نحيب الأمكنة / المرتضى محمد أشفاق
أملْتُ مقودي شرقا فظهرت بين غيوم الذاكرة(أما اكنابيش) أي ذات القبب، وهي دار الناجي ولد الشيخ عبد الله، كانت من أرقى عمران المدينة، وتتميز أنها في أول مساحة استغلال مرخصة، الرخصة رقم1، على اسم بدرو، وهو اسباني أسلم وتوطن المدينة…
لهذه الدار شهرة واسعة، استغلتها في الثمانينات مفتشية التعليم الأساسي، ثم توقفت دورة حياتها، وبقيت جاثمة مهملة أربعين سنة تجرب فيها عوامل التعرية أقسى فنون التعذيب والتجريد، اتخذ منها حمير عربات السوق المركزي وامتداداته مقر استراحتهم(pause) كلما اشتد الحر، وظن الناس أن الشمس تلامس الأرض، والحمار أعشق الحيوانات للظل، تراه حريصا على استبقاء رأسه عند جذوع الجدران مطرقا كالصاغي إلى نبضات قلب الأبدية..
استغلها بعض ذوو الحاجات المختلفة مستأذنين أولا، ثم بدا لهم أنهم ليسوا بحاجة إلى إذن، فقد رفع عن الدار الحجر، والرعاية، وتركت وحدها تقارع عاديات الليالي، وبطش الأزمنة المتعاقبة كمختبل اكتسبت شياطينه الحصانة من التعويذات…
نفذ في هذه الدار حكم قاس بالإعدام ذات صبيحة من نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، جعل الجراف عاليها سافلها كما وقع لسدوم قوم لوط، وأحرق الزرب، فسواها بالأرض وتحولت غبارا غطى سماء الدور المجاورة…هي الآن مجموعة دكاكين لا يعرف أصحابها أنهم يحتلون احتلالا شرعيا أرضا كانت فيها ذات القبب لرجل اسمه الناجي ولد الشيخ عبد الله…
في طريقي موليا وجهي صوب الشمال وقفت أمام منزل الشيخ ولد احويبيب، رابط الشيخ في المدينة طويلا، أحبها وأحبته، تستقبلك عند باب هذه الدار ثلاثةٌ مبهجاتٌ ، الماء والخضراء والوجه الحسن…نعم قبل أن تتجاوز الحلائب من البقر تعرتضك المزرعة الجميلة في الجانب الشمالي الغربي من المساحة، ثم وجوه مستبشرة مرحبة..اليوم وقفت، فأصبت (بربطان الراص)، صف الدور الجميلة اختفي، صار بعضه قاعة حفلات، وبعضه مساحات فارغة في طابور الانتظار…
وليت وجهي قبل الجنوب فرأيت دار يسلم ولد ميلود، بجوار سوق المواشي القديم، في أقصى جنوب القرية، كانت قبل الحاجز الرملي أول الدور استقبالا لطلائع السيول القادمة من الشرق…ظلت الأيام تأكل من جسمها، والعواصف والأمطار تجردها من إزارها، وتحفر فيها حتى صارت محمية لكل سامَّة وهامَّة ولامَّة…
هي اليوم كبقايا حجارة رمس مهجور، متجردة مثل عجوز أكلت العجول ملحفتها فلم تملك لدفعهم قوة…كأن لم يقرأ فيها يسلم ولد ميلود من رقيق الشعر وشيقه أسفارا…
بدلت السرعة قليلا واتجهت إلى الشمال، أتحسس من دار أهل امبي فال، الدار التي بنتها امقيلي بنت بوب في السبعينات، والصالون الكبير المطلة نوافذه على الشارع الكبير الواصل بين المدينة وقرية طيبه، وهو شارع المربط، وطريق ألاك بوكى، كنت أرى في مجلس ذلك الصالون رجال سياسة وأدب، منهم الشيخ ولد مكي، ما كانت امقيلي تتصور أن صمبطلي يخبئه عنها القدر سيسوي دارها وبقايا ذكراها بالأرض، ويرقص بقسوة على حطامها…
أمام أول مخبزة كهربائية في المدينة وقفت طويلا، أتفحص رفوف الخبز، وصفوف المشترين، وجلبة السوق، ومراجعي إدارة الأمن وموريتل، ومحكمة الاستئناف…المخبزة وملحقاتها بنيت على أنقاض دار حبوت فيها كثيرا وأنا رضيع، فيها عاشت جدتي مريم بنت الشيخ عبد الله أيامها الأخيرة عندما كانت مع ابنها إسلم ولد أداع تتعالج، فيها توفيت، وفيها غسلت وكفنت، ومنها رحلت إلى المقبرة، كنت رضيعا أشاهد ولا أشهد…في الحي المقابل لقصر العدل بقايا عمران، بعضها كأسنان الفأر، وبعضها كأسنان أعويش منت المختار…