الثورة ، لكنها عادتها ، وكان يجب ألا تصطف إلى جانب القوى التي حاربت الثورة وتحالفت مع الغرب الاستعماري في مواجهتها ، لكنها فعلت ذلك ، وإذا كان من الطبيعي أن تكون هذه القوى هي المسئولة عن مواقفها وخياراتها ، فإن مما لا يجوز إهماله أن الثورة وقواها كانت كذلك مسئولة عن هذا الوضع ، وفي الحد الأدنى فإن مسؤوليتها تنبع من المكانة التي وضعت نفسها فيها باعتبارها قائدة التغيير والمسئولة عن القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة فيه ومالكة أدوات التغيير الرئيسة ” الدولة :المؤسسات, والشرعية ، والقوة ، والموارد ” .

وعند هذا المعيار الفارق بين الثورة ، ومن عارضها ، فإنه لا تساوي ، وإن المسؤولية الأساس هي مسؤولية من يملك الدولة والقرار والإمكانيات .

من هي القوى التي نتحدث عنها هنا ؟

**هل هي قوى الإسلام السياسي ؟! ويبرز هنا على وجه الخصوص جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وامتداداتها العربية .

**هل هي قوى المصالح الإقليمية ؟!

**هل هي القوى اليسارية الماركسية ؟!

**هل هي القوى الشعبية العامة التي وجدت مصالحها في الثورة ، وتجاوبت معها ، وأعطتها كل ما تختزن من طاقاتها ثم لم تستطع الثورة أن تحسن استخدام هذه الطاقات فأضاعت قسما كبيرا منها في أروقة البيروقراطية ،

**هل هي القوى التي شاركت في صناعة الثورة ، ثم اختلفت مع جزئيات من حركتها فعزلت وأبعدت وتعطلت حركتها في وقت كانت تنمو فيه وتتمدد قوى انتهازية لا ارتباط حقيقي لها بالثورة وأهدافها ؟!

في التدقيق نستطيع أن نقول إنها كل هذه القوى ، وقد نجد كلما أمعنا النظر والتمحيص قوى أخرى ، كان يمكن ، أو كان يجب أن تكون مع الثورة ، أو أن تستطيع الثورة أن تجعلها جزء من حركتها اليومية والاستراتيجية ، وأن تطورها وتتطور معها لتكون في النهاية جزءا طبيعيا منها .

كل ما سبق حديث عما مضى ، لكن هدفنا فيما نريد ليس الحديث عن الماضي على أهمية ذلك الحديث في تقويم النظرة ،وتسديد الذاكرة ، وإنما التطلع إلى المستقبل ، وهذا التطلع من أهم نواتج بل ودوافع النظر في الماضي ، في التاريخ ،وإعادة قراءته وتفكيك رموزه ، وأحكامه لاستخلاص الحقائق منها ،

وقد نكون نحن المنتمين إلى تلك المرحلة ، الذين نرى تاريخنا ، وخياراتنا ، وحيويتنا فيها وفي رمزها ، وفي أعلامها ، وفي معاركها ، قد نكون نحن الأولى في إنجاز هذه المهمة ، والمسئولين أكثر من غيرنا عنها . ما دمنا نعتقد أن المستقبل الممكن لهذه الأمة لابد أن يكون متصل ومرتبط أشد الارتباط بتلك التجربة والمرحلة والثورة .

وقد اخترت أن تكون زاوية المراجعة هي الزاوية الدينية، أي هي موقف الثورة من الإيمان بالله ، ومن الدين عموما ، والدين الاسلامي على وجه الخصوص، وأعتقد أن هذه الزاوية هي الأهم لعمقها في حياة الأمة العربية، ولمكانتها عند كل فرد في هذه الأمة، وكذلك للأهمية البالغة التي اكتشفها الجميع في كل أنحاء العالم وفي كل المجتمعات للدين في وجود الإنسان وفي حياته ، وأخيرا لما شهدناه ونشهده في من استخدامات متناقضة ومتصادمة ومدمرة لهذا العامل المؤسس في وجود حياة الإنسان والمجتمعات .

إن المراجعة التي أدعو إليها ، وأبدأ بها هنا ، جاء جزء منها في إطار جهد أكاديمي قمت به قبل عدة سنوات ، وجاء جزء آخر مساهمة وتلبية لدعوة من أخوة أرادوا المساهمة والخوض في هذه المسألة.

ولأنني أعتقد أن الحديث عن الناصرية والإسلام هو في الجوهر حديث عن عبد الناصر والإسلام ، باعتبار هذا القائد هو رمز الثورة ومجسدها ، وكان دائما الأقدر في التعبير عنها ، وكان بحق المسؤول عن إنجازاتها وإخفاقاتها، وجاء الالتفاف الشعبي حول الثورة التفافا حوله، وحول رؤيته، فإنني اخترت أن أتناول هذا الموضوع من أربع زوايا محددة تصنع في مجموعها الاستهداف الذي أريد :

1ـ الإسلام في فكر جمال عبد الناصر .

2ـ الإسلام في ثورة جمال عبد الناصر ” أي في معترك الحياة التي راح يصنعها “.

3ـ الناصرية والنظام الإسلامي .

وقد جعلت كل زاوية من هذه الزوايا في حلقة خاصة على أمل أن تثير مناقشات ونقد يزيدها ثراء وتقويما وصوابية ، ويسمح بإعادة صياغتها لاحقا لتستوعب ذلك كله

الحلقة الأولى

الإسلام في فكر جمال عبد الناصر

لم يكن جمال عبد الناصر صانع ايدولوجيا ، أو فلسفة ، أو منشأ لها ، ولم يدع ذلك يوما ما ، ولكنه كان يبني نظرية تغيير تبدأ بمصر إقليمه الذي يعيش فيه ، ويمسك مقدراته ، وتمتد لتحيط بالأمة العربية ، ثم الإسلامية ، والإفريقية ، في نطاق ما يدعى بالعالم الثالث ، وفي مواجهة احتياجات التقدم والاستقلال

لذلك لم يجد نفسه مضطرا للخوض فيما بدأ به عادة أصحاب الفلسفات من محاولة الإجابة عن الأسئلة الأولى حول العالم ، والأسبقية ، وأولوية الخلق ، أو ما يحاول أصحاب الإيديولوجيات إقامته من أبنية فكرية ـ نظرية ، تكًون فيما بينها كلا منسجما متكاملا حتى ليخيل لأصحابها أنها تجيب على كل شيء.

فعنده أن رسالة الإسلام ” رسالات السماء ” أجابت عن كل هذه التساؤلات إجابات واضحة وقاطعة ، وأنه ما من أحد ملك ما هو أكثر رسوخا من تلك الإجابات ، أو حتى قاربها بدرجة اليقين أو المصداقية .

كذلك لم يجد نفسه بحاجة لأن يثبت إسلامية المجتمع المصري ، لذلك لم ينظر إلى مسالة الاسلام : الدين ، في المجتمع نظرته إلى إشكالية تحتاج إلى حل وعلاج ، كما نظرت بعض التيارات السياسية الدينية أو المضادة لها ، وإنما نظر إلى هذه المسالة نظرته إلى طاقة عظيمة مودعة في قلب هذا الشعب ، كان لها في الماضي شأن عظيم ، ولها في حاضر هذه الأمة ، وكذلك في مستقبلها الشأن نفسه .

وعنده أن المجتمع المصري مجتمع مسلم بالفطرة ، وليس مجتمعا جاهليا ، وإذا ما وجدت انحرافات أو شذوذ فهي أمور جزئية تتعلق بظواهر غير مستقرة ، أو بظروف مادية على الثورة أن تغيرها ، أما ما كان يشد نظره دائما فهو ضرورة التنبه واليقظة إلى كل ما يمكن أن يعطل هذه الطاقة العظيمة ، أو يعوق عملها واندفاعها ، أو يحرفها عن طريق الطريق الصحيح وفق ما يرى ، وفي هذا السبيل فقد وجهت فكره في المسألة الدينية مفاهيم رئيسية نضعها في نقاط محددة.

1ـ الدين والفكر الديني :

مما يلاحظ بوضوح أن جمال عبد الناصر ما وقف يوما يتحدث أو يعالج مسألة دينية إلا وفرق بين الدين والفكر الديني ، فينما هو يسلم بالأول فإنه يقف أمام الثاني وقفته أمام منتج اجتماعي يتأثر بكافة العوامل التي تتأثر بها الحياة الاجتماعية ، فالفكر الديني هنا جزء من البنية الاجتماعية ، وكما نرى في هذه البنية فكرا تقدميا ، وآخر رجعيا ، فكرا يريد أن يقلب الواقع ويغير موازينه ، وآخر يرى وظيفته في الحفاظ على هذا الواقع ، فإننا نرى فكرا دينيا تقدميا ، وفكرا دينيا رجعيا ، وهذا وذاك تتحكم فيه العناصر نفسها التي تتحكم بمختلف قوى الصراع والتأثير في المجتمع .

هذا التفريق بين الدين والفكر الديني ، بين الفكر الديني التقدمي ، وبين الفكر الديني الرجعي يمكن اعتباره دليلا إضافيا على الزاوية التي نظر من خلالها جمال عبد الناصر إلى المسألة الدينية ، وهي زاوية مهمته ” كقائد تغيير ” أو كمحرك لطاقات المجتمع في اتجاه محدد

لقد رسخ في عميق تفكيره أن الدين ” الإسلام أساسا “، وأديان السماء كلها ، تتطابق ومفاهيم العدل والتقدم والكرامة ، بل هي منشئة لها ، لذلك كان مجرد اصطدامه بالظلم أو الاستغلال أو الاضطهاد أو التبعية أو التخلف ، يعني اصطدامه بما ينافي جوهر الأديان والدين الاسلامي على وجه الخصوص ، ومن هذه الزاوية لم يُؤخذ كثيرا بالشعارات التي كانت القوى السياسية ترفعها ، أو كانت الدول المختلفة والتكتلات المختلفة ترفعها ، وإنما كان بصره مشدودا إلى جوهر ممارستها، لذلك نراه يتحالف مع حركات دينية إسلامية ويتصادم مع أخرى ، ويتحالف مع دول إسلامية ويتصادم مع أخرى ، ولم يكن معياره في هذا الموقف أو ذاك إلا تطابق مواقف هذه الحركات والدول مع قوى التغيير واتجاهاته ، أي تطابقها مع ما أشارت إليه مقاصد الشريعة الإسلامية اجتماعيا ، والمتتبع لسياساته الخارجية يلحظ مباشرة أن إسلامية الدولة أو القوة ليست الفيصل لديه في الوقوف معها أو ضدها وإنما عدالة موقفها أو تماشي هذا الموقف مع الحق والعدل

2ـ الوحدة الوطنية ـ المواطنة :

طرح جمال عبد الناصر بوضوح ودون أي مواربة رؤيته لعلاقة المواطنة بالدين ، فنفى أن يكون الدين محكا أو معيارا يحتكم إليه في تقريرها ، فعنده أن الوطن : مصري كان أو عربي وأي وطن ، يتشكل من مجموع مواطنيه ، على اختلاف أديانهم : مسلمين ومسيحيين ويهود أو أي ديانة أخرى، وأن محاولة بناء الوطن على غير هذه القاعدة محاولة تخريب لطاقات وإمكانيات عظيمة سيؤدي اجتماعها إلى دعم طاقات التغيير في الوطن ، والى تحقيق استقلاله ووحدته ونموه ، لذلك اعتبر جمال عبد الناصر أن القوى التي تقف ضد بناء الوطن على هذه القاعدة ، أو تعمل على التلاعب بهذه القاعدة ، هي قوى مدمرة ومضادة للوطن ، ويأتي في مقدمة هذه القوى الاستعمار العالمي ، والرجعية، ولم يعن طرحه إهمال أو عزل المسألة الدينية ، وإنما أراد تجنيدها لدعم وحدة الوطن وأهدافه ، واعتبر هذا جوهرا أصيلا فيها ،لقد امتدت رؤيته لهذه المسألة إلى المسالة الطائفية ، فكان يرفض تقسيم الأوطان أو إنشائها على أساس طائفي ، كما كان يرفض إقامة السلطة أي سلطة على أساس طائفي أو مذهبي ، إن هذا لا يعني إهماله للوجود الموضوعي للطوائف والمذاهب ، وتأثيرات هذا الوجود على الكيان السياسي ، ولكنها عنى بدقة عدم صلاحية هذه التقسيمات في إقامة دولة وفي إقامة مجتمع متماسك ، والذي يتتبع سياسة عبد الناصر في إفريقيا ، ودعمه لحركات التحرر في الصومال وفي تنزانيا وفي نيجيريا ، يدرك هذه الخط الواضح في سياسته ، كذلك من اضطلع على تفاصيل موقف قيادة ثورة يوليو وتوجيهاتها فيما يخص مشروع الثورة الإيرانية ، وفيما يخص نظرة هذا المشروع للمذهبية الشيعية وللعرب الشيعة في العراق يكتشف عمق ووضوح نظرة هذه القيادة للقضية الطائفية . “إن الوثائق تكشف تفاصيل مهمة حول هذا الجانب من رؤية الثورة ويمكن تلمس بعض منها في كتاب محمد فائق: “عبد الناصر والثورة الأفريقية” ، وكتاب فتحي الديب :”عبد الناصر والثورة الإيرانية”

3ـ قوة المسلمين وتضامنهم :

وفي نظرته للعبادات نراه يؤكد تمسكه بمنظور رجل التغيير فيهتم أساسا بالأثر الاجتماعي لها ، ويدعو إلى تجلية هذا الأثر وتدعيمه ، وتأكيد الأبعاد النضالية التغييرية لهذه العبادات ، ولعل أكثر النصوص دلالة ووضوحا وتكاملا في عرض نظرته إلى الطاقات العظيمة التي توفرها العبادات الاسلامية في معركة الحياة ذلك النص الوارد في فلسفة الثورة الذي يتحدث عن الحج من خلال تسجيله لخواطر جاشت في نفسه وهو يقف أمام البيت العتيق فيقول ” يجب أن تتغير نظرتنا إلى الحج ، لا يجب أن يصبح الذهاب إلى الكعبة تذكرة سفر إلى دخول الجنة بعد عمر مديد ، أو محاولة ساذجة لشراء الغفران بعد حياة حافلة ، يجب أن يكون للحج قوة سياسية ضخمة ، يجب أن تهرع صحافة العالم إلى متابعة أنبائه لا بوصفه مراسيم وتقاليد تصنع صورا طريفة لقراء الصحف ، وإنما بوصفه مؤتمرا سياسيا دوريا يجتمع فيه كل قادة الدول الاسلامية ، ورجال الرأي فيها ، وعلماؤها ، في كافة أنحاء المعرفة ، وكتابها ، وملوك الصناعة فيها ، وتجارها ، وشبابها ، ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطا عريضة لسياسة بلادهم وتعاونهم معا ، حتى يحين موعد اجتماعهم من جديد بعد عام .

يجتمعون خاشعين لكن أقوياء ، متجردين من المطامع عاملين مستضعفين لله ، لكن أشداء على مشاكلهم وأعدائهم ، حالمين بحياة أخرى … ولكن مؤمنين أن لهم مكانا تحت الشمس يتعين عليهم احتلاله في هذه الحياة “

وعلى قاعدة هذه النظرة إلى الإسلام ، نظر إلى الإطار الاسلامي الدولي ، إلى العالم الاسلامي ، وإلى الإسلام في الإطار العالمي ، فجاء العالم الإسلامي عنده كإطار روحي ثقافي يجب أن يولد حركة عملية ميدانية ، ولكنه ليس كيانا سياسيا تبنى على أساسه دولة واحدة , ويبدو أن هذه النظرة كانت وراء سعيه إلى إيجاد تجمع إسلامي عريض ، وهو ما تم الاتفاق عليه مع الملك سعود وإن لم يتيسر لهذا الاتفاق أن يعطي ثماره ، فقد ذكرت صحيفة الأهرام أنه تم الاتفاق على اجتماع المؤتمر الاسلامي الأول في الرياض بعد موسم حج عام 1955 وتأليف مجلسه الأعلى برئاسة الملك سعود وعضوية عبد الناصر، وغلام محمد رئيس باكستان .

وحين يستعرض في فلسفة الثورة الدوائر التي تحيط بمصر يحددها بثلاث دوائر : الدائرة العربية ، والإفريقية ، والإسلامية ، لكن لا يطابق أو يساوي بينها وبالتالي لا يعطيها الوزن نفسه ، أو الجدوى العملية نفسها ، فالدائرة العربية دائرة أمة واحدة ، أما الدائرة الإسلامية فدائرة عقيدة وتاريخ ، والدائرة الإفريقية دائرة جغرافيا واستراتيجية .يقول عبد الناصر :

” أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الإسلامية فحسب ، وإنما تشدها حقائق التاريخ …”

وحين حدد ديناميكية وحيوية العلاقة بين مصر وأمتها ، وحضارتها الإسلامية كشف عن الدور المميز لمصر في هذه العلاقة ، يقول عبد الناصر :

” وليس عبثا أن الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي ، الذي أغار عليه المغول الذين اكتسحوا عواصم الإسلام القديمة ، تراجع إلى مصر وأوى إليها فحمته مصر ، وأنقذته ، عندما ردت غزو المغول على أعقابه في عين جالوت “

وهذا التحديد للصلات والعلاقات العقدية ـ التاريخية مع الدائرة الإسلامية وهذا الدور الذي يتطلع أن تستمر مصر في تحمل أعبائه ، وأن تقوم به في مرحلتها الجديدة على أحسن وجه ، بقي يتردد في مواقفه وآرائه باستمرار ، وبقي يربط عنده بين فاعلية هذه الدائرة ، ودواعي التغيير ، والعمل الكفاحي الذي يدعو إليه ، فحين استقبل ملك أفغانستان عام 1960 أعاد تأكيد هذه المعاني بقوله :

” إن الصداقة التي تجمعنا مع أفغانستان ليست بالصداقة الجديدة ، لكنها صداقة قديمة، متينة، وطيدة، فمنذ بدأت الدعوة الإسلامية، وانتشرت رسالتها للشرق والغرب، منذ بدأت هذه الدعوة جمعت بيننا روابط الإسلام، وروابط الأيمان، وروابط المحبة .. ثم جمعت بيننا روابط الكفاح من أجل التغلب على الاستعمار ، ..”

هذه المعاني ذاتها راح يؤكدها مجددا في العامل 1967 وهو يستقبل الرئيس الموريتاني في القاهرة ، ويشير في كلمته إلى الأزهر الشريف ليضعه في سياق تحقيق مستلزمات الدائرة الإسلامية تاريخا وحاضرا فيقول :

“وفضلا عن صلات تاريخية وإسلامية عريقة ووثيقة جمعت ما بين الأمة العربية في المشرق ومابين الأرض التي وصل إليها نور الإسلام في الغرب ، وهي صلات أنتجت طاقات حضارية هائلة … وحققت تجانسا فكريا له آثاره البعيدة المدى .. فضلا عن ذلك كله فإن البعوث الموريتانية إلى الأزهر الشريف وقد كانت من اكبر البعوث الاسلامية إليه في التاريخ القريب ، صنعت خط اتصال مباشر ما بين التيارات المؤثرة على اتجاه تطور البلدين “

وفي العام 1964 كان جمال عبد الناصر في أوج صراعات داخلية ودولية مع قوى ترفع شعارات إسلامية } الإخوان المسلمون ، الحلف الاسلامي ، حرب اليمن { ، وفي الوقت نفسه كان في أوج تألقه الدولي من خلال الأدوار المتميزة له في إفريقيا ، وفي مجموعة دول عدم الانحياز ، .. في هذا الظرف حاول صحفي غربي أن يكشف مدى تغير دور وأهمية العالم الإسلامي في نظر جمال عبد الناصر وفي حركته ، فسأله قائلا :

” ذكرتم فيما سبق أن كتبتموه أن مصر مركز لثلاث دوائر هي : العالم العربي ، والاسلامي ، وإفريقيا ، هل تغير تصوركم لهذا الوضع بعد أن زاد عدد دول عدم الانحياز ، وبعد أن تغير الوضع كثيرا في أفريقيا كثير ؟”

——————————————————————————– فجاء جواب عبد الناصر مؤكدا : ” إن الدور الذي يؤديه الإسلام دور قائم وفعال ، ولقد تسألني لماذا تبدو علاقاتنا مع الهند أقوى منها بإيران المسلمة ، وأقول لك إن الخلاف بين الحكومة المصرية والحكومة الإيرانية ، لا يمكن أن يعوق أو يحجب العلاقة بين الشعب المسلم في مصر ، والشعب المسلم في إيران إن العلاقات الدولية بظروفها الموضوعية لها أحكامها ،ولكن ذلك لا يتناقض ولا يتعارض مع تعاطف الشعوب التي تعتنق نفس الدين ، لقد تحدثت في فلسفة الثورة عن دور إفريقي لمصر ودور آسيوي ، وعن دور العالم الاسلامي ، ولست أرى تصادما بين هذه الأدوار الثلاثة ، أو احتكاكا بين دوائرها ” 4ـ التوحيد الاجتماعي ، والتقارب المذهبي حمل جمال عبد الناصر فكرة التوحيد الاجتماعي والتماسك التي حث عليها الإسلام ، ورأى ضرورة تجسيدها في مجتمع المسلمين ، لذلك شجع على الوحدة ورأب الصدع بين المذاهب الاسلامية ، وأن تعود مسائل الخلاف فيما بينها على نحو لا يفسد العلاقة الدينية والاجتماعية ولا يؤثر في بنية المجتمع ووحدته باعتبار أن الاسلام دين وحدة وتماسك ، ولم تكن هذه الفكرة طارئة على الحياة الفكرية الاسلامية ، فهي على أقرب الفروض نتاج الفكر التوحيدي الإصلاحي لمفكري النهضة : عبد الرحمن الكواكبي في أم القرى ، وجما ل الدين الأفغاني في كل تراثه ، والأستاذ الإمام محمد عبده . إن تطور فكرة التقارب بين المذاهب الاسلامية لم تنتقل من رواد الإصلاح } الكواكبي، والأفغاني ، عبده {، إلى مرحلة جمال عبد الناصر مباشرة، وإنما نمت ونضجت على مدى المساحة الفاصلة بين هاتين المرحلتين ، ويذكر أن الشيخ محمد مصطفى المراغي تسلم زمام الدعوة إلى التقريب بين الطوائف الاسلامية ، ورفع لواء هذه الدعوة / ويروي الشيخ عبد المنعم النمر أن محادثات دارت بين المراغي وزعماء الشيعة في هذا الأمر ، وأيضا مع آغا خان في فبراير 1938 :” ثم زاره بعد ذلك أحد كبار الشيعة في إيران وتحدثنا في ذلك ، وكان يرمي إلى إيجاد روابط أو تكوين هيئة دينية تستهدف : ـ تأكيد الروابط بين المسلمين ـ إيجاد تضامن وتنسيق بين الهيئات التعليمية عامة ، والتعليم الديني بصفة خاصة ـ العمل على تبسيط قواعد الدين الاسلامي وتعاليمه . ـ محاولة التوفيق بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم .” ويضيف الدكتور النمر في وصف الشيخ المراغي إزاء هذا الأمر بقوله : ” وكان له في هذا طريقة ومنهاج ، وتبقى هذه الفكرة ، فكرة التقريب بين المذاهب جزءا من الهموم الفكرية الدينية ، ومع الأيام الأولى للثورة يكتب الشيخ رضوان الشافعي المتعافي رئيس المحكمة الشرعية في الجيزة عن ضرورة توحيد المذاهب الاسلامية كلها بدون تفضيل لأحدها على بقيتها ، وإنما التفضيل يكون في كل مسالة ” ويحضر إلى القاهرة الشيخ محمد تقي القمي أحد قادة المذهب الشيعي الإثني عشري الذين حملوا هم توحيد المسلمين والتقريب بين مذاهبهم فوق كاهله حتى لقي ربه في باريس عام 1989 ، يحاضر في المركز الرئيس لهيئة التحرير عن مشكلة الطائفية في الاسلام وعلاجها ، ويدعو إلى التقريب بين المذاهب الاسلامية الستة ، وهي ،مذاهب السنة الأربعة ،ومذهب الزيدية في اليمن ، ومذهب الشيعة الإمامية . إن فكرة التقريب بين المذاهب ، وجعل التباين بينها تباين غنى وثراء ، ودعم للوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي لها جذور قبل ثورة يوليو ، لكنها في ظل الثورة لقيت عناية خاصة ، ووضعت الثورة جهدا خاصا في سبيلها ، وحمل الفقيه الإمام محمود شلتوت هذا الجهد بوعي ووضوح ، وبامتلاك الأدوات باعتباره الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وباعتباره فقيه الأمة في عصره، وقد سطر فلسفة هذا الموضوع وخطواته بقوله :”ولقد تنبه المصلحون من المسلمين إلى الأضرار التي تحيق بدينهم وبلادهم جراء هذه الفرقة ( فكانت جماعة التقريب بين المذاهب )… وكان من أثر ذلك أن قررت مشيخة الأزهر أخيرا أن تتوسع في دراسة الفقه المقارن في كلية الشريعة الاسلامية الأزهرية بحيث تتناول ستة مذاهب هي مذاهب السنة الأربعة ، والمذهب الشيعي الإمامي ، والمذهب الزيدي ، ومعرفة وجهة نظرها في الأمور الفرعية ” وأضاف الشيخ شلتوت قوله : ” وليست الدعوة إلى تقريب المذاهب دعوة إلى لقاء مذهب على حساب مذهب ، ولكنها دعوة إلى تنقية المذاهب من الشوائب التي أثارتها العصبيات وأذكتها العقلية الشعوبية” ، وفي إطار هذا التفكير جاء عمل لجنة التقريب بين المذاهب التي كان من نتائجها اعتماد تفسير}مجمع البيان لعلوم القرآن { للطبرسي مع مقدمة خاصة كتبها الشيخ محمود شلتوت. إن قضية التقريب بين المذاهب ونشاطات هذه اللجنة وظروفها تستحق بحثا خاصا ، إلا أن ما يهمنا هنا دلالات هذه الظاهرة في فكر ثورة يوليو . هذه هي آفاق نظرة قائد ثورة يوليو إلى المسألة الدينية ،وهي نظرة تحكم قائدا سياسيا يريد أن يغير مجتمعا، وتعتمل في جنبات تفكيره نظرية تغيير هي في حقيقتها قلب للموازين الاجتماعية ، والقوى الاجتماعية في المجتمع المصري . 5ـ الفطرة الإيمانية : إذا كانت المفاهيم الأربعة التي جئنا عليها تعبر عن خيار واع وإدراك محدد لدور الدين في الحركة الاجتماعية للثورة ، فإن من المفيد أن نتلمس مكانة الدين في فطرة قائد الثورة، وفي بنيته النفسية والشخصية وهذه مسألة لا يحسمها شاهد هنا، وآخر هناك، وإنما الاستدلال عليها يحتاج إلى تتبع اللفظة الدينية في خطبه وأحاديثه وتتبع مسلكه الشخصي، ثم بعد هذا التتبع نستطيع أن نلمس بعض الاستشهادات المميزة في أحاديثه . والذي يلفت انتباهنا أن جمال عبد الناصر الذي يظهر في الكثير من المواقف، وإزاء الكثير من القضايا رجل فكر يطرح المسائل، ويناقش الآراء، ويجتهد هنا وهناك، فإنه أمام اللفظة الدينية يبدو إنسانا مصريا عاديا يختزن في داخله كل ما يختزن الإنسان المصري من فطرة الإيمان، والتوكل، والتسليم، والبحث عن الرضا، ويملأ خطبه وأحاديثه بالافتتاحية الاسلامية، فباسم الله يفتتح استادا رياضيا، وعلى الله يعتمد وهو يسير في بناء البلد، ويحمد الله دائما “الذي أعاننا على أن ننتصر على أعداء الوطن مهما كانت قوتهم” وحينما يسأله صحفي أجنبي ” ما ذا يعني الله بالنسبة إليك ” يجيب ببساطة ” آتي هذا العمل لأن الله يرضى عنه، ولا آتيه لأنه لا يقبل به ” وإذ يتحدث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يسلط الضوء على مفاهيم يريد لها أن تسود المجتمع، ويعمل على تمثلها، يقول ” كان محمد عليه السلام نقي السر والعلن، طهور الظاهر والباطن، لا يوجد بين حياته الخاصة والعامة حجاب، فسيرته في نفسه، وفي بيته، كسيرته بين الناس، ودعوته التي يعرض على الناس أصولها كان أول الناس احتكاما لها وأخذا بها، فما عرفت منه ريبة، ولا وقع تناقض بين سلوكه الخاص ، وسلوكه العام ” وحين يريد أن يوجه الناس حتى يكتفوا من الابتهاج بولادة الجمهورية العربية المتحدة بالقدر الذي تم، ويتوجهوا إلى العمل فإنه يقول لهم ” فلننه اليوم هذه الاحتفالات ،ولنتجه إلى العلي القدير، حتى يهدينا، ويرشدنا، ويوفقنا، إنه قدير سميع الدعاء “. وحينما يريد أن يحدد مصادر القوة عنده يقول: ” هذا أيها الأخوة هو سبيلنا، إننا نؤمن بالله، ونؤمن بالشعب العربي، إننا نؤمن بقوة الله، ونؤمن بقوة شعبنا العربي، هذا هو سلاحنا، وهذا هو سبيلنا، والله يوفقكم والسلام عليكم “. وحينما ينظر إلى بيروت وهي تتعرض لعدوان الأسطول السادس الأمريكي عام 1958 والى عمان ونابلس وغيرهما من مدن الأردن والضفة الغربية وهي تئن تحت حمى التدخل العسكري البريطاني فإنه يقول :”أيها الأخوة : سوف تنتصر بيروت بعون الله، وسوف تنتصر عمان بعون الله، وسوف تنتصر القدس أيضا ـ أيها الأخوة ـ بعون الله، وسوف تنتصر نابلس، وسوف تنتصر رام الله، وسوف تنتصر كل مدينة عربية مجاهدة اتجهت إلى الله، واستعانت بالله، وصممت على أن تكافح في سبيل حرية وطنها، وفي سبيل استقلال بلادها، وفي ألا تكون للاستعمار مقرا وممرا.. ” بل إنه حينما يدافع عن رؤيته لسبل الوصول إلى نظرية للعمل الوطني ” وقد اعتمد في ذلك التدرج والتجربة” فإنه يستشهد بالمنهج الإلهي في إنزال القرآن الكريم على مدى سنوات عدة، وكان ممكنا إنزاله من اللوح المحفوظ إلى رسول الله دفعة واحدة ، كما حدث مع أنبياء سابقين، ويرى عبد الناصر أن الله جل وعلى أراد فيما أراد من ذلك تعليمنا على المنهج الصحيح في العمل وهو التدرج والاستفادة من التجربة والخبرات المتراكمة “ربنا أدانا مثل في هذا علشان نطبقه في الحياة، في الإسلام، كان يقدر ينزل مع سيدنا جبريل كتاب مطبوع ومتجلد ويقول له دي النظرية، أدي القرآن، أدي العقيدة، ما عملش كده علشان يدينا في هدينا عبرة لينا وعظة لينا نتبعها … بيمشي مرحلة ورا مرحلة، ورا مرحلة لغاية ماجه في الآخر وحرمها ( الخمر) . 23 سنة لغاية ما نزل القرآن، ليه ربنا عمل ؟ حتى يعطينا الفرصة والدليل أو الوسيلة التي نعمل بها في حياتنا” إن الإسلام عند عبد الناصر في كل ما تقدم لا يبدو إسلام فلسفة، وإنما تدين فطرة، انسياق طبيعي مع النفس، شأنه في ذلك شأن أي مواطن عربي مسلم، عرف الإسلام بالوراثة، وبالممارسة، وبالطبيعة التي جعل الله عليها الخلق، وهو إلى جانب هذا إسلام قوة وتغيير حيث يستمد القائد السياسي من دينه معاني القوة، ومعاني التعاضد، ومعاني العزة ، ولقد سبق له أن حدد فهمه لدعوة القوة والإتحاد هذه حينما كتب قائلا :”أيها العرب، أيها المسلمون، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، بأن تكونوا يدا واحدة على من عاداكم، مسلمين لمن سالمكم، ولا تفرقوا، ولا تهنوا، فأنتم الأعلون، وليست هذه عبارة ألفظها من الشفاه، أو يرددها اللسان، ولكنها نابعة من قلبي المؤمن إيمانا عميقا بدعوة الإسلام، التي هي دعوة القوة والسلام، فهل تضعون أيديكم في يدي، وهل تلبون الدعوة الحارة من قلب يؤمن بالعروبة والإسلام، وليس يكفيني أن بلغت، وأشهدت الله على أني بلغت، ولكني سأسعى ما حييت، بكل ما فيً من جهد وعزم وإيمان لتصبح هذه الدعوة حقيقة لا ريب فيها، والله على ما أقول شهيد ” ويبدو أن هذه الطبيعة المؤمنة الفطرية المستقرة هي التي دفعت أحد الذين رافقوه فترة طويلة ( الشيخ أحمد حسن الباقوري ) أن يكتب بعد أربعة عشر عاما من رحيله ، وبعد أن صار الأخذ على جمال عبد الناصر أمرا تؤجِر عليه جهات كثيرة قائلا : ” أشهد أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان مصريا عريقا، وعربيا مسلما حرصا على الأمانة التي جعله الله أمينا عليها، وأشهد أنه عمل أعمالا في الخفاء يرضى عنها الله ورسوله والمؤمنون، والله تعالى أسال أن يضمه فيمن يقبل من عباده الصالحين”. إن هذه الفطرة الإيمانية معيار في فهم موقف عبد الناصر من كل ما يخص ويرتبط ويتصل بالإسلام، بغض النظر عن الصواب والخطأ في تلك المواقف، إنها الكاشف وأداة التمييز بين الموقف البراغماتي، والموقف المبدئي، بين القناعة الإيمانية، والموقف المصلحي الذي تفرضه الظروف المتغيرة

الناصرية والدين

الحلقة الثانية

مقدمة :

في الحلقة الأولى سلطنا الضوء على الإسلام في فكر جمال عبد الناصر باعتباره قائد عملية التغيير، وعلى المفاهيم الرئيسة التي حرص على تثبيتها ورأى أهميتها في تدعيم بنية المجتمع وتحصينه والنهوض به ، وكان في مقدمتها اعتماده التفريق بين الدين والفكر الديني، وبناؤه وحدة الوطن على مفهوم المواطنة، وبحثه عن وحدة المسلمين وتضامنهم، واعتماده سبيل التقريب بين المذاهب الإسلامية تأكيدا لتلك الوحدة وحفظا لقوة المسلمين، ثم ختمنا الحلقة الأولى بالوقوف على الفطرة الإيمانية التي ملكها جمال عد الناصر وأهميتها باعتبارها التعبير الأصيل وغير القابل للتزوير والمخادعة عما يختزنه الفرد من توجه إيماني ، وفي هذه الحلقة وهي الثانية ننظر إلى الإسلام في معارك ثورة يوليو وسياساتها

الحلقة الثانية

الإسلام في معارك ثورة يوليو

في العلاقة بين الدين وثورة يوليو كان توجه قيادة الثورة إلى إظهار قوة التغيير الثورية التي يحملها الدين عموما والدين الإسلامي على وجه الخصوص، ولم تقدم الثورة على الالتجاء إلى الدين ومصطلحاته ومخزونه الشعبي والتاريخي والفقهي إلا في إطار هذه القوة الثورية ، وذلك عن إيمان أصيل لديها بأن هذا هو جوهر رسالة السماء وبأن تاريخ هذه الرسالة في حضارتنا العربية الإسلامية جسد دائما هذا المعنى، ومن هنا فإن استخدامه لهذه القوة العظيمة لم يأت من قبيل الاستخدام السلبي، أو الاستخدام الغيبي ، وإنما من قبيل الاستخدام الاجتماعي التغييري، فلم يعرف عن الثورة وقائدها أن ذهبا في اتجاه تكفير الخصم، وإنما في اتجاه إظهار ظلمه، أو عدم أمانته، أو استبداده، أو تعاونه مع الأجنبي تعامل استتباع وانصياع، أو تبذيره وإضاعته لأموال الأمة وثرواتها،
إن هذا الزاوية في التعامل مع قوة الدين في معارك الحياة تتناسب تماما مع ما أشرنا إليه من أن الثورة نظرت للإسلام باعتباره قوة تغيير كبرى.

ومن هذه الزاوية كانت نظرة الثورة إلى الأدوات والأجهزة الدينية المتوفرة في المجتمع، إنها أعادت النظر فيها من هذه الزاوية بالتحديد، كما أعادت النظر في كل أجهزة الدولة لتتسق مع مشروعها الثوري، ويقر الدكتور حسن حنفي في كتاب عبد الناصر بقلم رفاقه ومعاصريه قائلا :”لقد ظهر البعد الثوري للدين في معظم المعارك التي دخلها جمال عبد الناصر ”

ومما تجدر ملاحظته قبل تتبع مسار هذه الاستخدامات أنه لا يذكر لأي قوة سياسة داخل مصر، ولا لأي معركة إعلامية أو دعائية بين البلدان العربية والإسلامية أن جعل الإسلام سلاحا يستعين به الخصمان كل في مواجهة الآخر قبل هذه المرحلة رغم فساد الأنظمة السابقة على ثورة يوليو، ورغم طبيعة الأنظمة العربية وأنظمة العالم الإسلامي التي كانت سائدة في تلك المرحلة، إن هذه الملاحظة نذكرها للتدليل على أن المعارك التي خاضتها دول المعسكر المعادي ورفعت فيها رايات الدين بغير حق لم تكن بسبب موقف عبد الناصر من الدين عموما وإنما بسبب نظرته ” الثورية ” للدين وأثره ودوره في المجتمع وبسبب سياساته وتوجهاته وخياراته داخليا وعربيا ودوليا، وقد تستر هؤلاء بالقضية الدينية ظلما وعدوانيا واستخداما معيبا لأسمى ما يمتلكه الفرد والمجتمع .

كما أنه مما تجدر ملاحظته أن استخدام الثورة لسلاح الدين في مواجهة تنظيمات ودول عربية وإسلامية لم يكن أبدا بمبادرة من نظام الثورة وإنما جاء ردا على استخدام مسبق من هذه الجهات لهذا السلاح، لقد استخدم عبد الناصر المسألة الدينية بإجمالها كقوة تغيير، فأبان ما يختزن هذا الدين من طاقات الثورة والتغيير، أي أنه استخدمه استخداما ايجابيا في توضيح انتماء انحيازات الثورة داخليا وخارجيا وفي المستويات كلها إلى مخزون قيم الدين وتجربته التاريخية، لكنه لم يجعله سلاحا في وجه الآخرين، وقد اضطرت الثورة إلى ذلك فقط حينما استخدم الآخرون الدين في الهجوم على الثورة ومحاولة تجريدها من هذه القوة العظيمة، ومحاولة حرف هذه القوة وجعلها مؤيدة لواقع الاستغلال والاستعباد والاستبداد والتبعية للخارج .

في صلب التغيير الذي راح ينادي به قائد الثورة ارتفعت شعارات :

** العدالة الاجتماعية لأوسع جمهور ممكن ، وبأوسع مفهوم ممكن
** الوحدة الوطنية باعتبارها قوة البناء الوحيدة القادرة على تحمل مشروع الثورة
** حشد الطاقات الشعبية من خلال تشكيل كتلة اجتماعية كبرى ذات مصلحة بالتغيير
** استقلالية الإرادة الوطنية ، وتعبيرها عن المصلحة الوطنية والقومية
** القيام بواجبات عبقرية المكان على مختلف المستويات : العربية والإسلامية والإفريقية ، والدولية .

وفي كل مسالة من هذه المسائل طُرحت مفاهيم وأفكار احتكت مع ما استقر في فكر جمال عبد الناصر وضميره دينيا، فوجدت لها سندا، أو بحثت لها عن سند، أو حركت أداة دينية لدعمها، أو تجاوبت معها أداة دينية :

1ـ في مسألة العدالة الاجتماعية ، وتصحيح الميزان الاجتماعي، طرحت قضية الإصلاح الزراعي، وتحديد الملكية، وكانت هذه فاتحة التغييرات على صعيد النظرة إلى الملكية الخاصة وعلى صعيد دورها في تنمية المجتمع، هذه النظرة التي تطورت لديه حتى استقرت أخيرا في مفهوم اشتراكي خاص يقوم على ثلاثة أنماط من الملكية ”
** الملكية الخاصة
** الملكية التعاونية
** الملكية العامة
هذه المسألة حركت وحرضت أفكارا عديدة راحت تبحث عن أصولها في تراث الأمة عموما، وفي تراثها الديني على وجه الخصوص، فقهيا وتطبيقيا، ويكثر هنا حديث جمال عبد الناصر عن أبي ذر، وعمر رضي الله عنهما، وعن شركة المسلمين في الماء والكلأ، وعن مقصد العدل في الإسلام الذي هو من أهم خصائص هذا الدين، ويشدد في هذا المجال على مفهوم ودور الملكية الخاصة بوصفها وظيفة اجتماعية.
والاستشهاد على ذلك ممتد في الحوارات التي أجراها عبد الناصر مع أعضاء المؤتمر الوطني الجامع الذي أقر الميثاق الوطني عام 1962، وفي كل حواراته اللاحقة التي اختصت بشرح المسار الاشتراكي والتنموي للثورة.

ولقد جعل هذا الموضوع في مقدمة ما بحثه مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الأول عام 1964 والذي حضره علماء وفقهاء يمثلون 42 دولة إسلامية وجاء فيه ” يقرر المؤتمر بعد الدراسة المستفيضة لموضوع الملكية أن حق التملك والملكية الخاصة من الحقوق التي قررتها الشريعة الإسلامية، وكفلت حمايتها، .. وأن من حق أولياء الأمور في كل بلد أن يحدوا من حرية التملك بالقدر الذي يكفل درء المفاسد البينة ، وتحقيق المصالح الراجحة، وأن أموال المظالم وسائر الأموال الخبيثة، والأموال التي تمكنت فيها الشبهة، على من في أيديهم أن يردوها إلى أهلها، أو يدفعوها إلى الدولة، فإن لم يفعلوا صادرها أولياء الأمور، ليجعلوها في موضعها وإن لأولياء الأمور أن يقرروا من الضرائب على الأموال الخاصة ما يفي بتحقيق المصالح العامة … يقرر المؤتمر أن موضوعات الزكاة والموارد المالية في الإسلام، وطرق الاستثمار وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات، وحقوق الملكية العامة والملكية الخاصة من بين موضوعات الساعة، لأنها ملتقى شعبتين من شعب الشريعة الإسلامية، وهما العبادات والسلوك الاجتماعي، ويقرر أن تكون هذه الموضوعات محور نشاط المجمع في دورته القادمة “.

2ـ وفي مسالة الوحدة الوطنية يتحدث عبد الناصر عن ضرورة التلاحم بين عناصر الأمة، وكيف يحارب الإسلام الطائفية، ويسلط الضوء على حقيقة الغزو الصليبي، وكيف أنه تستر بستار الدين.

إن وحدة الجبهة الداخلية واستخدام المخزون الشعبي من القيم والأفكار والمبادئ كانت من العناصر الرئيسة التي عمل على تحقيقها لذلك نراه يقف على منبر الأزهر الشريف لينادي الأمة أن تدافع عن كرامتها، ويطرح شعاره في مواجهة العدوان الثلاثي : “سنقاتل”، ويقف أمام أرض خصصتها الدولة لبناء كنيسة رئيسة ” كاتدرائية ” في القاهرة ليجسد معنى الوحدة الوطنية، يقول عبد الناصر في هذه المناسبة ” على مر العصور كان المسيحيون والمسلمون أخوة منذ عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلك “. ويقول ” إن الثورة تنظر إلى العلاقة بين الأديان من منطلق المحبة والإخاء والمساواة، وأنه بتكافؤ الفرص يمكن خلق المواطن القوي الذي لا يعرف للطائفية معنى ولا يحس بها، بل يحس بالوطنية التي يشعر بها الجندي في ميدان القتال”
وحينما يتحدث عن ثورة 1919 يبرز معاني الوحدة بين عنصري الأمة : المسلمين والمسيحيين

3ـ وفي الاستجابة لحاجات المسلمين في مختلف أنحاء العالم جاءت فكرة تطوير الأزهر، والعمل على جعله يلبي احتياجات المجتمع الإسلامي في أن يتوفر لدية علماء في مختلف شؤون الحياة وقد توفرت له معرفة دينية صحيحة ، والذي يراجع الجاني التاريخي في عملية تطوير الأزهر التي جرت في مصر على قاعدة القانون رقم 103 لعام 1961 سوف يكتشف أن لم يأت لتلبية حاجة داخلية كان الأزهريون والأزهر يتطلبها فحسب وإنما جاءت تلبية لحاجة إسلامية أبلغها قادة المجتمع الإسلامي للرئيس عبد الناصر حينما كان في زيارة لإندونيسيا ن وقد ثبت هذا الاستهداف في المذكرة الإيضاحية التي قدمت للقانون والتي جاء فيها :

“والإسلام في حقيقته لا يفرق بين علم الدين وعلم الدنيا ، لأنه دين اجتماعي ينظم سلوك الناس في الحياة ليحيوا حياتهم في حب الله عاملين مؤثرين في المجتمع في طل طاعة الله ، ولأن الإسلام يفرض على كل مسلم أن يأخذ بنصيبه من الدين والدنيا : فكل مسلم يجب أن يكون رجل دين ورجل دنيا في وقت معا ، والله في يقين المسلم اقرب إليه من حبل الوريد ، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، فليس في حاجة إلى شفيع أو وسيط يقربه إليه … وفي كثير من البلاد التي تخلصت حديثا من ربقة الاستعمار رغبة في التخطيط للبناء والعمل والإنتاج في مجالات الصناعة والتجارة والتعدين والتعليم والصحة وغيرها من أسباب النهوض ، وحين تلتمس الخبراء من كل نوع من أنواع هذا النشاط ، لا تكاد تجد إلا أجانب عن بيئتها ودينها ، من المواطنين وغير المواطنين، وحين تلتمس من المواطنين خبراء يملكون مع الخبرة معارف دينية صحيحة وعقيدة واعية لا تكاد تعرف أين توفدهم ليتعلموا ويستفيدوا الخبرة والمعرفة والعقيدة وهي عناصر ثلاثة ضرورية لتستكمل هذه البلاد نهضتها ، وتمضي في وجهها على الطريق السوي ”

وقد استكمل هذا التطوير بتشكيل مجمع البحوث الإسلامية ليضم علماء من كافة بلاد المسلمين ، ولتكون من مهامه مناقشة وبحث كل ما يخص عملية الاجتهاد ، ومواجهة الظروف التي يمر بها المجتمع الإسلامي بموقف إسلامي أصيل ومبدع ، وكان نظير هذا المجمع من سابق مقتصر على العلماء المصريين ، كذلك استكمل بإنشاء مدينة البعوث الإسلامية التي صارت تستقبل نحو عشرة آلاف دارس من مختلف الأقطار الإسلامية كانوا يدرسون ويقيمون على حساب الأزهر الشريف قبل أن يعودوا الى بلادهم وقد حملوا نسبا مختلفة من علوم الدين والدنيا، كما حملوا ارتباطا وثيقا بهذه الأمة ونهضتها ومشروعها المستقبلي الذي يعدهم بالكثير ويوفر لهم الكثير.

4ـ وفي علاقته مع قوى التغيير الثورية الإسلامية جسدت سياسة عبد الناصر هذه الرؤية الدينية ، وكشفت عن معرفة وإدراك لمفاعلات هذه المسالة على صعيد التغيير الاجتماعي وعلى صعيد التماسك الوطني، وظهر هذا واضحا في سياساته الإفريقية وفي سياسته تجاه الثورة الإيرانية وكانت في حينها وليدا يتشكل في رحم المجتمع الإيراني.
إن موقف عبد الناصر وسياساته في أفريقيا وتجاه إيران تستحق دراسة مستقلة لأنها تكشف تماما عن فهمه للقضية الدينية داخل المجتمع المسلم ولأثر التناقضات المذهبية على وحدة هذا المجتمع وإمكاناته على التغيير والنهوض، كما تكشف عن طريقته في تقييم ظواهر وتجليات الوجود والفاعلية الإسلامية ومؤسساتها في هذه البلدان وما تختزنه من إمكانات بناءة، وما قدمته من ذلك على مدى تاريخ وجودها، وسأكتفي في هذا المجال باستعراض بعض هذه السياسات استنادا لشهادة من كانوا مكلفين بتنفيذها ، وقد وضعوا شهاداتهم هذه موثقة في كتب صدرت بعد رحيل قائد الثورة وبعد هزيمة الثورة وسيطرة القوى المضادة.

أ ـ ففي الشأن الإيراني: عرض فتحي الديب في كتابه عبد الناصر والثورة الإيرانية عرضا دقيقا وتفصيليا لمراحل اتصال الثوار الإيرانيين بالقاهرة مشيرا الى أن مجلس الرئاسة في مصر قرر الدعم الرسمي للثورة مكلفا بذلك عضو مجلس الرئاسة كمال الدين رفعت بمتابعة هذا الملف الذي يشرف عليه السفير فتحي الديب ، وأن جمال عبد الناصر في حديثه للسفير الديب طلب منه أن يتعرف وبشكل واضح من الإيرانيين على موقفهم من القضايا التالية:

** موضوع نظام الحكم الاقتصادي والاجتماعي بعد نجاح الثورة.
**موقفهم من المصالح الأجنبية الموجودة حاليا في إيران.
**الموقف من فكرة القومية العربية.
** الموقف من المشكلة الكردية.
** الموقف من الشيعة في العراق.
** الموقف من إسرائيل.
** الموقف من الخليج العربي وما أثاره الشاه من قضايا الحدود.

وذكر فتحي الديب أن الإجابات على هذه الأسئلة جاءت من قيادة حركة الحرية في الداخل في خمس عشرة نقطة ذكرها في الكتاب تتوافق مع الرؤية التي يتطلع إليها عبد الناصر ، وقد انطلق التعاون عقب ذلك شاملا وسريعا وبرزت في الاتصالات وخطط التحرك وتبادل الآراء والأفكار أسماء : أية الله الخميني ، أية الله شريعة مداري، أية الله ميلاني ، والزعيم الديني المسجون محمود طالقاني ، وأية الله الخوئي الموجود في النجف .

في الفترة من 9 إلى 15 يناير 1964 عقدت مجموعة اجتماعات بين المسؤولين في القاهرة وبين وفد قيادة حركة حرية إيران المؤلف من مصطفي شمران ـ الذي صار لاحقا وزيرا للدفاع ” وبهرام راستين، وابراهيم يازدي، وعلي شريفان رضوي ، وبارفيز أمين، واتفق معهم على كل جوانب خطط التحرك الإعلامية والعسكرية والسياسية ، ووضعت خطط التدريب.

وفي إطار هذا التطور في العلاقة قدمت القاهرة للثوار مختلف أنواع الدعم ، وساهمت في إنشاء إذاعتين للثوار الإيرانيين واحدة في لبنان والأخرى في أفغانستان، كما قدمت لهم مستلزمات التحرك من جوازات سفر إلى أموال إلى التدريبات المختلفة ، وقد وثق الكتاب ذلك كله.

ما أريد أن اختم به وثائق هذه المرحلة هو الميثاق الذي قدمه مندوبو الحركة الخمسة إلى قيادة ثورة يوليو، ميثاق عمل للثورة يحددون فيه رؤية الحركة للمستقبل، والميثاق بقدر ما يحدد فكر الثورة الإيرانية في ذلك الحين فإنه يحدد أيضا فكر عبد الناصر وآفاق تطلعه في مجال العالم الإسلامي ويجيب على الأسئلة التي طرحها عبد الناصر سابقا .
نص الميثاق :

القاهرة في 15 / 1 / 1964

” يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مئتين ، وإن يكن منكم مئة يغلبون ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين ، وإن يكن منكم ألفا يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ” (سورة الأنفال 65،66 )
” لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ” ( سورة الفتح ، الآية 27 )
” ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله والرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ” ( سورة التوبة ، الآية 99 )
صدق الله العظيم

باسمه تعالى
بناء على أن انتصار الشعوب الإسلامية الأخوية واعتلاء كلمتهم أصبح مرتبطا معا ، ارتباطا قويا ، وبناء على ضرورات تنفيذ التعاون والمساندة بين هؤلاء الشعوب أنفسهم للتخلص من نير الاستعمار والإمبريالية ، نحن خمسة أشخاص من حركة الحرية الإيرانية اجتمعنا في القاهرة في الفترة مابين 9 / 1 / 1964و 15 / 1 / 1964 وبعد المباحثات التي أجريت هنا مع المسؤولين نقدم الآن أصول مبادئنا الفكرية والعقائدية إلى إخواننا في الله والإيمان كالآتي ، ومنه التوفيق :

في حقل السياسة الداخلية

1ـ إيجاد جمهورية ديموقراطية اشتراكية، من أجل إبادة الحكم الفردي المستبد وتنفيذ حكومة الشعب على الشعب
2ـ تنفيذ الاشتراكية من أجل تمزيق الإقطاع، وتنفيذ عملية تصنيع البلد، ومنع الاحتكارات الصناعية ، وأخيرا توزيع الثروات بين الشعب بطرق عادلة
3ـ تنفيذ الديموقراطية مع الاشتراكية مبنيا على العقيدة بالله وتعبده وعلى أصول ومبادىء الإسلام

في حقل السياسة الخارجية

1ـ مساندة الأمم المتحدة ، والتعاون الوثيق مع الشعوب غير المنحازة والمحايدة وكتلة الدول الأفروـ آسيوية
2ـ مساندة جميع الكفاحات الموجهة ضد الاستعمار في العالم
3ـ تنفيذ سياسة عدم الانحياز والحياد الايجابي ، وعدم الاشتراك في الصراع الموجود بين الكتلتين الشرقية والغربية ، وطرد الأحلاف العسكرية الاستعمارية ، مثل الحلف المركزي
4ـ إقامة صلات وعلاقات قوية ووطيدة مع الشعوب المسلمة في العالم
5ـ إقامة صلات وروابط قوية والتعاون الجاد والوثيق مع الدول الاسلامية المتحررة والمنبثقة من الشعوب
6ـ التعاون وتدعيم وحماية حركة الثورة القومية العربية في سبيل الوحدة العربية وطرد قاعدة الاستعمار ” إسرائيل ”
7ـ بناء على أن إلهنا واحد وكتابنا واحد ورسولنا واحد ،نحن نستنكر إثارة اختلافات بين المذاهب الإسلامية خاصة بين السنة والشيعة ، ونعتقد أن الاختلافات بين السنة والشيعة ـ وكل خلاف عنصري ـ يجب أن لا يكون مانعة من الوحدة العربية ، كما أنه يجب أن لا تكون ضارة بكيان الأقطار الموجودة حاليا واستقلالها ، ونحن نبذل قصارى جهدنا في سبيل الوحدة الحقيقية بين جميع المسلمين
والله على ما نقول شهيد ، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .

بارفيز أمين ـ مصطفى تشمران ـ بهرام راستين ـ علي شريفيان رضوي ـ إبراهيم يازدي .

توقيعات

ب ـ في سياسة الثورة تجاه إفريقيا ومسلميها : وهي السياسة التي تولى تنفيذها ومتابعة الشطر الأهم منها “محمد فائق”، بتكليف وعلاقة مباشرة مع جمال عبد الناصر، يسجل فائق في كتابه ” عبد الناصر والثورة الأفريقية “سياسة عبد الناصر الاسمية في أفريقيا، وهي سياسة تكشف عن مخزون القوة الذي وفره الإسلام للمجتمعات الإفريقية، ويشير فائق في هذا الكتاب الى أن منهج عبد الناصر في التعامل مع القوى المختلفة والإسلامية والوطنية في الدول الإفريقية التي ما زالت تحت الاحتلال كان البحث عن عوامل الوحدة التي تحقق لها التحرر ، وأن هذه السياسة هي واجهه إليها عبد الناصر حينما كلفه بملف الصومال والملفات الإفريقية الأخرى.
وقد جعل فائق في كتابه فصلا مستقلا ـ هو الفصل الرابع ـ تحت عنوان ملامح إسلامية للسياسة مصر الإفريقية، تناول فيه مساعدات مصر لمسلمي أفريقيا بمختلف دولهم، واثر هذه المساعدات على سياسات هذه الدول وفصل في الموقف من أرتيريا والأرتيريين ، وأفرد للمساعدة التي قدمها جمال عبد الناصر لنيجيريا لمواجهة محاولة فصل إقليم بيافرا عام 1967،
وكما فعلت مع الثورة الإيرانية فإني هنا اقتبس نصوصا من كتائب فائق تظهر هذه السياسات وتكشف دوافعها ومغازيها.
يقول فائق :
” وقد أقام عبد الناصر الكثير من المساجد في أفريقيا أو ساهم في بنائها من خلال الجمعيات الإسلامية العديدة المنتشرة في كل أنحاء القارة كما أنشأ المراكز الإسلامية التي تجمع المسجد مع المدرسة وتقدم العلاج المجاني ،
ووجهت مصر إلى أفريقيا إذاعة القرآن الكريم على موجة قصيرة كما خصصت إذاعة لتعليم اللغة العربية حيث لوحظ أن معظم المسلمين في القارة وخصوصا في شرق أفريقيا يقرأون القرآن بحروفه العربية دون معرفة باللغة نفسها، وكان من السهل عليهم تعلمها بعد ذلك بالراديو وخاصة أنهم يعتبرون تعلمها جزءا مكملا لدينهم ، ووزعت أعداد هائلة من كتب تعلم العربية بالراديو وكان الإقبال عليها مذهلا.
وخصصت المنح الدراسية لإفريقيا في جميع الميادين بما في ذلك الأزهر الشريف والجامعات والمدارس الأخرى وكان هناك اهتمام خاص بالمناطق الإسلامية ، فعلى سبيل المثال كانت لمنح مفتوحة لأرتيريا من عام 1955 بحيث لا يرد أي طالب علم يأتي من أرتيريا، وأعطيت التعليمات لأجهزة الأمن على الحدود بألا يمنع أي أرتيري من دخول الأراضي المصرية حيث كان الأرتيريون يحضرون إليها سيرا على الأقدام للالتحاق بالأزهر وذلك نتيجة للاضطهاد الذي كانوا يلاقونه أثناء حكم الإمبراطور هيلاسلاسي حتى أنه طلب من جمال عبد الناصر ـ في إحدى زياراته لمصر ـ أن تقدم المنح المخصصة للإرتيريين في الأزهر عن طريق الحكومة الإثيوبية ولكن عبد الناصر رفض متحججا بأنه لا يستطيع التدخل في شؤون الأزهر ……
ورغم أن الدين الإسلامي هو أوسع الأديان انتشارا في أفريقيا إلا أن المسلمين في معظم أنحاء القارة لم ينالوا من التعليم نفس الحظ الذي ناله المسيحيون فيها ن ففي نيجيريا على سبيل المثال كان عدد الطلاب من الشمال المسلم الموجودين في جامعة ابادان عام 1959 يبلغ 14 طالبا فقط في حين كان عدد الطلاب المسيحيين من الشرق 354 طالبا علما بأن تعداد الشمال المسلم يصل إلى ما يقرب ثلاثة أضعاف سكان الإقليم الشرقي المسيحي ….
لذلك كان عبد الناصر يرى أهمية تعليم المسلمين في أفريقيا وضرورة أن يكون من بينهم الأطباء والمهندسون وخريجو الجامعات ……
ورغم أن مصر استطاعت بسرعة أن توطد علاقاتها بالجمعيات الإسلامية والطرق الصوفية ومشايخ الإسلام في جميع أنحاء القارة إلا أنها حرصت على أن تبقى هذه العلاقة في نطاقها الديني الثقافي فقط بعيدة عن نشاطنا السياسي … فعلى سبيل المثال كانت علاقتنا قوية ومتينة بالطرقة التيجانية الواسعة الانتشار في غرب أفريقيا وشيخها إبراهيم انياس الذي كنا نقدم له العون المادي والثقافي قبل استقلال دول غرب أفريقيا وبعد ذلك أيضا ، وكان الشيخ يستقبل في القاهرة بحفاوة وتكريم حتى انه كان في كثير من الأحيان ينزل في أحد قصور الضيافة وكان عبد الناصر يستقبله في منزله كلما حضر إلى القاهرة،في هذا الوقت الذي نعلم فيه أن تعاليم هذه الطائفة الإذعان للسلطة حتى ولو كانت سلطة احتلال ، فقد كان عبد الناصر يقول انه مهما كان ومهما قيل عن هؤلاء المشايخ فهم الذين حفظوا الإسلام ونشروا الثقافة الإسلامية والعربية في هذه المنطق الإفريقية ومن هذا المنطلق كانت مساعدة مصر لهم . وقد زرت بنفسي الشيخ إبراهيم انياس حيث يعيش في مدينة كاولاك بالسنغال ورأيت المدارس والجوامع التي تعلم الدين واللغة العربية .

ج ـ الجوار المسلم وقضايا الحدود المتخلفة عن التقسيم الاستعماري : لقد كان يكفي ما أتينا عليه لتوضيح سياسة عبد الناصر الإسلامية ، لكن من المفيد أن نستكمل بسط هذه السياسة بالإطلالة على استراتيجيته في معالجة قضايا الخلاف الحدودية وما قد يتصل بها من صراع نتيجة الظلم البالغ الذي اكتنفها وحولها إلى لغم في علاقات الجوار، خصوصا حينما يكون الأمر مع دولة جارة ومسلمة ، والمثال هنا تركيا، والإشكالية لواء الاسكندرونة السوري السليب، والرؤية التي نطرحها هنا رؤية جمال عبد الناصر قائد عملية التغيير، وقائد الثورة، ورجل القومية العربية والوحدة العربية.
وبهذا الشأن فقد كان لعبد الناصر موقف دقيق من مسالة حساسة يكشف عن عمق نظرته للعلاقة بين الأمة وجوارها المسلم ولعمق اثر التاريخ والدين المشترك في صوغ مستقبل هذه العلاقة ، وهو موقف يمكن البناء عليه راهنا ومستقبلا في كل ما يعترض هذه الأمة من مشاكل مع الجوار على اختلاف طبيعة هذا الجوار واختلاف العوامل المشتركة معه،

يذكر سليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث في واحدة من افتتاحيات مجلته أن عبد الناصر حينما كان في زيارة لمدينة حلب، عاصمة الشمال السوري ، وهي على بعد عشرات الكيلو مترات مكن لواء الاسكندرونة التي استولت عليه تركيا عام 1936 ظلما في صفقة مع فرنسا التي كانت تحتل سوريا وهي صفقة واضحة المعالم يذكرها التاريخ جيدا.

وكان صوت القومية العربية وللوحدة العربية هو الأعلى بعد إنجاز الوحدة السورية المصرية، والصعود الشعبي الهائل لعبد الناصر في العالم العربي عموما وفي سوريا على وجه الخصوص، وكان عبد الناصر ضيفا في تلك الزيارة 1958 على بيت أحد رأسماليي حلب حيث لم يكن هناك دار ضيافة للدولة، وفي أمسية ضمت وجوه المدينة الذين جاؤوا مرحبين بزعيم القومية العربية وقائد هذه الأمة يسال أحد الحضور الرئيس عبد الناصر عن لواء الاسكندرونة، أين هو من الدعوة القومية وقيادتها، وكانت سوريا قد عاشت تهديدا مباشرا من تركيا الأطلسية عام 1957 ، وهو تهديد يقول عنه الباحثون أنه كان سببا في الإسراع بتنفيذ الوحدة السورية المصرية, وحسب ما قدر اللوزي فإن السؤال كان يتضمن قدرا من الخبث ومحاولة الإحراج.

ولقد أجاب عبد الناصر على هذا التساؤل دون النظر إلى دوافعه ، أجاب علية وهو يقدم رؤية شاملة لقضايا الجوار تغطي ساحتها قضية لواء الاسكندرونة وكل قضية مشابهة ،
قال عبد الناصر : إن لواء الاسكندرونة عربي سوري، هذا أمر يشهد به حتى التاريخ الحديث، لكنا لن ندخل في حرب مع تركيا من أجله، ولنا سبيل آخر في معالجة هذه القضية، إن علينا أن نبني دولتنا العربية القوية المتقدمة والعادلة التي تشع على محيطها وحين يكون لنا ذلك فإن تركيا التي يربطنا بها دين واحد وتاريخ مشترك طويل سوف تكون أمام خيار الانجذاب لنا والتعامل معنا أو القطيعة، ونقدر أنه سيكون خيار التعاون والتفاعل والمصالح المشتركة هو الخيار وعندها سنتمكن من حل مشكلة اللواء وسيكون الأمر ابسط مما يتوقع الكثيرون

الخلاصة

هذه هي رؤية الناصرية وقائدها للمسألة الدينة ، وهذه هي سياسات جمال عبد الناصر الإسلامية ، أي النابعة من رؤيته الدينية ، وكيف وظف أجهزة الدولة ومؤسساتها لتنفيذ هذه السياسات ، وواضح أنها جميعا تنطلق من رؤية إيمانية من زاوية ، ومن تطلع للتغيير الثوري في المجتمع ، تغيير يقيم العدل والتقدم من زاوية أخرى.

ولقد كان يكفي بسط ما بسطناه، في تأصيل هذه الرؤيا، لننتقل إلى السؤال المهم الذي يتصل بالمستقبل ، وما يجب تعميقه وتطويره من هذه الرؤية ، ولتكون هذه هي الحلقة الثالثة من هذا البحث ، لكن المعارك الفكرية الجارية بين القوى السياسية في هذه المرحلة حول المسألة الدينية وموقعها في المجتمع، والحديث المستمر والمؤتمرات التي تعقد حول العلمانية وحول صلة النظم السياسية العربية الراهنة بهذه المسألة جعلت تناول هذه المسألة من ضرورات إتمام البحث وإغلاق الدوائر المحيطة والمتصلة به ، لذلك جعلت الحلقة الثالثة من هذا البحث تختص بالعلمانية والناصرية ، على أن تكون الحلقة الرابعة تتحدث عن الناصرية والنظام الإسلامي

الناصرية والدين

الحلقة الثالثة

مقدمة :

في الحلقتين الأولى والثانية تناولنا رؤية عبد الناصر لمسألة الدينية وسياسات الثورة تجاهها على الصعيدين الداخلي والخارجي ، وما يتصل بمكانة هذه المسالة في وجدان وضمير قائد الثورة ، وكما أشرت في ختام الحلقة الثانية فإنني سأخصص هذه الحلقة لحديث عن الناصرية والعلمانية باعتبار الأخيرة هي حديث القوى السياسية على اختلاف انتماءاتها في هذه المرحلة، بل إن البعض ذهب الى اعتبار العام 2007 عام العلمانية في المشرق العربي ، استنادا الى الاهتمام الذي حظيت به هذه المسألة في هذا العام ، حيث عقدت مؤتمر خاص لها وخصصت عدة أعداد من مجلة فكرية رزينة لتغطيتها ، وكتبت العديد من المقالات في صحف ومجالات عديدة في هذا الميدان وأنشيء موقع على الشبكة العنكبوتية خاص بالعلمانيين وبالدعوة الى العلمانية.

الحلقة الثالثة

الناصرية والعلمانية

هل الناصرية علمانية ، الإجابة على هذا السؤال تبدو ضرورية لفهم الفكر الناصري ، ولتحديد إمكاناته في صنع مستقبل هذه الأمة ، وما يمكن أن يقدمه في هذا الجانب .

قد يسارع البعض الى اعتبار طرح مثل هذا السؤال غير ذي ضرورة ، فإذا لم تكن الناصرية علمانية فماذا تكون !؟ إسلامية !؟

لكن هذه المسارعة فيها الكثير من استسهال الإجابة وفيها الكثير من استدعاء حكم مسبق، وفيها الكثير من إطلاق الرغبة وليس إعمال العقل ، وقد نستطيع القول إن هناك تيارين رئيسيين يريان أن أمر الجواب على هذا التساؤل محسوما، وهما بالتحديد التيار السياسي الاسلامي، والتيار المتغرب ماركسيا كان أم قوميا، ودافع كلا التيارين الى مثل هذه الإجابة لا يتصل بالناصرية فحسب وإنما أيضا بالقضايا التي تقيم عليها مثل هذه الإجابة ،والى جانب هذين التيارين فإن هذه القضية قضية خلافية داخل التيار الناصري ذاته، فمن الناصريين من يرى ذلك أيضا،وأنا في هذه الحلقة الأخيرة من بحث الاسلام والناصرية أحاول أن أجلي الموقف الفكري للناصرية من هذه المسألة، وأوضح الموقع الذي تطل منه الناصرية عليها ، وعبر هذا أحاول أن أملك الناصريين وغيرهم معايير للحكم على علمانية أي موقف أو فكرة.

1ـ من الناحية الشكلية ليس في تاريخ الناصرية ـ وفق علمي ـ ما يشير الى تبنيها للعلمانية من حيث المصطلح ، ولم تثر هذه القضية في تاريخ الناصرية ، ولا يعرف أن جمال عبد الناصر أتى عليها، على الرغم من أنها كانت مثارة بقوة وبوضوح في المجالين الاسلامي بالنموذج التركي، والعربي بالنموذج البورقيبي.

كما كان تبني العلمانية ” المخففة ” مطروحا أيضا من جانب الأحزاب القومية أو بعضها وخير من يمثل هذا الجانب هو حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تناول مفكروه العلمانية وأعلنوا تبنيها من خلال فهم خاص لها تحدثوا عنه مرارا منذ أن كان الحزب حزبا واحدا، ثم بعد أن انقسم، وحتى هذه المرحلة، وأقاموا سياساتهم العملية على قاعدة هذا الفهم، والذي عايش تجربة حزب البعث في السلطة وخارجها يعرف تماما كيف جسد هذا الحزب مفهومه للعلمانية.

ولم يكن عبد الناصر ليخشى أن يطرح هذا المصطلح أو يتبناه لو أنه فعلا يراه مناسبا لهذه الأمة ومنسجما مع توجهاته، فقد عُرف هذا القائد المعلم بالشجاعة الفكرية والعملية،

ولقد تعرض لمحرضات في طرح هذه المسألة لو كان لها في فكره ووجدانه شيء، إذ أنه دخل في معارك فكرية وسياسية مع قوى داخلية وعربية ودولية استخدم الآخرون فيها سلاح الاسلام ووسموه خلالها بما راق لهم، وكانت هذه الأجواء مناسبة لأن يتخذ أي موقف يريد خصوصا وأنه كان يتمتع بتأييد جماهيري طاغ، قد يختلف البعض في تفسيره وفهمه لكن لا يمكن لأحد أن ينكره، لكنه لم يفعل ذلك، وكان دائما يقدم رؤيته للقضية الدينية من جوانبها المختلفة الإيمانية والاجتماعية غير متأثر بهذه المعارك، وبذلك الاستغلال للدين، ودون أي مواربة أو استثمار ذاتي.

2ـ وفي كل مسار التغييرات الاجتماعية التي قام بها عبد الناصر كان يستدل دائما على تطابق مقاصد هذه التغييرات مع المقاصد الاجتماعية التي تطلع إليها التشريع الاسلامي،

وكان الاستشهاد مستمر بالأحاديث النبوية وبسلوك الصحابة رضوان الله عليهم، وكان الاستدلال توجيهي وليس تشريعي ، أي استدلال لرؤية المنحى ، منحى التغيير، واتجاهه وليس استدلال يقصد فنه الوقوف عند حدوده، فالحديث عن شركة الناس في الماء والنار والكلأ كان مدخلا لفهم ضرورة تأمين الدولة للاحتياجات الرئيسية للمجتمع وحق الناس في هذه الاحتياجات.

وكان يؤكد دائما على صيانة الملكية الخاصة وحفظها باعتبارها حقا شرعيا، لكن على أن يكون ذلك في إطار مصلحة المجتمع واحتياجاته.

وفي فلسفة الإصلاح الزراعي كان يربط بين قيام الفلاح بزراعة الأرض واستصلاحها وبذل الجهد فيها وهذا مما يعطيه حقا شرعيا بها، وبين التملك غير الشرعي لهذه الأراضي من قبل الإقطاعيين، باعتبار أن هذا التملك كان في كثير منه نتاج مواقف الإقطاعيين من ثورة عرابي، ونتاج تصرف الخديوي أو الملك بهذه الأراضي من زاوية أنها ملك له ولأسرته، والأمرين هنا يتصلان بمفهوم العدل، وبين ضرورة توزيع هذه الأراضي على الفلاحين لتحقيق الارتباط بين الفلاح والأرض ولتحقيق هدف تنمية المجتمع والإنتاج،

3ـ ولقد كان عبد الناصر يتبنى سياسة دينية واضحة جسدتها أكثر ما جسدتها فلسفته في تطوير الأزهر.

في أدبيات حركات الاسلام السياسي ، يلقى قانون تطوير الأزهر هجوما عنيفا ، ويعتبر البداية لجهد نظام عبد الناصر في السيطرة على هذه القلعة الاسلامية، ولأصحاب هذا الرأي أن يقولوا ما يشاءون، لكن الدراسة العلمية لواقع الأزهر في ذلك الحين، ولتطلعات أبنائه وخريجيه، وللجهود التي كان يبذلها الكثيرون لتطور هذا الواقع، تكشف بلا أية شبهة أن تطوير الأزهر كان هدفا يرتجى، وأن ما قامت به الثورة بإصدارها القانون رقم 103 لعام 1961 الخاص بتطوير الأزهر إنما جاء استجابة لهذه الحاجة لكن هذه الاستجابة لم تأخذ أبعادها إذ عاجلتها الردة التي عاجلت كل شيء في المجتمع المصري، على كل حال فإنني هنا لا أتناول نصوص وإجراءات القانون ـ وهي نصوص أصابها التعديل المرة تلو الأخرى ـ ولكني أتناول الفكر الذي دفع الى هذا القانون والذي يمثل في عمقه رؤية ثورة يوليو وقائدها للإسلام ، وعلاقته بالمجتمع والحياة على مختلف المستويات ورؤيته لهذه المؤسسة الدينية العريقة ولودرها ومكانتها في المجتمع الاسلامي ككل ، أي في مجتمع أمة العقيدة، ولعل أهم وأوجز ما يكشف عن هذه الرؤية هي المذكرة الإيضاحية التي مهدت لهذا القانون وتعتبر جزءا منه، ولقد جاء في هذه المذكرة الإيضاحية:

“والإسلام في حقيقته الأصيلة لا يفرق بين علم الدين وعلم الدنيا ، لأنه دين اجتماعي ينظم سلوك الناس في الحياة ليحيوا حياتهم في حب الله عاملين مؤثرين في المجتمع في ظل طاعة الله ، ولأن الاسلام يفرض على كل مسلم أن يأخذ نصيبه من الدين والدنيا: فكل مسلم يجب أن يكون رجل دين ورجل دنيا في وقت واحد ، والله في يقين المسلم أقرب إليه من حبل الوريد ، يجيب دعوة الداع إذا دعاه ، فليس في حاجة الى شفيع أو وسيط يقربه إليه.

على أن العالم الاسلامي اليوم وقد انفسح مداه واتسع نطاقه ن واطل على آفاق فكر جديد ووضعته الظروف السياسية التي تمر به موضع اختبار في مجالات شتى وأكثره قد خرج منذ قريب من تحت النير الاستعماري وفي نفوس أهله آمال ضخمة لاستكمال أسباب تحرره ونهضته والارتفاع بمستوى معيشته ، وكانت الثقافات الاستعمارية تحاول طوال السنين التي يطر فيها الاستعمار على العالم الاسلامي أن تلون أفكار أهله وعقائدهم وأن تضع في نفوسهم موازين جديدة وقيما جديدة يمكن أن تباعد بينهم وبين الاسلام ، فلولا طبيعة المقاومة في نفوس المسلمين لسحقتهم المحاولات المتوالية خلال تلك السنين وأخرجتهم عن دينهم.

ولعلها قد بلغت في ذلك مبلغا ما حين أوقعت في أذهان كثير منهم أن الاسلام عبادة وقربى الى الله وفناء في الآخرة ن وأن العمل للحياة شيء آخر يختلف عن الدين أو يتعارض مع الدين ، وربما وقعت في أذهان بعضهم كذلك أن المذاهب الاجتماعية المستحدثة تضمن للبشرية سعادة ورفاهية لا يكفلها الاسلام، وربما لا يكفلها غير الاسلام من الأديان السماوية .

وفي كثير من البلدان التي تخلصت من ربقة الاستعمار رغبة في التخطيط وللبناء والعمل والإنتاج في مجالات الصناعة والتجارة والتعدين والتعليم والصحة وغيرها من أسباب النهوض ،وهي حين تتلمس الخبراء في كل نوع من أنواع هذا النشاط ، لا تكاد تجد إلا أجانب عن بيئتها ودينها من لمواطنين أو من غير المواطنين ، وحين تلتمس من المواطنين خبراء يملكون مع الخبرة معارف دينية صحيحة ، وعقيدة واعية لا تكاد تعرف أين توفدهم ليتعلموا ويستفيدوا الخبرة والمعرفة والعقيدة وهي عناصر ثلاثة ضرورة لتستكمل هذه البلاد نهضتها وتمضي في وجهها على الطريق السوي .

وإذا كان الأزهر وحده هو المعهد أو الجامعة التي يحرص المسلمون وراء الحدود على أن يعد فيه أبناؤهم لهذه المستويات فلقد كان من الطبيعي أن يكون نظام الأزهر وعلوم الأزهر بحيث تعد هؤلاء الخبراء مستكملين لكل العناصر التي تهيئهم لحمل أعباء النهضة في بلادهم .

لكن الأزهر إذ يعد علماء في الدين ، وفي اللغة العربية ، لم ينهي بعد لتأهيل العالم الديني المتخصص في عمل من أعمال الخبرة والإنتاج التي تحتاج إليها نهضة المسلمين في كل البلاد ، وحين تنبهت بعض الدول الاسلامية الى هذه الحقيقة المؤسفة فحولت بعثاتها كلها أو بعضها الى الجامعات المدنية في الجمهورية العربية المتحدة أو في غيرها من البلاد عاد إليها مبعوثوها بعد إتمام دراستهم وهم يملكون الخبرة ولا يكادون يعرفون الدين ، في حين يعود المبعوثون منهم الى الأزهر وقد حصلوا من علوم الدين وعلوم القرآن حظا كبيرا ولكنهم لا يحسنون عملا ، ولا يطيقون إنتاجا ولا يقدرون على المشاركة في لون من ألوان النهضة التي أشرنا إليها آنفا ، وبهؤلاء وأولئك تعقدت الحياة الاجتماعية في كثير من بلدان العالم الاسلامي وتعثرت النهضة في تلك البلدان ……………………

ولعلاج المشكلة من صميمها كان لابد من تقرير مبادئ لتكون أساسا لكل محاولة إصلاح، وعلى أساس المبادئ التي انتهينا إلي تقريرها كان مشروع الإصلاح التي تضمنه هذا القانون .

وهذه المبادئ هي :

أولا : أن يبقى الأزهر وأن يدعم ، ليظل أكبر وأقدم جامعة إسلامية في الشرق والغرب .

ثانيا :أن يظل كما كان منذ أكثر من ألف سنة ، حصنا للعروبة والإسلام يرتقي به الاسلام ويتجدد ، ويتجلى في جوهره الأصيل ويتسع نطاق العلم به في كل مستوى وفي كل بيئة ويذاد عنه كل ما يشويه وكل ما يرمى به .

ثالثا : أن يخرج علماء قد حصلوا كل ما يمكن تحصيله من علوم الدين وتهيأوا بكل ما يمكن من أسباب العلم والخبرة والإنتاج في كل مجال من المجالات العمل والإنتاج فلا تكون كل حرفتهم أو كل بضاعتهم هي الدين .

رابعا: أن تتحطم الحواجز والسدود بينه وبين الجامعات ومعاهد التعليم الأخرى وتزول الفوارق بين خريجيه وسائر الخريجين في كل مستوى وتتكافأ فرصهم جميعا في مجالات العلم ومجالات العمل .

خامسا : أن يحقق قدر مشترك من المعرفة والخبرة بين المتعلمين في الجامعات والمعاهد الأزهرية وبين سائر المتعلمين في الجامعات والمدارس الأخرى ـ مع الحرص على الدراسات الدينية والعربية التي يمتاز بها الأزهر ـ لتتحقق بخريجي الأزهر الحديث وحدة فكرية ونفسية بين أبناء الأمة ، ويتحقق بهم للوطن والعالم الاسلامي نوع من الخريجين مؤهل للقيادة في كل مجال من المجالات الروحية والعلمية.

سادسا : أن توحد الشهادات الدراسية والجامعية في كل الجامعات ومعاهد التعليم في الجمهورية العربية المتحدة.

ولست هنا في معرض الحديث عما كان عليه الأزهر قبل الثورة ، وما كان عليه خريجو الأزهر في سلم العمل والمكانة الاجتماعية من حال مزرية ، فالحديث هنا ليس عن الزهر وإنما عن رؤية الثورة للمسألة الدينية، لكن يكفي في هذا الجانب أن أشير الى ما سطره الداعية الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه “كفاح دين” عن الأزهر وحاله وحال الأزهريين .

مظان العلمانية في الناصرية

إننا ذهبنا الى التأكيد على أن عبد الناصر لم يكن علمانيا وأن الناصرية لم تكن علمانية،وأتينا بالشواهد على ذلك من الفكر ومن السياسة ، أي من الرؤية النظرية ومن التطبيق ، وقد كان يكفي أن نصل الى هذا الرأي في حسم الأمر لكن لابد حتى تتضح الصورة أن نسأل أنفسنا عن الدوافع الموضوعية التي جعلت خصوم عبد الناصر وخصوم الناصرية يسمونهما بالعلمانية ، فهل منبع هذه الصفة خيار عبد الناصر الاشتراكي، وخياره القومي،

بمعنى هل كان عبد الناصر قبل ظهور هذين الخيارين غير علماني ، وصار من بعدهما علمانيا ؟!

أم هل وجود بنوك ربوية ، وسفور في المجتمع ، ومظاهر غير مطابقة أو أنها مناقضة للسلوك الاسلامي هي ما يسم الثورة وقائدها بالعلمانية؟!

أم أن وجود دستور مكتوب يلتزم به المجتمع يعتبر من دلائل العلمانية بظن هذا الدستور بديلا عن القرآن الكريم دستور الأمة الاسلامية ؟!

قلنا من قبل أن الحديث عن القومية والحديث عن الاشتراكية ولو بصيغ مختلفة أو متفاوتة كان حديثا عاما أخذ به العديد من العلماء وقادة الفكر الديني، وكتبوا وأصًلوا له ولم يجدوا في ذلك حرج، وهنا أعاود التأكيد أنني لست بصدد الحديث عن صواب هؤلاء فيما كتبوا أو خطئهم ، وإنما يعنيني أنهم فيما قاموا به لم يكونوا علمانيين ولم يصبحوا علمانيين بنظر أي من قوى المجتمع أو قادته الفكريين، ولم يكن هذا الاقتحام للفكر القومي والاشتراكي حصرا على مصر، ولا حصرا على فترة جمال عبد الناصر، وإنما كان الأمر قبله بكثير من الوقت وبقليل من الوقت، وكان في مصر وكان خارج مصر، وكان عند المفكرين المسلمين من العرب، وكان عند المفكرين المسلمين من غير العرب، وكان يتم تداول واعتماد هذه المصطلحات في مجال العمل والإنتاج الفكري داخل التيار الاسلامي، وكذلك في مجالات عمل وتحالفات هذا التيار السياسية.

أما إسناد هذه الصفة ” العلمانية ” بسب وجود مظاهر أو مؤسسات أو تشريعات تخالف التشريع الاسلامي، فإن هذه الظاهرة كانت موجودة في مراحل عديدة من تاريخ مجتمعاتنا الاسلامية، وهي موجودة راهنا في كل المجتمعات الاسلامية دون استثناء، وموجودة بحكم القانون وليس بحكم الواقع، أي أن القانون ينظمها، ومع ذلك لا توسم هذه المجتمعات بأنها علمانية،

إذا من أين تنبع هذه الصفة عند من يطلقها؟!.

قبل محاولة الإجابة يجب استذكار التأكيد بأن من يطلق هذه الصفة على الناصرية وقائدها ليسوا من صنف واحد،لاتجاه العلمانية ولا تجاه الناصرية.

فهناك علمانيون يؤكدون أن الناصرية وعبد الناصر في جوهر الموقف العلماني .

وهناك “إسلاميون ” يؤكدون الشيء نفسه، وإن اختلفوا في تحديد الدافع الى هذا الحكم .

وهناك ناصريون يؤكدون أن الناصرية وعبد الناصر عبرا دائما عن الموقف العلماني.

وهناك ناصريون يرون أن عبد الناصر لم يكن أبدا علمانيا وكذلك ثورته.

إذا كيف نفهم ونقرأ هذه المواقف المتعارضة أو المتفقة في توصيف العلاقة بين الناصرية وقائدها وبيين العلمانية.

إن عبد الناصر كان قوميا واشتراكيا ومع بناء الدولة الحديثة، الدولة الجمهورية، دولة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أبنائها، ومع الحرية، وإعطاء السيادة للشعب، ومع الديموقراطية.

وحتى لا يدخل أحد في جدل ليس هذا موضعه، يتصل في حقيقة ديموقراطية عبد الناصر، وهل كان فعلا يريد السيادة للشعب، أقول إننا نبحث هنا المسالة من زاوية الأفكار والمفاهيم ، لأن صفة العلمانية التي نمحصها تتصل بالأفكار والمفاهيم قبل أن تتصل بالتطبيقات، وتتصل بالرؤى قبل أن تتصل بالوقائع,

إن الذين يقولون بعلمانية عبد الناصر يقولون ذلك استنادا الى هذا الالتزام الفكري الناصري وتثبيتا له ، لكن ليسوا سواء في تقدير هذا الالتزام ،

العلمانيون من خصوم عبد الناصر ومؤيديه يريدون تثيبت علمانية عبد الناصر وعلمانية ثورته لجعل تراث هذه الثورة ومكانتها في التاريخ العربي المعاصر وفي الوعي الشعب رصيدا يدعم طروحاتهم بشأن قضية العلمانية، وليقولوا كذلك بأن لا سبيل لأخذ مفاهيم الدولة الحديثة ” المواطنة، المساواة، الحرية، الديموقراطية، سيادة الشعب، تداول السلطة سلميا ” إلا بالتزام العلمانية بغض النظر عن برنامج التغيير الذي يلتزمه الشخص أو القوة السياسية والاجتماعية : اشتراكيا كان أم ليبراليا، إصلاحيا كان أم ثوريا، وخصوم عبد الناصر من العلمانيين يرون أن الكثير مما وقع فيه عبد الناصر من الناحية التطبيقية ووقعت فيه الثورة كان من نتاج عدم وضوح العلمانية لديه، وعدم اكتمالها.

و”الإسلاميون” يرون أن هذه الأفكار هي مصدر الحكم على علمانية عبد الناصر وثورته وبالتالي فإن كل من يتبنى هذه الأفكار فهو علماني، إذ ليس في الاسلام ديموقراطية، ولا سيادة للشعب ولا مساواة ولا فكرة الوطن والمواطنة، ولا قومية أو وطنية، ولا الجمهورية ولا أي من هذه المفاهيم، وطن المسلم دين، والإسلام فيه خلافة كما كان الأمر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أهل ذمة وفيه جزية يؤديها غير المسلم وهو صاغر، والتشريع فيه لله فقط .. الخ، وعند هؤلاء قد يكون الموقف من عبد الناصر وثورته مهما لكن الأهم الموقف من هذه الأفكار، وصدها عن الاسلام والمسلمين ومجتمعهم.

التعرف الى العلمانية

إن الفصل في هذا الخلاف ومحاولة فهم دوافعه يستلزم بالإضافة الى فهم القوى المشتركة فيه واستهدافاتها فهم معنى العلمانية وخصائصها.

فإذا كان الالتزام ببناء الدولة الحديثة بطبيعتها التي أشرنا إليها يعني الالتزام بالعلمانية تصبح العلمانية صفة عبد الناصر وصفة ثورته بلا شك، ويصبح كل من التزم هذه المفاهيم والقيم علمانيا فردا كان أم قوة أم نظاما، وفي إطار هذا الاعتبار إذا أجلنا نظرنا في اتجاه كل النظم الموجودة في العالم العربي والاسلامي فإن النظر يرتد إلينا مؤكدا أن هذه كلها علمانية.

وإذا كانت الصلة مشكوك فيها بين هذه المفاهيم وبين العلمانية، وأن للعلمانية مفهوم آخر أكثر وضوحا وصلابة، يمكن اعتماده والقياس عليه، فإننا نكون بحاجة للتعرف الى هذا المفهوم واعتماده وقياس الأفكار والحركات والبنى الاجتماعية على هذا المقياس كي نصل الى حكم صحيح على صلتها بالعلمانية.

لقد دلنا علماء الأصول في الاسلام أن القاعدة التي تفصل عليها الأشياء ابتداء هي قاعدة العقيدة، ثم بعد هذه القاعدة نذهب للبحث في الفروع، لأن سلامة الموقف العقدي يجعل الخلاف فيما دونه سهل يمكن تفهمه ويمكن تجاوزه والتعايش معه، أما الخلاف في العقيدة فلا توسط فيه.

واستنادا الى هذه القاعدة الفاصلة فإن علينا أن ننظر في العلمانية أولا وقبل كل شيء من الزاوية العقدية من زاوية الجوهر والأساس، ما هي العلمانية، ثم إن علينا ونحن ننظر ونبحث في العلمانية أن نتعرف عليها من مصادرها وعند رجالاتها، وليس مما نعتقد أو نريد نحن أن تكون عليه، فعلماء الأصول لدينا قالوا أيضا إن الحكم على الشيء فرع من تصوره، فإذا كان تصور الشيء “أي معرفته” غير صحيحة أو غير دقيقة أو خالطها الهوى فإن الحكم عليها لا يأتي صحيحا ويتلبسه الباطل.

وإذا كان الحديث المفصل عن العلمانية يحتاج الى سعة ، وليس هذا مقامه ـ سيأتي إن شاء الله في بحث مستقل ـ فإنني أكتفي هنا بالتوقف عند المفاهيم الرئيسة للعلمانية والتجليات الأهم لها ،

باطمئنان أقدم هنا ثلاثة مؤلفات تناولت العلمانية، وهي أكثر من كافية للتعرف عليها بتجرد وبأصول، اثنان منها لمفكرَين علمانيين لا غبار عليها في انتمائهما العلماني وفي جهدهما العلمي في هذا المجال، والمؤلَف الثالث لباحث وعالم قدم ما يمكن أن ندعوه بموسوعة العلمانية وهو أيضا ممن يشهد لهم في النزاهة العلمية:

** العلمانية من منظور مختلف ، للدكتور عزيز العظمة، وقد صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 1992

** الأسس الفلسفية للعلمانية ، الدكتور عادل ضاهر، دار الساقي، بيروت ، 1998.

** العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ” جزءان”، للدكتور عبد الوهاب المسيري، وصدر عن درا الشروق عام 2002 .

والعلمانية في هذه المراجع / المصادر وبغض النظر عن الخلاف في نطق الكلمة ” العلمانية” بفتح العين أو كسرها هي موقف معرفي، رؤية معرفية ، أي أنها موقف من الكون والحياة وتفسيرهما وطريقة التعامل معهما.

فإذا كنت تعتقد أن الكون مكتف بنفسه، ويفسر ذاته، وأن مصدر المعرفة هو هذا الكون المادي، وبالتالي فإنه لا حاجة لشيء من خارج هذا الكون الذي يحيط بنا لفهمه، لا قدسية لشيء في هذا الكون، ولا ثبات لشيء،ولا غائية في هذا الكون،ومن أهم مصادر التخلف المعرفي والعملي في الفكر العلماني هو دخول أي قيم أو مفاهيم غير هذه على الفكر العلماني ، إذا كنت تعتقد ذلك فأنت علماني، وهنا فالعلماني من حيث الجوهر ملحد، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالغيب، وهو يختلف عن تيار الإلحاد عبر التاريخ “وهو تيار ممتد في التاريخ امتداد الحياة نفسها ” بأنه في هذا العصر عصر العلم والنظريات العلمية التي تعمل على فهم كل شيء واقتحام كل شيء ، يُعمل فكره ويَنشط في توظيف النظريات والأفكار والاكتشافات لتبرير وتوكيد ونشر فكره الإلحادي ، ولذلك نرى نظريات في كل الاتجاهات والعلوم وجدت أو وظفت لدعم هذه الفكرة العلمانية أو اتخذت سبيلا لدعمها” الداروينية، الفرويدية، الهيجلية، المادية الجدلية، الوجودية … الخ”.

والعلمانية من هذا المنظور المعرفي الوجه النقيض للمنظور الإيماني الذي يبني نظرية المعرفة لديه على مصدر الغيب ومصدر المشاهدة” الوحي والعلم المادي “، ولديه لا غنى في تحقيق معرفة سوية ومتراكمة ومنتجة عن المصدرين معا ، وعنده مقدسات وغائية ، ويرى أن مصدر التخلف في عدم تحقيق التوازن في هذين المصدرين.

ومن جميل ما أتى عليه المفكرون في حديثهم عن العلمانية ، تناولهم واحدا من مظاهر الحياة ، وهو تلاقي العلمانيين وغير العلمانيين في موقف واحد إزاء مسألة معينة،وكيف يتم النظر والحكم على هذه الحالة .

ولقد أكد هؤلاء أن وحدة الموقف إزاء حدث أو قضية بعينها لا يعني اتفاقهم حولها فالمسألة تتصل بالدافع أو النية في اتخاذ هذا الموقف وحين يختلف الدافع والنية يختلف التصنيف والحكم. وهذا في الحقيقة يتصل بقاعدة من قواعد أصول الفقه تربط العمل بالنية والدافع.

وللمثال نقول:

قد يتفق العلماني والإيماني في تحريم الخمر أو المخدرات ، لكن هذا الاتفاق لا يسمح بالحديث عن موقف واحد لهما، لأن باعث الأول هو الخطر الذي يولده المخدرات والنية تستهدف درء هذا الخطر، أما الآخر فدافعه أن الله حرم هذا الأمر ودافعه رضا الله.

وقد يتفق العلماني والإيماني في وقت ما على اعتبار الأسرة ” المعروفة ” هي الأسرة التي يبنى عليها المجتمع، لكن ذلك لا يعكس اتفاقا يبنى عليه للسبب السابق نفسه، إذ دافع العلماني أن المجتمع أخذ بهذا الاعتبار فهو يلتزمه لهذا السبب فإذا تغير هذا الاعتبار في وقت قادم ” تغير الزمن ” أو تغير هذا الاعتبار عند مجتمع آخر” تغير البيئة ” فلا حرج، بل يصبح الحرج في رفض ” الأشكال الأخرى المدعاة للأسرة ” التي يروج لها حاليا والقائمة على تشريع الشذوذ والزنا من خلال مفهومي “والمثلية، والمساكنة”، بينما الأمر عن الإيماني لا يخضع للزمن ولا يخضع للبيئة، وإنما تحريم وتحديد الهي تشريعي لغير قابل للتغيير أو التعديل.

إذا كان هذا هو جوهر العلمانية، أو ما اسماها المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري العلمانية الشاملة أو الصلبة أو الفلسفية، فهل هناك علمانية أخرى يمكن النظر إليها، ويمكن أن نحتكم إليها في تقييم المواقف والحكم عليها.

يقولون بالعلمانية الجزئية، أو العلمانية السياسية، أو العلمانية المرنة، أو ما الى ذلك من أوصاف تريد جميعها أن تتخطى الأساس المعرفي للعلمانية وتذهب مباشرة الى ما اعتبر أوجه سياسية واجتماعية لها من مثل الديموقراطية، وتحرير الدولة من سيطرة رجال الدين، وتحييد المجتمع وأجهزة إزاء المسألة الدينية وحصر هذه بالجانب الشخصي والتعبدي،

ونحن نشاهد هذا النموذج من العلمانية في المجتمعات الغربية، وهي مجتمعات نفعية “براغماتية” بطبيعة أنظمتها ، وحين حقق قادة التيار العلماني الثوري ” بدء من الثورة الفرنسية ” انكفاء المسيحية الى داخل الكنائس، رضوا بذلك حدا فاصل يفصل الديني عن الدنيوي، وذهبوا الى الحياة الدنيا يعملون بها الى ابعد مدى ولعلهم في أعماقهم يطلعوا الى غلبة الدنيا على الدين في مجتمعاتهم، والى قدرة العلمانية على تحويل الكنيسة الى مجرد تابع يتمثل ويتغير مع المفاهيم والتطورات التي تحدثها الحياة في كافة المجالات ، فتتخلى عن المقدس والمحرم والأبدي وتجعل كل شيء نسبي وقابل للتغيير، ولعلنا نشاهد منذ حين هذا التحول، ففي وقت مبكر تراجعت الكنيسة عن تحريم الخمر وتحريم الربا، ومن آخر ما نتابعه اعتراف بعض الكنائس بالشذوذ والزنا ” المثلية والمساكنة حسب تعبيراتهم” كأشكال من العلاقات تكون أسراً معترف بها كنسيا.

هذا النموذج الغربي الذي يدعي بالعلمانية الجزئية اعتبر من النماذج القادرة على دخول المجتمعات المختلفة، والغالب أنه حين يتحدث البعض في المجتمعات الاسلامية عن العلمانية فإنه يتحدث عن هذا النوع، أو عن هذا النموذج للعلمانية،

والحق أن هذا نموذج مخادع لأنه إما أن يكون منطلقه مرحلي حيث يكون أصحابه على يقين من أن قيم العلمانية الأصيلة سوف تتغلب في نهاية المطاف وبالتالي فإن التطور السلمي والتدريجي في الوصول إليها يكون في عرفهم أسلم، وإما أن يكون الدافع إليه العجز عن ابتكار النظام السياسي الذي يستطيع الانتفاع بما آل إليه تطور الفكر السياسي الإنساني دون أن ينخلع من دينه وثقافته وأصوله الراسخة، وهي جميعها تستند الى حقائق إيمانية والتمسك بها تمسك بهذه الحقائق وتمسك بالفاعلية والقوة، وليس تمسك بموروث وماض لا غير، وقد يكون مبعثه يقين معاكس بأن العلمانية غير قادرة على الثبات في معركة الحياة خصوصا في المجتمعات الإسلامية ، وبسبب تلبس الديمقراطية بالعلمانية، وعلاقة نظم الحكم القائمة في بلداننا بالغرب واستمداد قوتها واستقرارها مما يوفره لها من دعم، فإن الأخذ بالعلمانية الجزئية من شأنه أن يوفر متنفسا للناس يستعيدوا من خلاله موقعهم من السلطة، ويستعيدوا من خلاله ربط السلطة بإرادتهم، وبعد ذلك فإن الناس حينما يستردون سلطتهم ، سيعيدون تكوين أساسها الفلسفي، وإذا تم هذا، أو حينما يتم فلن يكون هذا الأساس إلا منسجما ومتطابقا مع التكوين الحقيقي للأمة وهنا سيظهر الإسلام وستظهر صلته ببنية المجتمع ومؤسساتها، وللتدليل على رجاحة هذا الرأي يضربون المثل بالتجربة التركية وكيف يصعد الإسلاميون تدريجيا فيها، كما يمكن ببعض التجاوز أن يضرب المثل بصعود الجبهة الإسلامية في الجزائر في ثمانينات القرن الماضي .

المسلمون ومفاهيم الدولة الحديثة

إن قطاعا واسعا من الحركات السياسية الراهنة ومنها الإسلامية العريقة، ومن العلماء المسلمين باتوا يتحدثون الآن عن الدولة المدنية، رفضا للدولة الدينية ” باعتبار المعنى التاريخي الغربي لهذا المصطلح”، ويتحدثون عن الالتزام بالديموقراطية وبسيادة الأمة،وبالمواطنة، وبالدولة الحديثة ومشروعيتها، وبالوطنية والقومية، ويؤكدون، أن هذه المفاهيم ليس فقط لا تتعارض مع الاسلام ومفاهيمه وإنما لها أصول إسلامية, ولقد كان مهما إلى أقصى حد أن نسمع هذا الحديث من الدكتور سليم العوا ، ونقرأ له ولغيره في ذلك ، وأنا اجزم بصحة ما يقولون، لكني في الوقت نفسه أرى أن هذه المواقف والآراء الصحيحة لم يتم تأصيلها من قبل هؤلاء العلماء ومن قبل هذه التنظيمات تأصيلا حقيقا يرقى الى مستوى أهميتها في الحياة المعاصرة،

إن المواطنة تحتاج الى إعادة فهم معنى وظروف “مفهوم الذمة، وأهل الذمة، والجزية، والبراء والولاء”، وبدون ذلك يبقى الموقف ضعيفا، ولا يولد اطمئنانا، ولا يساهم في ولادة مفاهيم يبنى عليها.

كذلك فإن هذه المجموعة من العلماء والأحزاب الاسلامية التي باتت تتحدث وتتبنى عن كل القضايا التي اعتبرها البعض سببا في وسم الناصرية بالعلمانية، باتت تراجع موقفها من الناصرية وتجربة ثورة يوليو، وباتت تؤكد أن الموقف الذي كان من الناصرية ونظامها لم يكن منطلقا من انحراف الثورة عن الإسلام، أو نتيجة تبني الثورة للدعوة القومية، وإنما من صراع على السلطة بين تيارين أو اتجاهين أو مجموعتين كل يرى أحقيته في تسلم هذه السلطة، وقيادة هذا المجتمع ولقد تمكن الجانب الذي سيطر على السلطة من إبعاد منافسه، “د.محمد سليم العوا ، محاضرة في جمعية الوسط العربي الإسلامي في البحرين بمناسبة الذكرى السادسة والخمسين لثورة 23 يوليو”.

إن هذا الذي بسطناه من مفاهيم الدولة الحديثة، لا يمت بأي صلة للعلمانية، التي هي في جوهرها اعتقاد بأن الكون موجد نفسه، وأن الإنسان قادر على اكتشافه والحياة فيه دون عون أو إرشاد من قوة خارجية، وأن هذا الكون مكتف بذاته،

وهذه العلمانية في جوهرها نظرية معرفة قبل كل شئ، وليست نظرية في الحكم، وليس لها علاقة بإرادة الناس ولا بالديموقراطية، وبنظام الانتخابات وتداول السلطة، والحرية العامة، لقد ألصقت هذه المفاهيم بالعلمانية إما عن جهل وخلط باعثه الرئيسي التزامن أو الترافق بين ظهور هذه المفاهيم في العصر الحديث وبين ظهور العلمانية في أوربيا سبيلا للتخلص من حكم الكهنوت الفكري والعملي، أو لخدمة قوى الاستغلال والتحكم في مجتمعاتنا الاسلامية حتى لا تتحرر وتمسك زمام شأنها بيدها .

ونعود الى التساؤل الأول الذي بنينا عليه هذه الحلقة من بحثنا ، هل الناصرية علمانية، لنقول :

إنها من حيث الموقف المعرفي ليست كذلك فهي بقيادتها وأفكارها مؤمنة، تنتمي الى معسكر الفكر الإيماني الذي يقابله معسكر الفكر العلماني.

وهي من حيث سياساتها ومنهجها الاجتماعي لا يمكن أن توصف بالعلمانية إلا عند أولئك الذين يعتبرون هذه الأفكار التي أشرنا إليها والخاصة بالدولة الحديثة أفكارا علمانية,وهؤلاء ” وهم من الصف الاسلامي والعلماني على السواء “لا يعبرون عن حقائق الأمور، ولا يعبرون عن الفكر الاسلامي الرئيس في عالمنا الراهن، ولا يجوز أن يؤخذ موقفهم مأخذ الجد والاعتبار، ولا بد من وضع الجهد والاجتهاد الفقهي والفكري لتجلية هذا الأمر ليس دفاعا عن الناصرية أو قيادتها، وإنما دفاعا عن هذه الأمة وحقها في امتلاك أدوات تقدمها المتسقة مع دينها وتراثها ورسالتها.

د. مخلص الصيادي

**ملاحظة :

أمامنا نموذج له خصوصيته في بناء الدولة الحديثة هو النموذج الإيراني، يمكن أن تقدم دراسته الكثير من الإجابات في هذا المضمار، مع ملاحظة خصائص نظرة ولاية الفقيه التي أقيمت الدولة الإيرانية الاسلامية على أساسها، والتي لا نظير لها في الفكر الاسلامي السني .

الناصرية والدين

الحلقة الرابعة والأخيرة

مقدمة

في الحلقات الثلاثة الماضية بسطت نظرة الناصرية وقائدها للمسالة الدينية عموما والموقف والرؤية من الاسلام دين الأمة وعماد وجودها، ثم أتيت على قضية العلمانية لأجيب عن سؤال يتصل بعلاقة الناصرية بالعلمانية بتجلياتها المختلفة ، وفي هذه الحلقة الرابعة والأخيرة أتناول علاقة الناصرية بالنظام الاسلامي ، وذلك من خلال تبيان معنى النظام الاسلامي وهل الناصرية فيما جاءت فيه وأرادته كانت مغايرة أو مناقضة أو بديلة للنظام الاسلامي.

الحلقة الرابعة

الناصرية والنظام الاسلامي

ويبقى سؤال هنا ، إذا كان للناصرية هذا الموقف من الدين وهذا الموقف من الاسلام، ولم تكن علمانية ، فلماذا لم تتبن النظام الاسلامي ؟! وذهبت عوضا عن ذلك للحديث عن النظام الاشتراكي التعاوني ، ثم النظام الاشتراكي العلمي ، وكان الطابع العام لمسيرتها البحث عن نظام اجتماعي وسياسي لها .

السؤال حقيقي وجاد ، والإجابة عليه شديدة الأهمية ، ليس فقط لرؤية ما كانت عليه الناصرية ، وإنما أيضا – وهذا هو الأساس – لما سيكون عليه أمرنا في المستقبل.

إن الناصرية ترى أن الدين الاسلامي : الذي يتضمن

** العقيدة

** العبادات

** المعاملات

** الأخلاق

قدم كامل ما تتضمنه العقيدة من جوانب إيمان واعتقاد ومعرفة ، وكذلك فعل فيما يتصل بالعبادات ، فليس في هذا الجانب أي فرصة أو إمكانية للزيادة أو التعديل ، فكل ما يحتاجه المسلم قد وفره الاسلام ، كاملا منجزا ، وليس على المسلم إلا إتباعه ، وأي إضافة في هذه الجوانب ، إنما هو تقول على الله جل وعلا ، أو اتهام للرسول عليه السلام ، وقد جاء في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ” … اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الاسلام دينا ” المائدة / 3

والالتزام بهذا الجانب مما يدلل على إسلامية المسلم ، وأي محاولة للإضافة فيه بدعة واليها يشير الرسول الأعظم في حديثه المشهور تداوله ومنه “…. وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ” النسائي وصححه الألباني ،وقوله صلى الله عليه سلم ” من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ” رواه البخاري ومسلم .

ولقد قدم الإسلام أسس الأخلاق وقوامها إلى درجة قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” مسند الإمام أحمد .

أما ما يتصل بالمعاملات ، ومن ضمنها النظام السياسي والاقتصادي ، فإن فيه تفصيل،لأنه يتضمن جوانب من الحلال والحرام التي جاء عليها الدين الاسلامي والتي لا يناقش فيها أحد إلا بمقدار ما يتحمله البحث من إمكانيات التطبيق . وفيها ما يتصل بنظام الأسرة ، والزواج والإرث ، وهي نظم استقرت في المجتمع الاسلامي ، وكل ما يبحث فيها إنما يبحث في نطاق الفقه الاسلامي وليس الشرع الاسلامي .

ما أتينا عليه حتى الآن لا يمثل نقاط خلاف حقيقية بين المسلمين ، بغض النظر عن مستوى التطبيق ، وما يصدق على النظام الناصري في هذا الأمر يصدق على الكثير من غيره.

القضية الجوهرية التي ثارت حولها الخلافات وتثور ، والتي اعتبرتها أحزاب الاسلام السياسي ، قاصمة الظهر تتصل بالمشروع القومي الحضاري الذي حمل لواءه جمال عبد الناصر وبالنظام الاجتماعي ، والاقتصادي الذي اعتمده ،

وفي هذا الجانب بالتحديد يجب إيضاح أن قوى الثورة المضادة التي واجهت عبد الناصر قبل إعلانه الخيار الاشتراكي وعززت هجومها بعد الإعلان، صبت جام الغضب على هذا الخيار واعتبرته مناهضا للإسلام، وذهب الكثير من أصحاب هذا التيار إلى اعتبار عبد الناصر علمانيا وكذلك ثورته ، وذهبوا إلى حد تكفيره .

وقبل أن نمضي في توضيح رؤية عبد الناصر وثورته لهذا الجانب ، يجب أن نستذكر ونستحضر هنا أن هذه الثورة المضادة لم تنطلق في وجه أولئك الذين طبقوا النظام الرأسمالي أو الإقطاعي قبل أن يأتي عبد الناصر ، وفي فترة حياته ، وعلى مدى وجود ثورته ، وحتى الآن .وأن المقصود في كل هذه المعارك التي واجهت عبد الناصر هو خياراته الثورية لتوحيد الأمة ، وبناء نهضتها ، وقد استخدم الدين الاسلامي ظلما وعدوانا في هذه المعارك .

وفي المرحلة الراهنة تكتشف العديد من قوى الاسلام السياسي ،التي اختارت نهج المقاومة ، أن القوى العربية والإقليمية والدولية التي ناهضت عبد الناصر وثورته واستخدمتها واستخدمت خطابها الاسلامي في هذه المعارك ، تخوض الآن ضدها المعارك نفسها التي خاضتها ضد ثورة يوليو وقائدها .

والآن ، كيف نظر عبد الناصر وثورته إلى مسألتي النظام السياسي والاجتماعي ، وعلاقتهما بالإسلام ؟ .

بالمختصر ، ولأن المجال لا يحتمل تفصيل ، فإن الناصرية ترى أن الاسلام في هذا الجانب ، لم يقدم للمسلمين نظاما اجتماعيا واقتصاديا متكاملا كما قدم ذلك بالنسبة لقضايا العقيدة والعبادة والأسرة ..الخ ،ـ وهو ما أتينا عليه سابقا ـ ، وإنما قدم أسسا لبناء هذه النظم وترك للإنسان المسلم وللمجتمع المسلم : لعقله ، ولظروفه ، ولتطوره ، أن يكتشف أفضل النظم ، وأكثرها فاعلية وقدرة على تحقيق تلك الأسس الاسلامية .ولم يكن هذا عجزا من المشرع خالق الكون وما فيه ومن فيه ، وإنما لأنه جل وعلا منح الإنسان العقل، وأراد له أن يستخدم هذا العقل في هذه المجالات ، وأن يتفاضل البشر فيما بينهم فيما يطرحونه وفيما يصلون إليه من حلول ورؤى ، وقد جاء تقديم هذه الأسس كعلامات هداية وإرشاد في هذا الطريق .

ولقد قدم الفقه الاسلامي الكثير من التفاصيل في هذا الجانب ، يوم أن كان هذا الفقه يواكب تطور الحياة، ويوم أن كانت حياة المجتمع الاسلامي تواكب عملية التقدم الإنساني وتقودها ، وحين توقف ذلك أو تعطل ، توقف عطاء هذا الفقه أو تضاءل .

ما الذي قدمه الإسلام للنظام السياسي والاجتماعي ؟, وهل ما قدمه في هذا المجال يخص المجتمع الاسلامي فقط أم أنه يمتد لكل المجتمعات الإنسانية ؟

قدم الإسلام قسمات معينه لهذا النظام, من هذه القسمات : الشورى، والحرية، والمسؤولية، والعدل الاجتماعي، والمساواة، والقضاء، ولم يفصل فيها ، وجاء الفقه الإسلامي بتفاصيل عديدة في هذه السمات، وما جاء به الفقه الاسلامي هو ابن عصره ومرحلته وظروفه ومدرسته الفقهية .

يعتقد البعض أن نظام الخلافة الراشدة هو النظام الإسلامي، لكن هذا غير صحيح، إنه نظام إسلامي، وليس النظام الإسلامي، ونتيجة عوامل تاريخية عديدة لم يتح لهذا النظام أن يبني آليات سياسية تسمح بالقول أنه كان هناك نظاما للشورى، أو أن الإسلام جاء بنظام للشورى، إن الشورى في الاسلام سمة وليست نظاما، وعلى الناس أن يكتشفوا النظام الذي يحقق مبتغى سمة الشورى التي جاء بها الاسلام، والتي لا تخص النظام السياسي، وإنما تتسع لمختلف أشكال الاجتماع الإنساني – من الأسرة إلى أجهزة الدولة والحكم ، ومن إدارة مال اليتيم إلى إدارة مال الدولة – .

ويبدوا أنه استنادا إلى هذه الحقيقة بدأ مفكرون معاصرون من قوى الإسلام السياسي يقولون إن الديموقراطية ” بضاعتنا ردت إلينا ” وأنها تمثل الرؤية المعاصرة لمسألة الشورى.

إنه لا يكفي أن نقول أن الديموقراطية بضاعتنا ردت إلينا، وليس صحيحا القول إن الديموقراطية هي الشكل الحديث للشورى، ولا يجوز أن نغطي فقر فقهنا المعاصر تجاه النظام السياسي، بالحديث عن الشورى كنظام سياسي إسلامي، هذا غير صحيح ولا يثبت للبحث العلمي والتاريخي، وليس نقصا في الاسلام أن لا تكون الشورى نظاما سياسيا، إذ هي أعم من ذلك واشمل، هي سمة من سمات المجتمع الاسلامي بل والمجتمع العاقل الذي يمضي سويا مع الفطرة التي جعل الله عليها البشر، ولقد ترك الاسلام لنا أن نولد النظام السياسي الذي ينسجم مع هذه السمة.

ويعتقد البعض أن النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي كان زمن الخلافة الراشدة ، هو النظام الإسلامي ، لكن الحق ليس كذلك ، إن ما كان في ذلك العصر كان نظاما إسلاميا، وكل نظام يبتغي تحقيق العدل الاجتماعي، ويمنع الاحتكار، ويؤمن تقدم المجتمع، ويحقق له القدرة على التصدي لتحديات العصر، ويمكنه من النهوض بمجتمع المسلمين حتى يأخذ هذا المجتمع زمام الحضارة والتقدم، يكون مجتمعا يحمل هذه السمات الاسلامية أو بعضها ، سواء كان مجتمعا إسلاميا أم لا، لذلك حينما لم تكن قضية النظام الاجتماعي جزءا من الحرب على عبد الناصر وثورته كتب البعض عن اشتراكية الاسلام دون حرج، وتحدث كثيرون عن القومية العربية، وفي هذا نقل عن الإمام محمد عبده حينما ذهب إلى أوربا ما معناه : أنه رأى مجتمعا بقيم الإسلام دون أن يرى مسلمين .

إن الحديث عن النظام الاقتصادي الاسلامي فيه كذلك الكثير من القسر، وهو حديث لم نسمع به إلا في هذا العصر.

وحين نقدم النظام الاقتصادي الاسلامي مقابلا للنظام الرأسمالي، أو النظام الاشتراكي، أو النظام الإقطاعي، لا نكون قد حققنا شيئا ذا قيمة للإسلام إلا إذا جلينا هذا المفهوم في التاريخ قبل الحاضر، لا يمكن أن يكون النظام الاقتصادي والإنتاجي على زمن الخلفاء الراشدين، وزمن بني أمية، وزمن العباسيين، وزمن المماليك والدول المتتابعة، وزمن العثمانيين نظاما واحدا، ليس إقطاعيا وليس رأسماليا، وإنما نظاما إسلاميا ، ثم في العصر الحديث صار نظاما آخر بفعل التدخل الغربي، هذا مخالف لحقائق التطور، ومخالف أيضا لوقائع التاريخ،

نحن لا نشك إن هناك عناصر مشتركة وعناصر أخرى مختلفة بين الأنظمة الاقتصادية التي كانت سائدة عبر كل هذه العصور في مجتمعاتنا الاسلامية وتلك التي كانت سائدة في المجتمعات الغربية ، علينا أن نبينها ونحددها ثم نحدد مرجعية هذا الاختلاف ، وحين نكتشف أن الأصول الاسلامية هي التي دفعت وأسست لها الاختلاف نقول إن هذا هو أثر الاسلام في هذه النظم ، ولنا بعد ذلك أن نطلق ما نشاء من توصيفات ، يمكن أن نقول أن هذا هو النظام الاسلامي الزراعي مقابل النظام الإقطاعي ، وهذا هو النظام الاسلامي الصناعي مقابل النظام الرأسمالي ، أو ما يراه مفكرونا وفقهاؤنا من أوصاف صحيحة وأصيلة،

إن أكثر مسألة معاصرة انصب عليها الاجتهاد الاسلامي في المجال الاقتصادي الراهن هي مسالة البنوك الاسلامية، وإذا كان لنا أن نقول شيئا في هذا المجال ـ الذي يقال فيه الكثيرـ فإننا نكتفي بملاحظتين لهما صله بمجال بحثنا :

الملاحظة الأولى: أن إسلامية هذه البنوك ما زالت مجال شك ، ويبدو لي أن نظام البنوك في المجتمع الاشتراكي أكثر تلاؤما مع الموقف الاسلامي تجاه الربا من هذه البنوك لسبب رئيس أن البنوك في المجتمع الاشتراكي لا تستهدف الربح ” الربا ” وإنما تستهدف القيام بوظيفة اجتماعية عامة أو قطاعية تحددها الدولة

الملاحظة الثانية: وهي الأهم أن هذا الاجتهاد يأتي في إطار نشاط البنك ضمن بنية المجتمع الرأسمالي، أي أنها بنوك تساهم في اندماج مال المسلمين في بنية النظام الاقتصادي الرأسمالي، ولا تؤسس لنظام اقتصادي إسلامي ، وهذا على عكس ما يوحي إليه المتحدثون والمدافعون عن البنوك الاسلامية، ولهذا السبب بالتحديد تسارع بنوك ربوية عالمية لافتتاح أقسام للمعاملات الاسلامية ضمن فروعها المختلفة.

ولقد ذهب العديد من علماء المسلمين في هذا العصر ، ومن أؤلئك الذين عادوا مرحلة عبد الناصر ، يلتقون مع هذه الرؤية لقضية النظام السياسي والاقتصادي الاسلامي ، ويرون بالأدلة التي يسوقونها أن الله جل وعلا وضع للنظام السياسي والاقتصادي الاسلامي سمات معينة ، وترك لعقول المسلمين أن يصوغوا من حولها النظام الذي يلائم كل عصر وكل مرحلة، والذين يتابعون إصدارات هؤلاء العلماء وحواراتهم على الفضائيات لن يجد صعوبة في توثيق ذلك، ومثال ذلك هنا الدكتور محمد سليم العوا، والدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ راشد الغنوشي، وقبل ذلك الشيخ محمد الغزالي والإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمهما الله تعالى .

لكن مقابل ذلك فإن قطاعا من قوى الاسلام السياسي ومن هذه القوى : المجموعات الجهادية في مصر قبل مراجعاتها الأخيرة، وكذلك في الجزائر، والمجموعات المرتبطة فكريا بالقاعدة، وحزب التحرير الإسلامي، والقطبيين، وأمثالهم، ” ما زالت تعتبر الديموقراطية كفر، والقومية كفر، والنظام الجمهوري كفر، والمواطنة كفر، والاشتراكية كفر، وفرض الضرائب على أموال المسلمين عدوان واغتصاب، واستقلالية القضاء كفر، … الخ ، بل إن البعض ذهب إلى إنكار الكثير مما أثبته العلم إثباتا قطعيا، انطلاقا من عدم وروده في القران أو لورود نصوص ظاهرها يشير إلى خلاف ما جاء عليه العلم.

وكل هذا نتاج الاعتقاد بقدسية ما طبقه المسلمون من أنظمة وقوانين وما أقاموه نماذج سلطوية في عهدهم الأول واقتناعهم أن هذا بقي مستمرا في المجتمعات الاسلامية حتى مطلع العصر الحديث. وهو اعتقاد خاطئ لا يفرق بين التشريع الإلهي وبين اجتهاد المسلمين في كل حين، ووفق كل ظرف،

وكذلك اعتقادهم بأن الدين الاسلامي وفر كل شيء في كل مجال ، وهذا اعتقاد خاطئ أيضا إذا ذهبنا في تفسيره مذهب هؤلاء، أما إذا اعتبرنا أن توجيه الله تعالى في كتابه الحكيم ” واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ” النحل /43 ، الأنبياء / 7 ، هو الضابط في تفسير هذا الشمول للنظام الاقتصادي والاجتماعي ولمختلف العلوم والاكتشافات، وأن القول بالإباحة ومساحة المسكوت عنه جزء من التشريع، فإن القول بأن الاسلام جاء على كل شيء يصبح قولا صحيحا مطلقا، لأنه تصبح العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية جزءا مما طالبنا الشارع بإعمال الفكر فيه واكتشافه ، أي يكون جزءا من شرع الله في كونه، الذي لم يكشفه لنا لكنه طالبنا باكتشافه والتعرف الى خصائصه وضبطه بضابطة الاسلام ومبتغاه.

إطلالة على مفهوم الحاكمية

من المهم أن نشير هنا إلى مفهوم مركزي عند أصحاب هذا الشطر من تيار الاسلام السياسي ، مفهوم سمح لهم أن يذهبوا بعيدا في تصورهم لعلاقة الاسلام بالنظام السياسي والاجتماعي ، ولعلاقة الناس وعقولهم بهذا النظام هذا المفهوم هو مفهوم الحاكمية ،

إن حجر الزاوية في موقف هؤلاء أن تجعل الحاكمية للبشر في حين أن الحاكمية في الاسلام لله وحده ، ويبنون على ذلك أن التشريع ، والحكم ، والتقرير لله وليس للبشر ، وحين يجعل البشر هذا الاختصاص لهم فيكونوا قد تعدوا على ما خص الله به نفسه .

والحق أن هذه المسألة قديمة في الفكر السياسي الاسلامي ، تمتد منذ عهد الخوارج الذين كفروا الإمام علي كرم الله وجهه ، رابع الخلفاء الراشدين ، حينما قبل التحكيم ، وقالوا انه نزل على حكم الرجال – المحكمين – ولم ينزل على حكم الله الذي جعله خليفة .

ولقد حسم الإمام علي هذه القضية في حينها ، على المنهج الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأوضحه الخلفاء الراشدين من بعده ، حينما أوضح ثلاث مسائل :

الأولى : أننا في ما نقوم فيه، وفي مالا نقوم فيه نحن تحت حكم الله، وسيطرته، وقضائه، وقدره، إن هذه الحاكمية للخالق ليست في حاجة إلى اعتراف البشر، ولكن إيمان الفرد بهذه الحقيقة يجعله في عداد المؤمنين ويفرق بينه وبين أولئك الذين لا يؤمنون .

الثانية : أن ما نقوله ونفعله هو تعبير عن فهمنا، وإدراكنا لما يقع أمامنا من أحداث ووقائع، ومن الخطأ إسناد ذلك لله، ومن هنا يتكون أصل التفريق بين الدين والفكر الديني

الثالثة : أن الحكم ” الأمر ” شأن يختص بالبشر ، ويحكمون فيه ، ويتحكمون فيه ، وكلما كان اجتهادهم أقرب إلى مقاصد الشرع كلما كان فعلهم أقرب إلى مصلحة العباد ، ونفع الإنسان.

ونستطيع أن نقول باطمئنان : إن هذه السمات التي جاء عليها الاسلام فيما يتصل بالنظام السياسي والاجتماعي، لا تخص المجتمع المسلم فقط، ولا تشير إليه فحسب وإنما تتسع لتكون سمات كل مجتمع راشد ، بل إن” العدل والشورى” هي سمات الحكم الراشد مسلما كان أم غير مسلم، لكنه في المجتمع المسلم مطلبا على المسلمين العمل لتحقيقه، ونستحضر هنا ما رواه الله لنا من قصة ملكة سبأ التي كانت الشورى من سمات حكمها ، ومدحها القرآن بذلك ، وأجرى على لسانها سننا اجتماعية ، كما نستحضر هنا قول بعض فقهاء الأمة من أن الله – جلً وعلا – يديم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ، ويزيل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة . فالدنيا للمسلم والكافر لا تقوم، وتستمر، وتكون منارة خير إلا بالعدل والشورى .

وختاما

هذه هي نظرة الناصرية للمسألة الدينية عموما ، وهذه نظرتها إلى علاقة الدين الاسلامي بالنظام السياسي والاجتماعي، وهذه نظرة قائد الثورة، وإن الباحث ليجد هذا واضحا جليا في كل مواطن، وتوجهات وقرارات وسياسات ثورة يوليو، ونجد الأساس النظري لهذا الموقف في المناقشات والجلسات التي تولد عنها ميثاق العمل الوطني .

إن الوصول إلى مجتمع الكفاية والعدل،ومجتمع الوحدة والتحرر، ومجتمع التقدم والمنعة، كان هو الموجه الرئيس لعبد الناصر وثورته ، وإن كافة المراحل التي مرت بها الثورة وكافة الشعارات التي رفعتها من الاشتراكية إلى الديموقراطية السليمة كانت تبتغي هذا الهدف ، وبغض النظر عن حجم ما أمكن تحقيقه في هذا الجانب – وهو حجم مهم وثر – فإن الهدف يبقى :

تحقيق الكفاية والعدل للمواطن ، وتحقيق التقدم والمنعة للوطن .وتحقيق الوحدة والتحرر للمجتمع .

وإذا كنا ننظر إلى المستقبل فيجب أن نتنبه إلى ضرورة الاعتناء الشديد في تحريك الاجتهاد الفقهي حتى يعاد وصل ما انقطع في هذا الجانب، وحتى يتمكن بناؤنا الحضاري القادم من تحقيق الاستقلالية القانونية، التي لم تتوفر زمن عبد الناصر رغم الجهود التي بذلها الأزهر وهيئاته الفقهية والتي كان يشارك فيها علماء وفقهاء من مختلف الدول العربية والإسلامية، ذلك أن تحقيق هذا الاستقلال وجه من أبرز وجوه الاستقلال والتميز الحضاري الذي حثنا عليه الدين الاسلامي .

د. مخلص الصيادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى