حول ولاية النكاح / محمدن الرباني / رد على رأي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد فقد طالعت فتوى الأستاذ محمد الأمين الشاه التي تعالج موضوع الولاية في النكاح مرجحة القول بعدم اشتراط الولي في النكاح، وهو ترجيح لم يدعم بأدلة كافية، فرأيت أن أعلق على تلك الفتوى بجملة ملحوظات:
الملحوظة الأولى:
ذكر الأستاذ أنه لا يوجد نص قطعي الدلالة والثبوت على مسألة وجوب الولاية في النكاح, وأن من قال بوجود إجماع فليأت به.
ما ذكره الأستاذ صحيح لا جدال فيه، لكن هذا ليس سبيلا إلى التضعيف، فإن ما ثبت من الشريعة بأدلة قطعية الدلالة والثبوت نزر يسير، وجملة الشرع لا تثبت إلا بالأدلة الظنية، ومعنى الظن هنا ما غلب ورجح صدقه، وإن لم يفد العلم الذي لا يتطرق إليه شك، كما لو أخبرك عدل ثقة عندك بخبر ما فأنت بداهة تحكم بصحته، وتعمل بمقتضاه رغم احتمال كونه غالطا أو كاذبا لكنه احتمال مستبعد لا يلتفت إليه حتى يقوم عليه دليل.
إن أخبار الآحاد التي هي جملة السنة، ودلالة العام الذي هو أغلب الخطابات على كافة أفراده، ودلالة الأمر على الوجوب، ودلالة النهي على التحريم، والحكم على الحديث بالصحة والضعف وغيرها من قواعد أصول الأحكام كلها أمور ظنية، لا يختلف اثنان من أهل الاختصاص في ذلك، فإذا ألغينا العمل بها فقد ألغينا الشرع برمته. بل محل الاجتهاد عامة إنما هو الظنيات كما يتضح من تعريف الأصوليين له فهو “استفراغ الفقيه وسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي”؟ أما القطعيات فلا اجتهاد فيها، كما هو منصوص في كتب أصول الفقه، ولا شك أن الأستاذ وأمثاله من المتمرسين بكتب العلم يدركون ذلك، لكن هذه العبارة أضحت ترد على ألسنة بعض المعاصرين دون انتباه إلى خطورة محتواها.
وتوضيحا للعامة نورد بعض الأحكام الثابتة بدليل ظني ليدركوا منزلتها في الشرع، فمنها نجاسة الخمر، ووجوب ستر العورة في الصلاة، ووجوب طهارة الخبث فيها، وقراءة الفاتحة في الصلاة، والخروج منها بالسلام، ووجوب النية في الوضوء وكثير من نواقضه، وأنصبة الزكاة ووجوبها في أصناف كثيرة من المال، وركنية السعي بين الصفا والمروة في الحج إلى غير ذلك مما يتعبد به جماهير المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم.
الملحوظة الثانية:
أن التعريف الذي ذكر الأستاذ للولاية بأنها “حق شرعي ينفذ به الأمر على الغير جبرا عنه” تعريف غير جامع لولاية النكاح لأنه لا يشمل الثيب التي لا تجبر، ولا مانع لأنه يدخل فيه بيع مال المحجور بغير رضاه لمصلحته، ولعل الأولى لو عرف ولاية النكاح بأنها “حق يمكن صاحبه من مباشرة العقد أو تفويضه جبرا حيث يجوز الجبر أو تراضيا مع المولى عليه حيث لا جبر”
وهنا كان حريا بالشيخ أن يتناول الجبر في ولاية النكاح لأن أغلب مدار التعسف في هذا المجال عليه مع ضعف مستنده من الأدلة الشرعية لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:( لا تنكح أيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت). وعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: يا رسول الله، إن البكر تستحي، قال: رضاها صمتها.
يقول ابن القيم: (وموجب هذا الحكم، أنه لا تجبر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره، ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمته)
وترجم الإمام البخاري للحديث بقوله: (باب: إذا زوج ابنته، وهي كارهة، فنكاحه مردود) وإنما جزم بذلك لأن خنساء بنت خدام الأنصارية، روت أن أباها زوجها، وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد نكاحه” ولما روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – من أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أن أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم” رواه أبو داوود وابن ماجه. قال ابن القيم: “وهذه غير خنساء، فهما قضيتان، قضى في أحدهما بتخيير الثيب، وقضى في الأخرى بتخيير البكر”
أقول لقد كان الشرع حكيما حين منع أولياء المرأة من عضلها أو جبرها مراعاة لمشاعرها ولأنها في الأصل أدرى بمصالحها، وفي منح الأولياء حق الولاية من غير تعسف، حتى لا تذهب بها العاطفة المجردة من المصلحة كل مذهب، وباجتماعهما تراعى جميع الجوانب اللازم أن تراعى.
الملحوظة الثالثة:
أن ما مال إليه الأستاذ من تضعيف الأحاديث التي استند إليها الجمهور مذهب مرجوح، ولم يبذل جهدا إضافيا لتقويته، إذ اكتفى ببيان علل ضعيفة أجاب عنها الجمهور، وأوضحوا أنها لا تقدح في صحة المعنى الإجمالي للأحاديث المتمثل في اشتراط الولاية في النكاح.
يقول ابن عبد البر في التمهيد رادا على من ضعفوا حديث الزهري “أيما أمرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاث مرات فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له”: “روى هذا الحديث إسماعيل بن علية عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة كما رواه غيره وزاد عن ابن جريج قال فسألت عنه الزهري فلم يعرفه ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية وقد رواه عنه جماعة لم يذكروا ذلك ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة، لأنه قد نقله عنه ثقات، منهم سليمان بن موسى وهو فقيه ثقة إمام، وجعفر بن ربيعة، والحجاج بن أرطاة، فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك شيء، لأن النسيان لا يعصم منه إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نسي آدم فنسيت ذريته” وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسى فمن سواه أحرى أن ينسى، ومن حفظ فهو حجة على من نسي، فإذا روى الخبر ثقة عن ثقة فلا يضره نسيان من نسيه هذا لو صح ما حكى ابن علية عن ابن جريج فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ولم يعرجوا عليه”
وقال ابن حجر في التلخيص مخرجا له : ” الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو عوانة وابن حبان والحاكم من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عنها وأعل بالإرسال. قال الترمذي حديث حسن وقد تكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج قال : ثم لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره، قال : فضعف الحديث من أجل هذا . لكن ذكر عن يحيى بن معين أنه قال : لم يذكر هذا عن ابن جريج غير ابن علية . وضعف يحيى رواية ابن علية عن ابن جريج انتهى . وحكاية ابن جريج هذه وصلها الطحاوي عن ابن أبي عمران عن يحيى بن معين عن ابن علية عن ابن جريج . ورواه الحاكم من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : سمعت سليمان سمعت الزهري ، وعد أبو القاسم بن منده عدة من رواه عن ابن جريج فبلغوا عشرين رجلا ، وذكر أن معمرا وعبيد الله بن زحر تابعا ابن جريج على روايته إياه عن سليمان بن موسى . وأن قرة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعة تابعوا سليمان بن موسى عن الزهري . قال ورواه أبو مالك الجنبي . ونوح بن دراج ، ومندل وجعفر بن برقان وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ورواه الحاكم من طريق أحمد عن ابن علية عن ابن جريج وقال في آخره : قال ابن جريج فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه ، وسألته عن سليمان بن يوسف فأثنى عليه قال : وقال ابن معين : سماع ابن علية من ابن جريج ليس بذاك . قال : وليس أحد يقول فيه هذه الزيادة غير ابن علية . وأعل ابن حبان وابن عدي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم الحكاية عن ابن جريج . وأجابوا عنها على تقدير الصحة بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه . وقد تكلم عليه أيضا الدارقطني في جزء من حدث ونسي ، والخطيب بعده وأطال في الكلام عليه البيهقي في السنن وفي الخلافيات : وابن الجوزي في التحقيق . وأطال الماوردي في الحاوي في ذكر ما دل عليه هذا الحديث من الأحكام نصا واستنباطا فأفاد”
وقال ابن حجر في فتح الباري بشأن حديث لا نكاح إلا بولي الذي أورده البخاري ترجمة: (لا نكاح الا بولي ): استنبط المصنف هذا الحكم من الآيات والأحاديث التي ساقها لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة على غير شرطه، والمشهور فيه حديث أبي موسى مرفوعا بلفظه أخرجه أبو داود والترمذي وبن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم، لكن قال الترمذي بعد أن ذكر الاختلاف فيه وأن من جملة من وصله إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه، ومن جملة من أرسله شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة ليس فيه أبو موسى رواية، ومن رواه موصولا أصح، لأنهم سمعوه في أوقات مختلفة، وشعبة وسفيان وإن كانا أحفظ وأثبت من جميع من رواه عن أبي إسحاق لكنهما سمعاه في وقت واحد، ثم ساق من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة قال سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق أسمعت أبا بردة يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نكاح الا بولي قال نعم، قال وإسرائيل ثبت في أبي إسحاق، ثم ساق من طريق ابن مهدي قال ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل، لأنه كان يأتي به أتم، وأخرج ابن عدي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة وسفيان، وأسند الحاكم من طريق علي بن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم صححوا حديث إسرائيل ومن تأمل ما ذكرته عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا في ذلك إلى كونه زيادة ثقة فقط، بل للقرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل الذي وصله على غيره”.
وفي سبل السلام للصنعاني شارحا حديث أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا نكاح إلا بولي” ما نصه: “قال ابن كثير قد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث إسرائيل وأبو عوانة وشريح القاضي وقيس بن الربيع ويونس بن أبي إسحاق وزهير بن معاوية كلهم عن أبي إسحاق كذلك قال الترمذي، ورواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق مرسلا، قال والأول عندي أصح، هكذا صححه عبد الرحمن بن مهدي فيما حكاه ابن خزيمة عن أبي المثنى عنه، وقال علي بن المديني حديث إسرائيل في النكاح صحيح، وكذا صححه البيهقي وغير واحد من الحفاظ، قال ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن جابر مرفوعا، قال الحافظ الضياء بإسناد رجاله كلهم ثقات” قلت –الكلام للصنعاني- ويأتي حديث أبي هريرة لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، وحديث عائشة إن النكاح من غير ولي باطل، قال الحاكم وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش، قال: وفي الباب عن علي وابن عباس ثم سرد ثلاثين صحابيا، والحديث دل على أنه لا يصح النكاح إلا بولي لأن الأصل في النفي نفي الصحة لا الكمال، والولي هو الأقرب إلى المرأة من عصبتها دون ذوي أرحامها، واختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح فالجمهور على اشتراطه، وأنها لا تزوج المرأة نفسها، وحكى عن ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وعليه دلت الأحاديث”
الملحوظة الرابعة:
من غريب الاستدلال اعتبار الأستاذ اختلاف الرواية عن مالك في تعيين الأولياء ترددا منه في حكم الولاية، وهما أمران متباينان كما لا يخفى، وأغرب من هذا التفسير ما عزاه الأستاذ لابن القاسم دون نسبة إلى مصدر معروف من عدم وجوب الولاية في النكاح، والذي تطفح به كتب المالكية بدء من المدونة إلى شروح خليل هو نقيض ذلك.
الملحوظة الخامسة:
أن الفتوى التي خلص إليها الأستاذ أطلقت في المرأة وهو ما يشمل الصغيرة والسفيهة، ومخالفة ذلك للإجماع ظاهرة، إذ الخلاف منحصر في الكبيرة الراشدة.
الملحوظة السادسة:
أن مثل هذه القضايا التي تكثر حولها النزاعات والخصومات هي أعلق بالقضاء منها بالفتوى، والقانون الموريتاني قد حسم المسألة بما له وجه، بل هو الراجح من حيث قوة الدليل وكثرة القائل ومعقولية المعنى، فلا ينبغي التشويش عليه بقول مرجوح.
بناء على ما تقدم فإنني أنا المسمى محمدن بن الرباني المأموم بمسجد الرحمة في عرفات بأغلب الأوقات، أفيد بأن ترجيح الأستاذ محمد الأمين بن الشاه لعدم لزوم الولاية في النكاح مخالف للأحاديث الصحيحة التي صححها الحفاظ المذكورون أعلاه وغيرهم، وهو خارج على مذهب جماهير الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، ومخالف لمدونة الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية في مجملها، وليس مما يقويه ثناء الناشطة مكفولة بنت إبراهيم ولا المحامي محمد ولد أمين، واللبيب تكفيه الإشارة، والعلم عند الله تعالى.
المفتش محمدن الرباني.
نواكشوط 3 نوفنبر 2017.