بين الخامس من أغسطس والسادس منه بقلم/ م. محفوظ بن أحمد
اليوم 5 أغسطس 2017 موعد إقرار تعديلات دستورية، كشفت الحملةُ الرئاسية المحمومة عن أبعادها الشخصية.
تعديلات أثارت من الخلاف والشحناء وهزت من الثوابت الجامعة، ونالت من الرموز الوطنية… ما لا يمكن تعويضه ولا قضاؤه بأي إصلاحات ولا إنجازات موعودة يعلم الجميع من وقتها وارتجالها، ومن الخبرة، أنها وعود مخلوفة وبروق أخلاب.
أما غدا فهو 6 أغسطس 2008! إنه يوم غير مشرق ولا مشرف من تاريخ هذا البلد، يوم مصرع الأمل! يوم قام ضابط كبير غير مشهور باستغلال منصبه الأمني، بصفته المسئول عن حماية الرئيس المدني المنتخب بالإطاحة به واعتقاله. ثم خرج على الشعب ليقول بكل بساطة إنه فعل ذلك لأن الرئيس أقاله من منصبه! وتلا ذلك ما تلاه من أدوار سياسية معهودة كخلع البذلة العسكرية وإجراء انتخابات رئاسية…
غير أنه من الظلم والكذب أن نُحَمل ذلك الضابط “المترئِس”، أو “المتمرد”، حسب مصطلح الرئيس اعل ولد محمد فال ـ رحمه الله ـ كلَّ المسؤولية وحده؛ بل يتحمل بعض المدنيين السياسيين أوزار ذلك الانقلاب مع أوزارهم، تدبيرا ونبريرا، وربما كان لشياطينهم، ولا يزال، الدور الأكبر في استمراره وفي توجيهه حتى الآن نحو الأوهام والمهاوي، لا قدر الله!
في هذه البلاد تقوم السياسة على ركيزتين معوجتين الأولى أن الناس بلا ذاكرة، وبلا إدراك أصلا. والثانية أن الكذب والنفاق والفساد خصال خلقية كلون بشرة الإنسان أو كطوله وقصره، ليس مسؤولا عنها، وليست فضيحة؛ بل صارت الفضيحة نفسها بلا أثر على الإطلاق!
**
لدي ـ مثل آخرين ـ قناعة ويقين بأنه سيأتي يوم تُنشَر فيه أمام القضاء جرائم هذا الحدث الجلل، وتنثر فيه جرائره على الدولة والمجتمع أمام محاكم العدل، وخاصة منها:
1= كسر إرادة الأمة واستبدالها بإرادة فردٍ شخصية
2= انتهاك الدستور والقوانين، بدون ضرورة قاهرة.
3= الخروج على سلطانٍ ونظام شرعيين (يا سادتنا الفقهاء!) وتعريض البلاد بذلك للفوضى والفتنة…
4= إعادة الحكم العسكري الاستثنائي وإحياء اغتصاب واحتكار الحكم بالقوة الغاشمة، وقطع الطريق على التداول السلمي للسلطة.
5= تشويه صورة البلاد، دولةً وشعبا، في الداخل والخارج، وهي الصورة المشرقة التي رسمها تسليم حاكم عسكري السلطةَ طوعا لرئيس مدني منتخبٍ بحرية.
6= ما ألحقه ذلك الانقلاب العسكري من ضرر باقتصاد البلاد وتنميتها، بسبب رفض العالم له وإدانته. وما جرَّ من تراجعِ أو نفورِ المستثمرين والشركاء والمانحين… بسبب وجود نظام غير شرعي من جهة، وبسبب اضمحلال الثقة في استقرار البلد وأهليته الأمنية والسياسية والاقتصادية، في ظل نظام عسكري متقلب، من جهة أخرى.
7= الممارسة السياسية والاقتصادية القائمة على التحكم الفردي المطلق في مصالح البلاد وتسيير الشأن العام حسب المزاج والارتجال، مما أدى إلى تبذير الموارد في مشاريع وصفقات واتفاقيات غير مؤسسة وربما خاسرة.
8= بيع ممتلكات الدولة العامة الثابتة كالمدارس والمباني، بدون سبب أو هدف مشروع قائم على أسس ومعايير من ذوي الاختصاص الفني والإجازة القانونية.
9= الاعتداء على رموز الدولة الوطنية وتغييرها أو تبديلها، بدون سبب وجيه ولا اتفاق وطني عام، ولا أسس دستورية أو قانونية؛ مما يقلل من هيبتها، وأشعل الخلافات وعمَّق الشروخ داخل المجتمع…
**
وكم من قائل سيقول: إن هذا النظام أيضا حقق إنجازات كبيرة وسعى في تحسين أحوال الناس، بل قد يحتج البعض بالشعارات والمبالغات الدعائية؛ فيقول مثلا:
إن هذا النظام قد أسس الجيش الوطني وأصلح كل أحواله، مما حمى الحدود وزاد الأمن. وإنه وزع الأراضي على الفقراء. ووفر الماء والطاقة. وشيد مطارا عصريا. وعبَّد الطرق. وبنى المستشفيات، والمدارس. والمصانع… الخ.
وفي هذا بعض الحقيقة، ولكن فيه باطلا كثيرا.
اليوم، دعونا ننظر من قريب إلى ملامح حصاد تسع سنين، من زاوية أخرى، قد تخرق الإناء فتفرغ نصفه المفترض أنه “عامر”:
أولا: لا يمكن إنفاق واستهلاك هذه الأموال المتدفقة (ارتفعت الميزانية من 250 مليار سنة 2008 إلى 461 مليار أوقية في 2017) من الموارد الصافية المسجلة (ميزانيات الدولة العادية، وفَرْق سعر المحروقات)، والموارد الأخرى “المتَخَلِّطة” (الهبات الخاصة، وثمن السنوسي، وريع المواقف الدبلوماسية، وبيع العلاقات القطرية…) لا يمكن لهذه الأموال الهائلة أن تُبَدد دون أن تترك آثارا في الواقع من الإنجازات والمصالح. لكن السؤال الغائب هو: هل تلك الإنجازات هي بحجم تلك الأموال، وهل هي الإنجازات المناسبة: تحقيقا، وتوزيعا، وجودة، وأولويةً…؟
وعلى الأرض:
1= أين السياح والزوار الأجانب الذين يُشكلون الهدف والطعم المغري لغارات واعتداءات الإرهابيين (وقانا الله شرهم وسحقا وبعدا لهم على كل حال)؟
2= هل تمتَّع الفقراء بقِطعهم الأرضية الضيقة وأحاطت بهم الخدمات العامة، فعمروها وبنَوا عليها الفِلل والقصور والمصانع والمتنزهات… وارتفعت معيشتهم واكتمل اكتفاؤهم فيها؟
وفي طي هذه العملية وتحت مبرراتها كم شُرِّع من “الـﮔـژرات” و”انتُقي” من القطع الأرضية “الاستراتيجية” للمسؤولين والنافذين والوسطاء، الذين يملكون القصور المنيفة في المدينة وخارجها؟!
3= تم تعبيد وترصيف طرق جيدة في شمال العاصمة، وطرق أخرى جهوية في غاية الأهمية. ولكن تقابل هذه وتلك طرق قليلة مهترئة ومتآكلة أو متردمة في جميع أنحاء نواكشوط الأخرى، التي لا تغطي الطرق المعبدة أو الممهدة نسبةَ 1% من مجموع شوارعها! بينما تقتل طريق “نواكشوط – النعمة” المتآكلة من الأنفس الزكية أكثر ممن تؤدي بهم الأمراض!
أما طريق “نواكشوط – لـﮔـوارب” فقد هلك واختفى معظمه من الوجود، مع أنه الطريق الوطني والدولي رقم1!!
4= هل اختفت عربات الحمير وبراميل المياه الملوثة أحيانا التي يعتمد عليها جل سكان الأحياء الجديدة، رغم توفر الماء من مصدره الغزير (الذي جنى هذا النظام ثمار جهوده الطويلة المضنية)؟
5= هل توفرت الكهرباء لكل بيت وكل براگ وكل خيمة، وعمت الإنارة العمومية ـ التي يدفع الناس أثمانها ـ كلَّ الأزقة والأحياء الخائفة في الظلام، وهل انتهت الانقطاعات المفاجئة المتكررة للتيار في كل حي، رغم نجاح هذا النظام في إنتاج فائض نظري من الطاقة الكهربائية المتعددة المصادر (حالة فشل مخجلة تُسَوق كالنصر المبين!).
6= ما هي الرحلات الدولية التي أصبح مطار نواكشوط الدولي العصري الجميل يستقبلها بعد سنتين من افتتاحه العملي؟
إنها نفس رحلات المطار القديم البائس بدون زيادة ولا نقصان! (وأكثرها أو كلها رحلات شركاتِ سيادةٍ حكومية موجهة بغض النظر عن جدواها التجارية!).
7= هل اختفت طوابير المرضى الموريتانيين المتسكعين حول عيادات ومستشفيات سنغال والمغرب وتونس، ناهيك عن عيادات “الكبار” في فرنسا؟ وهل اختفت الأدوية المزورة، أو انخفضت أسعارها؟ وهل وُضع حد لموت المواطنين في مستشفيات البلاد بسبب الأخطاء الطبية والإهمال وقلة الوسائل؟
8= هل ازدهر التعليم وارتفعت مستوياته وزيدت مؤسساته؟ وما هو تفسير توالي سنوات انحطاط معدل النجاح في الامتحانات، وخاصة الثانوية العامة التي تسجل فيها بلادنا أدنى مستوى في منطقتنا وفي العالم (حوالي 8% هذه السنة)؟ ولأي هدف علمي أو مصلحي تباع المدارس العمومية لتحول إلى دكاكين، في غمرة أزمة الركود التجاري والانحطاط الاقتصادي؟
9= أين المصانع والمزارع؟
ليس أمامنا على أرض الواقع سوى مصنع الألبان في النعمة، الذي اختفى ذكره بعد تدشينه رسميا قبل سنتين!
أما المنتجات الزراعية فهي كثيرة في الأسواق، ولكنها كلها أجنبية مستوردة، باستثناء الأرز إلى حد ما. مثلا: الذرة والفستق والقطانيات ـ التي اشتهرت بلادنا بإنتاجها ـ مستوردة من الجيران الجنوبيين، وأما التمور والبقول والفواكه وحتى البطيخ… فتأتينا من جيراننا الشماليين!!
… أما الأسعار فالحديث عنها لا يبدو شيقا ما دام كل شيء مستوردا، في ظل إصرار السلطة على رفع مداخيل الجمارك والموانئ!
**
على ضوء هذا كم نسبة الثقة في الوعود الجديدة بأن تكون موريتانيا في ظرف سنتين أو ثلاث من أغنى دول العالم؟ ولئن تحقق ذلك فسيكون بفضل ثلاثي التنمية السحري: تغيير العلم الوطني، وإلغاء مجلس الشيوخ، وإنشاء المجالس الجهوية (القبلية بمقتضى الواقع)؟!! أما الغاز، فليس “أبرك” من الذهب والبترول والنحاس والحديد والأسماك…
وعلى العموم فقد أيقن الناس أن ثراء السلطة وازدياد دخلها وأرقامها الفلكية لن ينعكس بالسماع على معيشتهم الصعبة وفقرهم المدقع! حتى لو صفقوا وانساقوا كالأنعام إلى تلبية رغباتها ومهازئها بهم!!
كل عام بلا انقلاب وموريتانيا بخير، وأملا غير موءود!