أحمد ولد اجَّ.. عاشق الطبيعة الذي هزم الموت/ الشيخ بكاي
يضيع المرء الكثير من الفرص، لكنني لا أندم إلا على واحدة هي كتابة مذكرات الراحل أحمد ولد اجَّ رئيس القبيلة، الدبلوماسي، البرلماني، وشاعر الطبيعة..
اتفقت مع الفقيد وهو مريض على أن يفتح لي ذاكرته.. لكن الموت كان أسرع مني.. كنت سأجل شهادة تغطي مرحلة من تاريخ البلد تمتد من عهد الاستعمار الفرنسي إلى أيام حكم العقيد علي ولد محمد فال..
واليوم وأنا أستعرض بعض الصور والأوراق الشخصية وجدتني مشدودا إليه.. إلى ذكراه .. إلى الشاعر فيه.. إلى الإنسان..
كان أحمد شاعرا رومانسيا يستنطق الأشجار والطيور والآكام والكثبان الرملية.. يعشق القمر والوادي والجبل. وكان عصريا بنكهة الحداثة، بدويا أصيلا ينصب الخيمة في البراري.. درس في العاصمة الفرنسية باريس، واشتغل دبلوماسيا خارج الوطن..
من معايشة الغربيين عمق السلوك المدني والتنظيم المحكم وعقلانية التفكير، لكنه ظل البدوي الذي لا يطيب له مقام خارج “الوادي” (الرشيد)، و”الحلة” التي قادها يافعا قبل انتقاله إلى فرنسا للدراسة، وتشبث بـ”ظلالها” بعد استقرار أهلها وعملية “الهدم” التي طاولت كل ما هو “أصيل” في حياتنا…
قُيض لي مرات أن جاورتْ “خِيَّمي” “حلة” أسرته في مواسم خريف كنا ننتظره بفارغ الصبر لأن البادية تسكننا ونحلم دائما بالهرب إليها من المدينة…
البادية الموريتانية ظلت دائما تختلف عنها في أي مكان آخر: كانت بادية “عالمة”. لكن أحمد ولد اجَّ كان إضافة مهمة إليها حيث تعلم منه الناس أن يجمعوا بين الترحال وروح المدنية.. أن تكون البادية مرفهة بوسائل بسيطة، أن تكون نظيفة محافظة على الصحة..
في الرشيد المدينة وواحة النخيل، تلعمنا منه الكثير.. حتى الخبراء- المهنيون الأصليون الذين “ربى” أجدادهم أجيالا من النخيل تعلموا منه كيف تكون النخلة أقوى وأفضل ثمرة.. وعلى المستوى المعماري قلد البعض أسلوبه البسيط الجميل واستفاد من آرائه وذوقه الرفيع..
كتبت عنه وهو حي في العام 1996 ضمن تحقيق صحفي عن قريته “الرشيد”:
“…وعلى رغم العزلة شبه الكاملة عن اجزاء موريتانيا الأخرى فان سكان الرشيد يشاهدون تلفزيونات العالم من ” سي أن أن” إلى “أم بي سي” مرورا بالتلفزيون السعودي والليبي والمغربي.. وتصبح القرية الصغيرة مركز الاقليم الذي تقع فيه أثناء المناسبات الدولية والرياضية الكبرى، بفضل صحن فضائي زرعه النائب في البرلمان احمد ولد اجه فوق منزله.
وأحمد من ابناء الواحة الذين احبوا طبيعتها حد التصوف وقد امضى جزءاً من حياته في اوروبا، ويعيش نمط اسلوب عصري في حياته الخاصة. وعلى الرغم من اقامته الرسمية في نواكشوط ، فانه لا يهنأ له بال الا في الواحة.
ويشاهد المهتمون من مسؤولي عاصمة اقليم “تكانت” وسكانها الاحداث الكبرى على الشاشة في الرشيد، وهذا ما حدث خلال حرب الخليج والمفاوضات العربية – الاسرائيلية”.
عاصر وهو شاب صغير يقود مجموعته القبلية قادة كبارا مثل الأمير عبد الرحمن ولد سويد احمد (الدان) الذي كانت له معه مواقف تترجم الاحترام المتبادل بين “سلطتين” تقوم علاقاتهما على المودة والتنافس “الصامت”..
يسجل لأحمد موقف سياسي نادر في موريتانيا هو رفضه في أغسطس من العام 2005 المشاركة في مسيرة مؤيدة للذين انقلبوا على حكم الرئيس معاوية ولد الطايع، حيث قال لجماعته “لا أستطيع الظهور في مسيرة مؤيدة لانقلاب على نظام أنا نائب عن حزبه في البرلمان..”.. وكان أقرب مؤيدي ذاك النظام أول من هاجمه..
كنت أختلف (أحيانا) مع أحمد في بعض “الشؤون الأهلية” رغم أنه لم تكن لي مشكلة معه، فقد كان يقدرني ويستمع إلي رأيي.. لم نختلف أبدا على أمر يخصني.. كنت أتخذ موقف الدفاع عن “الغائب” وأحاول كسر الجليد بين الأطراف… كان يتفهم استقلاليتي “الزائدة عن الحد” ومواقفي” الثقيلة” المدافعة عن خصومه، ويتعامل معها بلطف…
أخجلني ذات مرة:
قررت جماعات من الوسط التقليدي عقد لقاء في بيت قريب لي، وكان هو وزعيم آخر يرفضان عقد هذا اللقاء ويعتبران أنه يسبب ضررا سياسيا لهما.. كان متوقعا مني أن أستخدم قرابتي بذلك الشخص في إلغاء الاجتماع، الأمر الذي رفضت، لكن تم الاتفاق على تسيير الاجتماع بطريقة ترضي كل الأطراف.. وهذا ما تم بنجاح..
أخذني أحمد إلى بيتي بعد الاجتماع، وسألني وأنا أفتح الباب لأنزل وكنت متعبا جدا: “ماهو رأيك؟”..
رددت عليه: ” أعرف شيئا واحدا هو أنك وفلان (كلام لا ينبغي من شخص تربى على ألا يرفع رأسه في وجه من هو أكبر منه سنا)”.
انتبهت إلى غلطتي فنظرت في وجهه فإذا هو يبتسم في هدوء.. خجلت من نفسي كثيرا واندفعت في الاعتذار الصادق حقا..
طمأنني هكذا بكل بساطة: ” بيك ألا طول السهر والنقاش”… كان أحمد لطيفا و مجاملا رغم الصراحة والصدق اللذين اشتهر بها…
شاعر الطبيعة:
أجريت معه ذات مرة وهو في البادية مقابلة استخدمتها في وثائقي لقناة تلفزيونية دولية.. سألته عن حرب يخوضها على الدوام ضد قطع الشجر..
مر بسرعة على ضرورة حماية البيئة وفائدتها للأرض والسكان، ليغوص في حديث شاعري عن الشجرة التي تعطيه ظلها بلا مَنٍّ:
“هي لا تتكلم مثل الانسان ولا تدافع عن نفسها، لكنني أفهم لغتها، وأتفاعل معها، وأبسط ما يمكن تقديمه أن أحميها من المعتدين… “. واضاف: ” نحن جزء من هذه الطبيعة الجميلة وعلينا صيانتها.. الكهف الظليل ( أقنتور) يرحب بي.. يمنحني الظل وقت الحر، والدفء وقت البرودة، ألا يستحق علي الشكر؟.. ألا يستحق ألا أترك فيه نفايات وأوساخا..؟”..
يوم في ظل نخلة.. “طيور الواد”:
تروي هذه القطعة قصة يوم تحت النخيل.. وتصف المسرح الطبيعي في شكل رائع، وتترجم حبا عميقا للحياة في الواحة، وتخلد في الوقت ذاته ملحمة الحياة فيها..
يجلس أحمد تحت نخلة يراقب أسراب العصافير ترد إلى “الواد” من كل الاصقاع، مثلما يتنادى إليه المصطافون في موسم “القيطنة” من جميع الانحاء.. وحينما يقول أحمد “الواد” فهو يعني وادي “الرشيد..
عصافير على شجرة “الطلح”، وأخرى تحتها وتحت أشجار “الحناء”.. والبعض تحت النخيل، يستظل به معه.. تطربه وشوشة العصافير وتبادلها الأصوات في شكل منغم كالغناء:
طْيُورْ الْوَادْ ألاّ تنْزَادْ
مَنْ كَلْ ابْلاَدْ اعْلِيهْ ارْحِيلْ
ذَاكْ ادْلِيلْ اعْلَ زَيْنْ الواد
تَوْ اتْلاَحِيگْ اعْلِيهْ الجِّيلْ
لَحْمَامْ الفَوْگْ الطَّلْحَايَه
واطْيُورْ اخْرَينْ افْلُوطَايَه
شِ مَنْهُمْ تَحَتْ الْحَنَّايَه
والِّلي مَنهُم تَحْتْ النَّخِيلْ
امْگيَّلْ فالظَّلْ امْعَايَه
لاَهِينى زَيُّو وَالدَّاوِيلْ
اصْواتُو كِيفْ الغَنَّايَه
ومن حين لآخر “يميل” “اشيلال” أو “الشادوف” إلى فم العين الواقعة وراء أحمد مصدرا لحنا جميلا لا يدرك جماله إلا سكان الواحات.. يمتلئ حوض الماء فيسيل عبر “آزلامز” ((قنوات لتصريف الماء من الحوض داخل الحديقة ) سيلا آية في الروعة:
وشْمَذَاكْ أشَيْلاَلْ إِمِيلْ
اعْلَ فَمْ الْعَيْنْ أُورَايَه
ليَنْ إعُودْ امْن الْحَوْظْ إسِيلْ
أَلْمَ فَژَلْمَژْ سَيْلْ آيَه
يصدر الشاعر آهة وهو يتذكر ذاك “المقيل” وماء باردا في دلو معلق في ظل نخلات، ويقسم أنه لن ينساه أبدا.. فذلك “مستحيل”:
واللهِ يَذَاكْ الْمَقِيلْ
وامّيّهَا فَدْليوْ افْدَايَه
تَحْتْ انْخَيْلاَتْ ابْذِيكْ الْحِيلْ
أللِّ عنْدِى بَعْدْ أرْوايَه
مَا نَنْساهَانَ مُسْتَحِيلْ
غنت المعلومة بنت الميداح هذه المقطوعة صوتيا، واتفقت وإياها على أن نذهب إلى الرشيد لتغنيها مصورة.. ابلغت المرحوم أحمد بالمشروع فرحب به.. وبقي أن أحدد معها التاريخ، لكن اكتشاف مرض الراحل أوقف المشروع وقتها.. ولا أقول أوقفه نهائيا لأني على استعداد لأن آخذ الفنانة الكبيرة فنكمل قصة “طيور الواد”..
استقبل الراحل مرضه الذي كان يعرف أنه لم يعد يسمح له بالحياة إلا فترة وجيزة بشجاعة نادرة.. ظل متماسكا كأن شيئا لم يحدث..
واختار مكان دفنه:
“هنا احفروا قبري، وإذا لم تكن الارض منساقة في هذا المكان احفروا هناك”…… رحمه الله……….