اللحن الأخير…/ محمد إسحاق الكنتي
كان الجو عاصفا.. السفينة، رغم ضخامتها، تتهادى يمنة ويسرة كلما صفعتها أمواج المحيط على أحد خديها. تكاد السماء تنقض على سطح السفينة لكنها مترددة في صب الماء على الماء فاختلطت دموعها ببصاق المحيط… أعضاء الفرقة يتجمعون في المقدمة مكونين حلقة حول الآلات والكراسي المبعثرة.. كانوا يتحاشون النظر إلى بعضهم رغم تلامس أجسادهم بحثا عن الدفء… سمع صوت يقول:
– لنوزع الآلات، ونأخذ أماكننا.
– أنا سآخذ الكمان، فقد تعلمت العزف عليه أيام الطفولة…
– بل آخذه أنا…
– لماذا أنت؟
حدث هرج وتدافع للفوز بالكمان… سمع صوت خافت، لكن نبرته الآمرة مليئة بالقسوة والازدراء…
– اجلسوا… سأوزع الآلات…
ضاعفت الريح العاصف من قوة الأمواج لتزيد ترنح “السفينة السكرى”. توزع أعضاء الفرقة على شكل هلال عند طرفيه جلس ضابط الإيقاع على كرسي متحرك وظهره للمحيط. على يمينه قبع الشيخ في كرسيه ممسكا آلة الرق بيد مرتعشة، إلى جانبه تشاغل فيصل بتسخين طبله، بينما التقم منصور بوقه وقد ملأ رئتيه بريح رطب بارد. أما كريشان فقد اختفى وسط آلاته النحاسية التي تلمع كلما ضرب البرق…
على يسار ضابط الإيقاع جلس عزمي خلف الأرغن يتأمله كأنما يحلل مكوناته ويستشرف مستقبل نغماته. خلفه جلس فوزي يحتضن عوده، ويتطلع إلى الناي في يد جمال كأنه سيكار كوبي… لاحظ الشيخ:
– بقي الكمان!
سمع صوت يقول:
– والقانون؟
قال ضابط الإيقاع بحدة وامتعاض…
– القانون معطل، وصوته نشاز. نظر الجميع إلى الآلة التي نخرتها الرطوبة في ركن قصي. فجأة ضربت موجة عنيفة سطح السفينة، فاختفى القانون. مال الشيخ على ضابط الإيقاع وقال بصوت خافت..
– أقترح… وهمس الاسم في أذنه، لآلة الكمان…
انتفض ضابط الإيقاع..
– ولمَ!
– إسمه موسيقي، وليست لديه أدنى فكرة عن “كمان والاس هارتلي”.
رفع كريشان صوته…
– لماذا لا تصعد خديجة لتعزف على الكمان؟
اعترض ضابط الإيقاع..
– الفضائيات الآن مليئة بالمحجبات.. أتركوها “تحضر السحور للعيال”…
في الأسفل كانت الفوضى عارمة… رجال ونساء يتدافعون في كل الاتجاهات، أطفال يصرخون ويتشبثون بأمهاتهم… كان الصمت ثقيلا رغم الضجيج الصاخب.. لم يكن أحد يكلم أحدا وكأنما هناك اتفاق صامت بين الجميع على حث الخطى بحثا عن مخرج يعجزون عن تحديده، لكن لا يريد أحد أن يسأل عنه آملا أن يجده وحده من دون الآخرين، فالزحام، في مثل هذه الحالات، هو الخطر بعينه… كان أعضاء “الاتحاد…” يسيرون في نفس الاتجاه في صف مرصوص وصمت مطبق… فجأة رن هاتف أحدهم، انسلخ من الصف، فتح الخط ثم سار حسب إرشادات محدثه، فوجد نفسه على السطح. قبّل رأس الشيخ ثم اتجه إلى ضابط الإيقاع..
– مرحبا بسليل الدوحة الشريفة…
أشاح ضابط الإيقاع بوجهه، ثم قال، كأنما يكلم نفسه..
– نحن نصارع لتثبيت نسبنا في بني تميم!!!
– بنو تميم أشراف، ألم تسمع قول الناظم..
وألحقن بالنسب الكريم*** جهينة كذا تميم
إنه نظم من خمسة آلاف بيت حفظته في الخامسة، ولا تزال عجائزنا ترددنه في الموالد في بلدنا…” كتم كريشان ضحكة كادت تغلبه، سعل عزمي، وتنحنح الشيخ، ثم دفع إليه بالكمان…
قال، وهو يتلقفه:
– إنه مزمار داود! وقد رأيت في المنام “أني أحضنه” ففسرته بفشل الحصار على قطر.. نظر حوله، ثم همس..
– الحمد لله على استقالة الظفيري…
لم يتمالك فوزي نفسه..
– عليك الله يا شيخ!!! ثم انفجر في ضحكة مجلجلة، وجدت صداها لدى أعضاء الفرقة…
في الأسفل ازداد تدافع الناس وبدا القلق والخوف على وجوههم، فقد ارتفع منسوب المياه بشكل خطير.. تنبه أعضاء “الاتحاد” إلى غياب زميلهم فتوقفوا.. نظروا إلى بعضهم دون أن يتكلموا، ثم استأنفوا السير… قال عمارة:
– يا دكتور سليم! بوصفك الأمين العام تحرى عن مصير زميلنا…
رد سليم، وهو يغذ السير…
– حقق في أمره، فلطالما احترفت التحقيق…
رد عمارة بمكر، وهو يندس بين اثنين من أعضاء الاتحاد…
– لعل «المشروع الإسلامي الحضاري الوسطي» الذي يتسع للمسلم ولغير المسلم المسيحي واليهودي ومعتنقي الأديان الوضعية وغير المتدينين بأي دين.” يتسع للبحث في مصير زميلنا…
– توقف سليم فجأة، ثم التفت يفتش عن عمارة، ثم قال متهكما…
– لكنه لا يسع المندسين في صفوف اليسار، وبين أعضاء الاتحاد، خدمة للجماعة… في هذه اللحظة انهار مطبخ السفينة، فتطايرت الصحون والمواد الغذائية والمشروبات.. جاهد الأعضاء تحت الركام والسيول.. كان كل واحد منهم يريد أن يتسلق جاره لتطفو رأسه فوق الماء… ساد السكون، وركد الماء. وسط الصحون، وشرائح اللحم الطازج طفا طربوش تعلوه حبة بطاطس، وربطة عنق ملفوفة حول زجاجة، وهاتف نقال تنبعث منه رسالة صوتية..”تحويل الرصيد حرام.. والساعة أدهى وأمر…”
في ممر بالدرك الأسفل كان الشنقيطي قد اكتشف بعد الكثير من “الخصومات السياسية”، سلالم النجاة فصعدها بسرعة حتى إذا بلغ الدرج الأخير “رجم”، “فارتد” إلى قاع السفينة، ثم أعاد الكرة من جديد، وهو يتحسر…
– مصائب! مصائب!
اقتربت منه خديجة التي كانت تائهة تبحث عن مخرج، فاجتذبها صوته. نظرت إليه بشفقة، ومدت يدها بقطعة قماش…
– هل تتكرم بإعادتها للقناة!
لفها بنظره من شعرها المبلل حتى البلاط الذي تقف عليه…
– غردي بعيدا يا امرأة!!!
غير بعيد كانت الشغيلة منهمكة بتزويد الأفران بالفحم. بدا ولد… مستسلما لمصيره، منكبا على عمله، بينما يحاول “سجين لدى الكتائب” الاختباء وسط الجموع أملا بمراسلة القناة…
على السطح بدأت الفرقة تستعد للعزف.. تساءل الشيخ وهو يهز الرق..
– ما هي وصلة الليلة؟
رد عزمي، متهكما..
– “أقرب يا إلهي إليك”.
أسند منصور البوق على فخذه، وقال مخاطبا عزمي في حنق…
– الله مخرج ما كنتم تكتمون.. تتخفون خلف العلمانية، والثورية لإفساد ديننا وأخلاقنا، وأنتم في الحقيقة مستمسكون بدينكم. كيف تدعونا إلى عزف ترنيمة ذات بعد ديني! تدعي العروبة، والماركسية ثم تأوي إلى كهف دينك محاولا جرنا إليه.. الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. وأنت… نظر إليه ضابط الإيقاع، فالتقم بوقه، وانحشر في كرسيه. كان عزمي سارحا، يهز هوائيا في يده، يتردد بين النظر إلى ساعة يده والتطلع إلى الأفق، ويردد في نفسه..”عشت عميلا، وسأموت عميلا”.
قال كريشان، وهو يمسح الرذاذ عن آلاته النحاسية…
– لماذا لا نلحن إحدى قصائد ميسِّيه، فالليلة شبيهة بلياليه؟
انتفض فيصل، فأبعد الطبل من حجره…
– يا أخي إلى متى هذا الاستلاب! تفكر في كرة القدم والأطفال والنساء يذبحون في سوريا الصمود، البراميل المتفجرة تسّاقط على رؤوس المواطنين العزل، والطيران الروسي يصطادهم مثل الأرانب!!! فلنلحن مأساة شكسبيرية..” نكون، أو لا نكون”.
أصلح فوزي عمامته التي عبثت بها الريح، وقال محاولا إخفاء نبرته المتهكمة…
– لماذا لا نحاول الخروج من الخلاف الفرنسي الإنجليزي بتلحين “عرس الزين”؟
نطق جمال، كأنما يخرج من سباته…
– في كوريا…
كان الشيخ يطالع صفحة السماء، مرتعشا فيصدر الرق أصواتا غير منتظمة، فسأله عازف الكمان..
– أي مقام هذا يا شيخ!
رد الشيخ، شاخصا ببصره إلى السماء…
– إني أرى ما لا ترون… كان يرى وجه البوطي مبتسما، وفي يده نسخة من القرآن تقطر دما يكتب على صفحة السماء.. إنا من المجرمين… ثم يتجلط الدم فجأة…
أخرج ضابط الإيقاع ورقة من جيبه وقرأ، وهو يحرك كرسيه في اتجاه المحيط…
– سنعزف “اللحن الأخير” على مقام “النهاوند”…
في تلك اللحظة انشطرت السفينة قسمين وتطاير الجميع في المياه المتجمدة…
فسمع اللحن الحزين بين الأمواج المتلاطمة، في العمق:
“سطوة السيّد والمولى الأمير!
يا حياءَ العمرِ، يا هذا الخجولْ
إنّ هذا قدَرُ العمر وهذا…
آخرُ الإيقاعِ في اللّحنِ الأخيرْ.”
94 تعليقات