الكواكبي في مواجهة الفرعون/ إحسان الفقيه
لم يكن الفيلسوف ابن رُشد مُبالِغًا حين قال «للأفكار أجنحة تطير بها»، فهي تتخطى الحدود الزمانية والمكانية، تبقى وإنْ مات صاحبها، خاصة إن كانت أفكارا تتَّسق مع حركة الكون ونواميسه، فلا تصطدم بالفطرة، ولا تجافي تشريعات السماء.
عبد الرحمن الكواكبي كان من أولئك الذين زادوا في تراب الأرض، وزادت أفكارُهم عقول الأمة فهما ووعيا، وحسْبُه أن سطّرت يداه كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي مرّ على طباعته أكثر من مئة عام، ومع ذلك يجده القارئ حتى اليوم غضّاً طريَّا، وكأنه يُعالج الحالة العربية الراهنة وواقعها السياسي والاجتماعي.
لقد كان الكتاب مرجعا في الاستبداد السياسي، الذي رأى فيه الكواكبي الداء الدوِيّ، وأوضح أن القائل بأن أصل الداء هو التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا تهاونَ الناس في الدين. وأنّ القائل بأن الداء هو اختلاف الآراء يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف، وحتى القائل بأن أصل الداء هو الجهل، يُشْكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشد، فيخلص الكواكبي إلى أن الاستبداد السياسي هو أصل الداء.
وعلى الرغم من قناعتي بأن التهاون في الدين هو أصل الداء، لأنه بالأساس يفرز الاستبداد السياسي، حين يتخلى المسلمون عن تطبيق المنهج الشمولي، ويسمحون لأَرَضَة الأمراض الاجتماعية أن تأكل مِنْسَأَةَ الوحدة، ويقبلون بفساد منظومتهم القيمية والأخلاقية، حينئذٍ ينشغلون عن مسؤولية مُراقبة الحكام وتقويمهم، فيكون فيهم حُكم السيد الفرد، على الرغم من قناعتي هذه، إلا أنني يزول لديّ التعارض، حين أنظر إلى فكرة الكواكبي من زاوية أن بيئة العدل يكون معها صلاح الدين.
في كتابه العميق يقول الكواكبي «وأشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان، هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية».
ولا أجد مثلا في التاريخ يمكن إسقاط هذه العبارة عليه، أبلغ من فرعون موسى الذي كان له النصيب الأكبر من القصص القرآني كرمز للاستبداد.
فهو يُمثّل حكومة الفرد المطلق، فيُعطي لنفسه صكّا في تحديد مصير الشعب، واستعبادِه وسَوْمِه سوء العذاب، ويندفع بتأويل رؤيا يراها إلى ذبح مواليد الذكور سنة واستبقائهم سنة أخرى، ويضع ثروات البلاد في قبضته، ولتذهب البطون الخاوية إلى الجحيم، حتى إنه ليتبجَّح بامتلاك ما ليس له «أليس لي ملك مصر وهذا الأنهار تجري من تحتي»، ولا ينسى الفرعون أنْ يُهدِّد بالاعتقال للمعارضين فهذا هو الديدن «لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين». وتراه يُسخِّر موارد البلاد من أجل الدعاية السياسية وتحقيق نصر مزعوم، فيأمر وزارته ببناء صرْح عظيم، يعمل فيه أبناء المجتمع بالسُّخْرة، وتُبدّد فيه أموال الدولة، هي عادة كل فرعون مُستبد، لذلك أبدى الكواكبي دهشته إزاء التعامل مع الأهرامات باعتبارها رمزًا لعبقرية البناء، مع أنها دليل دامغ على القهر والاستبداد الذي أجبر الشعب على تبديد موارده البشرية والطبيعية من أجل بناء مقابر للحكام. وهو مع ذلك يطلق سحَرَتَه، يُروّجون لسياساته، ويشوهون مخالفيه، ويوجِّهون الرأي العام بما يخدم بقاءه على العرش.
لقد ساعده على إمضاء سياساته غيابُ وعي الجماهير، فاستهان بهم «فاستخف قومه فأطاعوه»، لذلك لا تثريب عليه إذا وعد فأخلف، ولا غبار عليه إن استجهلهم وقدّم لهم كشف حساب وهميّ لإنجازاته، فيكفي أن يمنحهم خطابا عاطفيا لا يُسْمن ولا يُغني من جوع، مؤكدا على نزاهته ببضع كلمات «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد».
وهو الوارث للعرش من خلال تلك المؤسسة الفرعونية التي أنجبَتْه، فليس لغيرهم الحق في التناوب على العرش، وعلى من يعترض أو يخالف أن ينظر إلى تلك العصا التي يحملها الفرعون دائما، حينئذ يتأدب كل من يريد أن يطرح نفسه كبديل للفرعون.
ومما أدهشني في توصيف طبيعة الحكم الفرعوني العسكري، ذلك الارتباط الذي استوقفني في القرآن بين فرعون والجندية، فيقول الله تعالى «هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود»، ففرعون هنا «بدل» كما هو معروف في اللغة، استغنى القرآن بذكر فرعون عن ذكر أتباعه، حيث كان رئيس جُنده، وزعيم دولة العسكر.
وعجبت للكواكبي إذ يتحدث عن حكم الجنود (العسكر)، إذ رأى أن هناك وسيلتين تخدمان الاستبداد: جهالة الأمة، والجنود المُنظّمة، فحتى إن تخلّصت الأمم المُتمدِّنة من الجهالة، فيبقى حكم الجندية الجبرية العمومية، التي تفسد أخلاق الأمة، وتُعلمها الطاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلّف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق.
السلطة الدينية كذلك عندما تكون في قبضة الفرعون، يتمكّن بها من رقاب العباد، ويُشرعِن بها وجوده، ويُبرر بها استبداده، فهو يرى أنه مسؤول عن دين الشعب، لا أعني من جهة الحماية، إنما من جهة الاستقواء، فلا عجب أن يقول لشعبه «أنا ربكم الأعلى»، «ما علمت لكم من إله غيري»، ومن ثم فلا يجوز لأحد أن يستمع إلا إليه، ولا يصغي سمعه إلا لأحاديثه.
إنه يضرب على الوتر الحساس لدى الشعب، يعرف أنه في الأصل يُحركه الدين، فلا مانع من أن يُظهر سمْت الخشوع والتديُّن، ويُظهر مدى حرصه على دين الناس، فهو يخشى عليهم من تبديل الدين وتخريب البلاد «إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد». فإن كان الفرعون قد احتكر ورجاله الكلام باسم الدين، فحدِّث ولا حرج عن تطويع الخطاب الديني لخدمة توجهاته السياسية، وحدّث ولا حرج عن تهمة الإرهاب الفضفاضة التي تلحق بموسى كل عصر..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.