“تغيير” أم “إعادة إنتاج”؟ ..من حزب الشعب إلى الاتحاد
“تغيير” أم “إعادة إنتاج”؟
(من حزب الشعب حتى الاتحاد من أجل الجمهورية)
“يعد التشابه ظلا من ظلال الاختلاف، فقد يتشابه شيئان بواسطة الاختلاف بينهما، أو يختلفان لتشابه بينهما، أو يختلفان لتشابه أحدهما بشيء ثالث”
عالم الجينات الأمريكي: مات ريدلي
لم أقتنع ـ يوما ـ بأهمية الأطر المؤسسية “الحزبية” التي تشكلها السلط في دول العلم الثالث، ومن ضمنها بلدنا، في إنجاز التحولات الديمقراطية؛
فمن المنطقي أن نتعامل ـ ليس بحذر فحسب ـ مع تلك “المخلوقات” المختلقة بل بريبة وشك، ذلك أن تلك السلط لا تستهدف الدفع قُدُما بالممارسات السياسية بقدر ما تريد ضبط تلك الممارسات في قالب يسهل التحكم به وتوجيهه، والأهم من ذلك الهيمنة من خلاله.
إن التعددية السياسية التي “ورثناها” من الحقبة الكولونيالية لم تعمر طويلا (1946ـ1965) لعدة عوامل في طليعتها الذهنية الاجتماعية التي لا تستوعب نمط التعددية الغربية، ولا يعني هذا الأمر أن مجتمعنا لا يعرف التعددية السياسية خلال مساره التطوري، بل تم استنبات التعددية الحزبية في السياق الموريتاني دون البحث عن وسائل لتعميق تسييقه المحلي، وفي نفس الوقت تم تكريس ممارسات تسلب روح الديمقراطية من العمليات الانتخابية لتحولها إلى عمليات شكلية (يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى عمليات التزوير الانتخابية التي كانت تباركها الإدارة الاستعمارية لمصلحتها في التصويت بنعم على الاستفتاء في 1958 مثلا، وكذلك السكوت عن الوصاية الانتخابية التي كان يمارسها الوجهاء).
ومنها أن الصراع الإقليمي ـ المحلي حسم، محليا، لصالح التيار الوطني في مسألة الاستقلال أو الانضمام مما طبع القوى الحزبية المخالفة له بطابع “العمالة” وبالتالي سهل إقصاء تلك القوى.
ومنها كذلك الفكرة الإقليمية التي أنتجت “الحزب الواحد” والتي كانت تدعو إلى انصهار القوى الوطنية سياسيا في حزب واحد تكون لديه القدرة على مواجهة التحديات المرحلية وفي مقدمتها تأكيد الاستقلال (وخصوصا بالنسبة لموريتانيا التي عانت من مطالبات العرش المغربي بضمها) إضافة إلى ضرورات الوحدة من أجل إقامة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول الحديثة التشكل..إلخ من المبررات التي أفرزت ظاهرة الحزب الواحد أو حزب الدولة التي اجتاحت العديد من الدول الافروآسيوية المستقلة حديثا.
وهكذا تشكل حزب الشعب في ما سمي (مؤتمر الوحدة) 1961 ولاحقا تم تعديل دستور 1961 الذي كان ينص على التعددية الحزبية ليجعل من حزب الشعب الإطار السياسي الوحيد الشرعي الذي تمارس من خلاله السياسة.
ولا يهمنا في هذا الصدد نقاش وجاهة تلك المبررات من عدمها التي أنتجت “حزب الدولة” بقدر ما نرمي إلى التنبيه إلى تقعيد وتأصيل الممارسة السياسية المشوهة التي ستلقي بظلالها مستقبلا، خصوصا في وقت كانت الدولة فيه الجهاز الوحيد القادر على تحقيق مستوى من الإشباع الاقتصادي بسبب توفرها على وسائل الإعطاء والمنع لكل من يوالي/ يعارضها.
لقد كان خطأ مفصليا، وتشوها كبيرا من تشوهات الخلق والتأسيس لعله لم يشبع نقاشا حتى الآن.
إن أضرار الحزب الواحد لا تزال ماثلة للعيان في مشهدنا السياسي، وفي ذهنية المتعاطين لها، إلى اليوم، عبر مسلمة مؤداها أن الحزب الذي تنشئه السلطة هو الأقدر على الهيمنة بما يتيحه من إمكانات، ولا يزال عمليا ـ إلى اليوم ـ تسخر الإدارة والثروة الوطنيتين لخدمة توجهات “حزب الحاكم”..!
لا تزال هذه العقلية تحكم وتتحكم، مع أنها تنافي المبدأ الديمقراطي القاضي بتوفير ظروف المنافسة العادلة بين كافة اتجاهات الرأي التي تمثلها الأحزاب.
إن ذلك التشوه في التصور أنتج ممارسات لا ديمقراطية لا تزال موجودة ومقبولة لحد الآن.
على ذلك النهج سار العساكر في ثمانينيات القرن الماضي عندما خلقوا ذلك الإطار السياسي والأمني الذي سموه “هياكل تهذيب الجماهير” والذي كان يستبطن وصاية على الجماهير التي يدل هذا التعبير الفج على أنها بحاجة لأن “تهذب”!
هيمنت “الهياكل” في ظروف صعبة على الممارسة السياسية وشكلت أطرا للانضباط تتمثل في الخلية التي كانت تشمل 10 منازل تضم مسؤولا إداريا وآخر أمنيا وآخر لتوزيع الإسعافات وكانت الخلايا تشرح فيها خطابات رئيس الدولة والإجراءات المتبعة، كما شكلت بؤرة لجمع المعلومات حول الناشطين وميولهم، وغصت السجون بالجماهير “غير المهذبة”!
وكرس نموذج الهياكل الدولة القوية المتدخلة في أدق تفاصيل حياة الناس، من خلال المسؤول الأمني حيث كانت الدولة من خلاله ترى ما تتعشى به كل أسرة موريتانية، ونوعية الأحاديث التي يتبادلها المواطنون.
لاحقا، وعندما هبت “رياح الديمقراطية الغربية” على البلدان الإفريقية متوعدة حكام القارة السمراء بمنع المساعدات إذا لم يدخلوا إصلاحات سياسية في أنظمة حكمهم الاستبدادية، أقرت التعددية السياسية مجددا، بعد تجربة هزيلة في البلديات اعتمدت أساسا على تعدد الألوان (اللائحة البيضاء، والخضراء، والصفراء..إلخ) ولم تعبر عن تعددية سياسية في الأفكار والرؤى!
هذه المرة قررت الطغمة العسكرية الحاكمة منذ نهاية السبعينيات الحكم من خلال دستور يقوي مؤسسة واحدة على حساب جميع المؤسسات في اقتباس قبيح وغير محين لدستور الجمهورية الخامسة الأول قبل تعديله، وهكذا أفرز دستور الـ 20 يوليو 1991 مؤسسات شبحية وهمية في مقابل تغول مؤسسة وحيدة “رئيس الجمهورية” ليستبد ولد الطائع مرتاحا حتى 2005، وتصبح المؤسسات بما فيها الأحزاب السياسية مجرد كومبارس ثانوي في “اللعبة الديمقراطية”، فأنتج النظام السياسي أحزابا شكلية يسجن رؤساؤها عقب كل انتخابات كانوا مرشحين فيها (نظريا فحسب) لحكم موريتانيا.
لقد أتقن الحكام وقتها حبك ديمقراطية مزيفة، ديمقراطية في الشكل والمظهر، دكتاتوية في المضمون والجوهر؛ توجد بها إدارة، لكن يعينها الرئيس من الوزير حتى رئيس المصلحة ومن الوالي حتى المشرف على الاتصالات اللاسلكية (الرَّاكْ إذا كنتم تتذكرون)!
ويوجد قضاء يرأسه أيضا رئيس الجمهورية، فيعين رئيس المحكمة العليا ولكنه يقدم له قبل اليمين القانونية ورقة استقالته ليوقعها (بشهادة القاضي محفوظ ولد لمرابط رحمه الله الذي ترأس المحكمة العليا سابقا)!
توجد أحزاب سياسية لا تستطيع القيام بأي نشاط دون أخذ الإذن من حاكم البقعة التي سيقام فيها النشاط!
أحزاب لا تعد شريكا في الوطن، ولا أهمية لما تمثله من اتجاهات رأي لمواطنين، بقدر ما يسوق في كل وقت أنها “عميلة للخارج”، أو أنها “عدوة للوطن” إلى غير ذلك من الدعاية ضدها، ما عدى حزب واحد هو “حزب الحاكم” PRDS الذي كان باستخدامه لأموال الدولة والمواطنين حزب الخير و”اتشعشيع” أما أحزاب المعارضة “الجفاف” والبؤس.
صرنا أمام “حالة” يسميها المتخصصون “بؤس المعارضة أو معارضة البؤس”، حيث تقدم هذه الأحزاب الأفكار والبرامج، وتنتقد ـ بفعل الدعاية ـ بأنها لا تقدم شيئا، على أساس أنها تمتلك السلطة أو حتى جزء منها!
بينما في الحقيقة لا يقدم الحزب الجمهوري أية فكرة، وقد بلغت الوقاحة بالقائمين عليه أن كان برنامجهم الانتخابي في رئاسيات 1997 مقتصرا على شعار مستفز وقتها هو “التغيير في ظل الاستقرار” قائلين بأن برنامجهم هو مواصلة الإنجازات في ظل حكم ولد الطائع!
وتشير نكتة شهيرة إلى هذا الخواء الفكري الرهيب، حيث عقد اجتماع لهذا الحزب في مدينة النعمة ـ على ما أذكر ـ في نهاية التسعينيات، وانتقد أحد الشباب الحاضرين الاجتماع بأنه لم تقدم فيه أي فكرة، وقال بالحرف: “لا أفهم هذا الحزب!” فالتفت إليه شيخ جالس في الطرف قائلا: “يا ولدي، الحزب لا يفهم، بل هو شيء يُذاق” (حرفيا: الحزب ما ينفهم، هو ألاَّ شِ ينظاكْ أُتُوفْ)اهـ الاستشهاد.
أما المؤسسات الإعلامية، فكما شددت الحراسة على الإذاعة والتلفزيون والوكالة الرسميون خوفا من إذاعة البيان رقم واحد، فقد سدت منافذها عن إظهار أي صوت معارض..!
وضويقت الصحافة المستقلة (الجرائد المكتوبة وقتها) بواسطة المادة الشهيرة: آرتيكل 11.
أصبح إبداء الرأي الانتقادي أو المعارض جرما كبيرا في الفضاء العام، بل كان هناك من يقوم بتكفير المعارضة، واعتبار أن ميتة المعارضين هي “ميتة جاهلية”!
وقد استطردت عمدا في ملامح تلك المرحلة لتشابهها الكبير بالوضعية الحالية، والواقع أن الطبقة السياسية لم تستغل الفترة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بولد الطائع في 2005، فلم تفرض إصلاحات كافية لضمان عدم عودة الاستبداد.
والحقيقة أن الاستبداد لا يرتبط دائما بشخص أو مجموعة ضيقة، بل قد يتعداه إلى أشكال من الاستبداد تشمل استبداد الحزب كما كان في بعض البلدان الشيوعية، أو استبداد عرق معين حتى في مواجهة أعراق أخرى في بلدان عديدة.
لقد طفقت الطبقة السياسية المعارضة خصوصا تطرح خلال المرحلة الانتقالية مشكلة أبدية السلطة بتحديد المأموريات وخفض سنوات المأمورية وإيجاد الضمانات لاحترام هذا التحديد، وتناست مشكلة السلطوية الغاشمة لرئيس الجمهورية التي تلغي أي دور للمؤسسات الأخرى بما فيها المؤسسة المشرفة على الانتخابات، والتي من الواضح اليوم أنها غير كافية لضمان انتخابات شفافة في ظل غياب روح الديمقراطية عن النظام السياسي الموريتاني.
لقد أثبتت الانتخابات الأخيرة أن لجنة من 7 أو حتى 7000 حكيم لا تستطيع أن توقف سلطة رئيس الجمهورية إذا أراد العبث بالدستور من خلال التفسير التعسفي للمادة 38 وتطويعها لفرض رؤيته أو بالانتخابات من خلال التزوير الفاحش الذي عاد بقوة عن طريق التصويت بالنيابة عن الغائبين، أو حتى عن المتوفين، أو بملئ الصناديق، ولا تستطيع تحرير إعلام بائس بالطريقة المنتهجة حاليا أن يشكل ضمانة للتعبير عن الرأي، فمن يمتلك سلطة الترخيص لوسائل الإعلام، ومن يمتلك حتى الموارد لإقامة صروح إعلامية مستقلة؟! ومادامت المؤسسات الرسمية تابعة للسلطة التنفيذية فلن تكون صدى لاتجاهات الرأي المختلفة إلا في الحدود التي يريد لها الرئيس/ الملك الذي يحكم البلاد!
لقد فاتهم أن يقلصوا من صلاحيات الرئيس حتى تتوازن السلطات في الدولة، وحتى نحظى بنظام ينطوي على أقل العيوب!
اليوم تستشعر السلطة القائمة خطر تقييم الرأي العام للسنوات العشر الماضية العجفاء وتأثير ذلك الأمر على حظوظها في انتخابات 2018 و2019 القادمة، وتعمد إلى استحضار نفس الأساليب التي مردت عليها التمظهرات السابقة لنفس النظام، عبر تجييش وسائل الدولة من إدارة ونفوذ، واستخدام نفس التقنيات المعهودة من توظيف للتنافس والتناحر القبلي ـ الجهوي لحملة انتساب لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية آخر صيحات الموديل: حزب الدولة.
ولا تدخر جهدا في إبراز ارتباط هذا الحزب بالدولة، فقد ابتعثت مئات الوزراء ومديري مؤسسات الدولة ورؤساء المصالح، وأقحمت بعض الإداريين غير الناشطين في الحزب في هذه الحملة، لا لشيء، إلا لتأكيد أن هذا هو حزب الدولة!
إنه نفس النهج القديم يتجدد، أو بعبارة أخرى تتم عملية إعادة إنتاج نظام الحزب الواحد وهذه المرة في القرن الواحد والعشرين، وتلك الحقيقة المرة تدحض كل ادعاء بإحداث التغيير الذي يبشر به “كهنة النظام” الذين حولوا ببراعة مثيرة للشفقة عملية تجنب التزوير في الانتساب إلى ميزة، وإنجاز يحسب لهم!
لكن المراقب لعمليات الانتساب تلك سيلحظ أن طرق الضغط المادي والمعنوي استخدمت بشكل كبير بدءا من استخدام جهاز الدولة وموظفيها الذين أخذوا في إعارة إجبارية لخدمة “حزب الحاكم” وانتهاء باستخدام “لخلاك” والإغراء المادي من طرف مناضلي الـ UPR وتم نقل آلاف المواطنين الذين لا ينتمون إلا للاستجابة للضغط لفرضهم كمنتسبين للحزب.
وبالتأكيد فإن رئيس وقادة هذا الحزب سيتبجحون علينا برقم منتسبي هذا الحزب مذكرين أنهم لم يقبلوا التزوير!
وبالطبع فسوف لن يتذكر أحدهم وهو يحتفل بالانتصار السياسي المجيد جحافل المنتسبين للحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي PRDS مع أنهم أقرب إليه من حبل الوريد..!
هذا في الوقت الذي تقوم الأحزاب (الحقيقية) بعمليات الانتساب بشكل طبيعي وسلس، ولكن لا يلتفت لهذه الأحزاب المغضوب عليها فقط لأنها ليست في السلطة!
آن الأوان لأن تفكر الطبقة السياسية في إجراءات تحل إشكالية المؤسسات السياسية الحزبية التي لا قيام لأي ديمقراطية بدونها، وتجعل منه مؤسسات حقيقية لتأطير وتمثيل المواطنين.
ومن هذه الإجراءات التي أقترح:
ـ تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية إجمالا، وبخصوص الصلاحيات المتعلقة بالموضوع أقترح أن يعين الولاة والحكام من طرف مجالس محلية منتخبة.
ـ إنشاء صندوق مستقل لتمويل الأحزاب مدار من طرف هيئة مشتركة بين الحكومة والبرلمانيين والأحزاب.
ـ اعتماد نظام مزدوج لتمويل الأحزاب على أساسين هما: برنامج الأنشطة السنوي، والتمثيل الانتخابي.
ـ سحب الترخيص أو تعليق الترخيص للأحزاب من يد الإدارة، وإسناده للقضاء.
ـ إلغاء الترخيص للأنشطة الحزبية واستبداله بالإشعار وإعلان النشاط.
ـ تحديد إجراءات وسقف إنفاق المال السياسي، وإقرار عقوبات رادعة تتضمن الاستقالة الجبرية لكل ضالع في تجاوزها من المسؤولين الحكوميين.
وهذه الإجراءات إن هي إلا نموذج لإجراءات عديدة يمكن اتخاذها، وما مقترحي إلا مُقَبِّل قد يفتح الشهية لنقاش عام حول الموضوع إذ كان هنا سعي جدي لإعادة الاعتبار لهذه المؤسسات.
سيد ولد محمد الامين
08 ابريل 2018
96 تعليقات