العلاقات الموريتانية الصينية.. نحو مرحلة جديدة من الشراكة الاستراتيجية/ د. يربان الحسين الخراشي
شكل الإعلان عن قيام إقامة علاقات دبلوماسية بين موريتانيا والصين في 19 يوليو 1965 مبادرة غير مسبوقة ومفاجأة في المشهد السياسي العالمي المنقسم حينها، حيث كانت الصين تعاني من حصار ثلاثي أمريكي – سوفيتي – هندي، أما موريتانيا فقد كانت تعاني من حصار عربي، ويمكن القول إن العلاقات الموريتانية الصينية مرت بثلاث مراحل؛ الأولى في زمن الزعيم الراحل ماو تسي تونغ تميزت بالتقارب والتفاهم في شتى المجالات، وكان ذلك واضحا في مواقفهما والدعم المتبادل والتعاون فيما بينهما في إطار القضايا المطروحة في المحافل الدولية، والتي على رأسها قضية الاعتراف بممثل الصين الجديدة كممثل شرعي وحيد للصين في الأمم المتحدة، وقد لعب الرئيس المختار داداه دورا جوهريا في وضع الأسس الراسخة للعلاقات الموريتانية الصينية، حيث شهد عهده التوقيع على اتفاقيات اقتصادية وصحية وثقافية بين البلدين، كما شهد أهم المحطات التاريخية للتعاون التي لا تنسى، وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن عهد الرعيل الأول لعبت فيه الدبلوماسية الموريتانية دورا كبيرا، وحققت مصالح تنموية بل وحتى استراتيجية كبيرة للبلد.
ثم جاءت المرحلة الثانية التي بدأت مع تولي دينغ شياو بينغ مهندس الإصلاح والانفتاح الرئاسة في الصين سنة 1978، وهي أيضا بداية الانقلابات العسكرية في موريتانيا، ورغم التغييرعدة مرات لهرم السلطة إلا أن موقف موريتانيا من الصين وقضاياها الجوهرية (الصين الواحدة و شينجيانغ، وهونغ كونغ، وبحر الصين الجنوبي و التبت …) لم يتغير. وخلال هذه المرحلة تحولت الصين تدريجا إلى الدولة التاجرة خاصة مع مطلع القرن الحالي بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 وفي أقل من عشرسنوات تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 20 ضعفا، حيث انتقل من حوالي 100 مليون دولار سنة 2004 إلى أكثر من ملياري دولار سنة 2013 وتحولت الصين إلى أكبر شريك تجاري لموريتانيا مع خللٍ كبير يتعلق برزوخ العلاقات التجارية تحت رحمة تقلبات أسعار خام الحديد في سوق دولية لا ترحم، وقد تمّ تسجيل عجزٍ في الميزان التجاري بين البلدين على حساب موريتانيا، خلال السنوات الأربعة (2015-2018)، التي كان فيها متوسط سعر طن الحديد الخام تحت مستوى الـ80 دولاراً، بينما تم تحقيق فائضٍ في الميزان التجاري كبير خلال سنوات الطفرة التاريخية في أسعار خام الحديد.
أما المرحلة الثالثة فقد بدأت سنة 2013 مع دخول الصين لعهد الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر جديد بفتحها لصفحة جديدة من الانفتاح على العالم الخارجي مختلفة، وذلك بعد أن أصبحت مصنع العالم وسوقه الأكبر، حيث قفز حجم إنتاجها الصناعي إلى أكثر من 5 تريليون دولار، وأصبحت أكبر دولة تجارية والشريك التجاري الأول لحوالي 140 دولة حول العالم، و لذلك تبدلت جذريا أولوياتها وسياستها الخارجية ومقارباتها، وفي سنوات الأخيرة بات من الملاحظ أن العلاقات الموريتانية الصينية تترواح بين مجالات تشهد تعاونا وثيقا مع فتور كبير في مجالات أخرى، وقد يكون الإعلان من البكين أمس عن الإرتقاء بالعلاقات بين البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية خطوة في الطريق الصحيح طالبنا بها كثيرا، ونعتقد أنها ستدفع بالعلاقات إلى المستويات التي تعكس عمق تاريخها، وتلبي طموحات الشعبين الصديقين بما يحقق المنفعة المتبادلة والازدهار المشترك، حيث ستمكن من تخطي العلاقات الدبلوماسية التقليدية إلى شراكة تضمن مستوى أعلى من التواصل المؤسساتي والاجتماعات العالية المستوى، والأهم من ذلك أنها خطوة ضرورية للتكيف مع المتطلبات الجديدة للولوج إلى التمويل الصيني، وجذب الاستثمارات الصينية، وكذلك تضمن تعاونا أعمق في مجالات محددة، حيث باتت تصنيفات العلاقات الدبلوماسية للصين تعكس بشكل رئيسي عمق العلاقات ومستويات التعاون بينها ومختلف دول العالم، ويمثل كل مستوى جوانب وخصائص مختلفة للعلاقات بين البلدين وتشمل هذه المستويات على سبيل المثال لا للحصرالشراكة الاستراتيجية، والشراكة التعاونية الشاملة، والشراكة الاستراتيجية الشاملة، و الشراكة الاستراتيجية في جميع الأحوال.
مرت العلاقات الموريتانية الصينية بثلاث مراحل أحدثت المرحلة الأولى منها نقلة نوعية في العلاقات ولكن خصوصية عهد الرعيل الأول قد ذهب بريقها السياسي واستنزف رصيدها الدبلوماسي، ونحن اليوم بأمس الحاجة الى إعادة العلاقات على أسس جديدة ولعل الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية هي الخطوة الأولى على طريق إخراجها من المنظور القديم وتفاهمات عالم مابعد الحرب العالمية الثانية الذي يستند على معادلة الدعم السياسي مقابل الدعم التنموي، والدخول في منظور جديد يقوم على أساس رابح – رابح يرعى بشكل أكبر المصالح الحيوية لموريتانيا. منظور يأخذ في الحسبان مكانة الصين في العالم الجديد التي ستصبح فيه الدولة الاقتصادية الأكبر هذا من جهة، ومن جهة أخرى يأخذ في الحسبان الموقع الاستراتيجي لموريتانيا، و مواردها الكامنة الهائلة من الطاقات المتجددة، مما يؤهلها أن تلعب دور المحرك الإقليمي، وتبقى تنير الساحل الإفريقي ليس ثقافيا وروحيا وحسب بل وبالكهرباء النظيفة.