شقاء بشقيق..!!!!/ ذاكو وينهو
..شيد القصر باحدث المعايير المعمارية , وجهز باثاث اسلمه بحر الى بحر , ومحيط الى محيط ….ارائك وحشايا وستائر جزلة الغزل , آسرة النقش , زاهية الالوان….دواليب رقيقات الحواشي تعصبها سبائك دقيقة متراصة من الزبرجد الصافي , تتوسطها مرايا من البلور الناصع , وثريات زمردية تتدلى من السقف المزيف في قداح مرمرية بديعة الاشكال , ترسل اشعة قزحية في بخل مدني محكم ….وفي بعض الزوايا كومات من نفائس المتاع لم تعرف “افاتو” بعد طريقة استعماله , ما زالت تنتظر من صديقتها في مدريد مهاتفة ب”كود”: التشغيل , الجدران تبرق من آثار طلاء عجيب تداخلت فيه الالوان المختلفة كانها تتنكر حتى لا تحدد هويتها , التلفزيون فن فريد انجزته امهر انامل التكنولوجيا وارقها ذوقا , ضامر كطاوي عشر , يلتصق بالجدار يعوذ به كالخائف من عدو مداهم….لكن محمودا وهو شقيق المختار (صاحب الدار) حل ضيفا ليصل رحم اخيه وقد فرقت بينهما الايام , وساقت كلا منهما الى منكب قصي من مناكب الارض ….. هو رجل نحيف , طويل اللحية كثها , شيبتها شمس الصحراء ونفنف ايار , آدم البشرة تتناثر فيها مساحات صغيرة هي اطلال لون فاتح استوطنها ذات مرة , رقبته كجذع شجرة المراح تعلق عليها السرج والحبال , وقيود الحمير , وارسان الخيل ..والمحاليب….نعم في رقبة محمود سيور ممعوسة كالانساع يتعلق ببعضها غمد موساه , وببعضها محفظته الجلدية التي تحوي وثائقه وقلم الرصاص الصغير , وغير بعيد نسع آخر يتدلى منه غمد طويل رقيق هو ملم المسواك , مع مكتبة من التمائم المتفاوتة الاحجام , بعضعها محفوظ في اطار نحاسي والاخر في غلاف جلدي سميك …اقعس الظهر كمن يتوقى سوطا ثانية , و كا لمتشوف ابدا الى طلائع قافلة الزرع القادمة من شمامه….
سحب خنشاته الثلاث وصب متاعه على الزرابي المبثوثة : امداد ا من طحين النبق , واخر من كسكس البادية المجفف , كومة من مساويك الاراك والبشام .ثم رزم من عيدان مثقفة , منزوعة اللحى , ناعمة الملمس…..هي هداياه الى اخيه وزوجه وبنات اخيه الثلاث ….
سال الغبار الابيض الناعم غزيرا على “التراكي” والحشايا المتنفسة برائحة المصانع الراقية …كان محمود لكرمه البدوي مصرا ان يحفن حفنات يدسها في جيوب الداخلين كبارا وصغارا قائلا (كلوا , هذا حدثني من لا اشك في امانته ان “اوفى” رحمه الله اخبره انه هاضم جيد)…….
في المساء عاد المختار وافاتو من العمل ليفاجآ بمنظر غريب في هذا القصر المشيد…..استشاطت افاتو غضبا ودعت زوجها الى اجتماع عاجل في غرفة النوم لمناقشة قضايا خطيرة تمس الامن العام والاستقرار في حوزتهم الترابية…..فمحمود صورة نشاز مقززة في المنزل ولا يمكن مهما كانت الظروف والنتائج ان يبقى فيه , لا بد من تدبير حيلة سريعة لترحيله …كيف تتحمل افاتو منظرا متخلفا لمخلوق غريب طويل اللحية , متسخ الدراعة خلقها , لا يغطي بطنه , متشقق القدمين , متصلب اصابع اليدين , كلامه جلجلة , وضحكه فرقعة , كيف ستتحمل ان يراه اصدقاؤهم و ما ذا ستقول لصديقاتها عندما يتخذن من منظره تسلية وسخرية ؟؟ كان المختار وهو المعروف بالضعف امام سيدة قصره يهمس في استجداء مفتعل : لكنه اخي ..فترد المراة اياك ان تعيدها , انا لا احب ان يعرف زوارنا ان لك به صلة نسب , حتى بناتي ما كنت احب ان يعلمن انه عمهن…..على كل حال سنجعل له حصيرا في “الكاراج” بينما نكمل تدابير ترحيله , انسحب المختار مهزوما , لكنه توسل بكبرى بناته الى زوجه ان تقبل انضمام اخيه الى معلم القرآن في بيته , فهو لصيق “الكراج” ويخاف ان يراه احد اقاربهم فيذيع في الحي عقوقه….
كانت الليلة معتدلة الطقس , النسيم الرطب الخفيف يتسلل على استحياء من فتحات الستائر فيحرك خيوط الدخان الرقيقة السابحة في سماء الصالون ممزوجة بعطر خفي منعش , ويشتد تارة فيحدث وهو ينساب بين فجوات الاغصان صفيرا ضعيفا كاصوات هوام الليل الآتية من بعيد…
كان السمار من اصدقاء المختار وصديقات افاتو سارحين غائبين في جو تتخلله احاديث فضول منحطة , وخرجات من افانين الغفلة اغلبها اجترار ماتلوكه الشاشات الصغيرة من نفايات الفنون الرخيصة تتخلص منها كبريات شركات الافلام العالمية , كانت افاتو – اذا سكت اللغو- تعرفهم على مكونات اثاث الدار ومواطنه الاصلية….
دخل محمود جامعا طرفي دراعته بيده لان سرواله تحت وسادته وبدأ يسلم فنهض القوم للسلام عليه , فكانت يسراه على رؤوسهم تفرق شعر كل واحد منهم وتنغرس اظافره في جلدة الراس مباشرة , فيضيع على القوم جهد كبير قضوه امام المرآة للحصول على تصفيفة عصرية انيقة , لكن الحسنات اهم من ذلك فمحمود مؤمن انه بقدر ما يمسك من شعر راس المسلم عند المصافحة تتدفق اليه الحسنات , اما يمناه فكانت تضغط على ايامينهم حتى تلمس الراحة الراحة..وما اصعب ان تلامس راحة محمود راحة مصافحه فهي مجوفة كنصف المحقن ..وبين وقت وآخر تفشي موجات الصبا سرا كانت تستره اطراف دراعته قبل ان يحررها محمود ليتمكن من تطبيق مراسيم التحية ….كان بعضهم يسترق النظر اليه فيغبطه على هيفه وضمور ثدييه ….جلس وشرع يسالهم عن قبائلهم , و اسعار النعاج في قراهم وعن سعر مد “تغليت”…..وحدثهم عن تفاصيل حياتهم في البادية ….وعن انشغال اخيه الاصغر بالرعي والسقي عند البئر….اما امه فكانت غازلة وبر, وناسجة بنائق الصوف والحصر, تضرب اليها اكباد الابل وكانت رحمها الله تقيت عيالها بمداخيل ذلك العمل الجميل, ومنه صرفت على المختار ليواصل دراسته في كيهيدي…..ويواصل لكن الايام الجميلة ولت مع المختار ولد داداه , كما ولى البقر الاحمر, والعوذ المطافيل…..
انسحب النساء الى الصالون الافريقي… فتذكر محمود امرا مهما عاد الى بقية متاعه , واحضر رزم العيدان الناعمة المثقفة المنزوعة اللحى , دخل على النسوة وقال خذي يا فاتو هذا “مكرش” وهو واق من الحكة الداخلية لانه من شجر السدر, وقد تعلمين ان الماء مضر بالنساء “يدخل عليهن البرد” ..
وانتقل الى الصالون الاوروبي وفرق بقية العيدان على ضيوف اخيه وهو يشرح لهم , وهم لا يفهمون , فاستنجد باخيه قائلا : تعلم ان والدنا رحمه الله ما كان “مكرش” يفارقه في سفر ولا اقامة …
لم يكن جو غرفة النوم في الليلة الثانية اصفى ولا اهدا منه في الليلة الاولى….بل ان ما بدر من محمود قطع الشك باليقين فهو لعنة نزلت بهذا البيت وحولت احلام ساكنيه الى كوابيس مروعة , كل ساعة تجيء تلد من بوائقه ما لم تحبل به الساعات الماضية .حمي النقاش وكان المختار واهي الحجة هذه المرة خصوصا بعد احاديث اخيه مع الضيوف…فهو حقا لم يخلق ليزور المدينة .فطباعه الغليظة وحتى شكله وتضاريس جسمه كلها منكرة في الحياة المتحضرة وما يزينها من “ماكياج” يطوع الاجسام والطباع…. يحتاج ليصاغ جسمه من جديد الى ان يفكك ويفرق عضوا عضوا ويشرف على اعادة تركيبه وتقويم المعوج من عظامه والناتئ من مفاصله فريق متخصص ماهر من النجارين والصاغة…..
بدا لمحمود – وقد خلا له الجو – ان يتفقد مملكة اخيه , ففتح الدار بيتا بيتا , واطلع على المطبخ وما حوى , والمخزن وما اخفى , وغرفة النوم وفيها حدثت واقعة كانت ثالثة الاثافي ….رأى رجلا يشبهه شكلا , يتقدم اليه باشا هاشا , ومد يده لمصافحته , فبادر اليه هرولة وبادله ابتساما بابتسام وحفاوة بحافاوة , ليجد نفسه يصطدم بمرآة دولاب الملابس و الحلى , فتنكسر ويسقط محمود والدماء تنزف كالشلال من جبهته….فما كان الرجل الا صورته في المرآة…
مصائب الرجل متعددة متنوعة….فبعد ان يخلد اهل البيت الى النوم وقبل ان ينقطعوا عن عالم الصحو يبدأ الاستغفار وانشاد ميمية البوصيري باعلى صوته …فيفر النوم – وهو زائر ليلي حذر وجبان يطرده الهمس والنجوى ويرتعد فرقا من مناغاة الرضيع , فكيف يواجه جند البدو ودوي حناجرهم – يفر لا من دار الاسرة المنحوسة فحسب بل من دور الجيران ايضا….
وحان يوم الرحيل فحجزوا له في “امشامله” ضخمة , ركابها من جنسيات مختلفة : ففي منكبها الايمن ثلاثون طنا من الاسمنت , وفي منكبها الايسر عشرون طنا من انواع الحديد , وفي صحن صدرها تتربع خمسة مولدات بجوارها اعمدة ضخمة من اصناف الانابيب …ولم يكن لآدم بين تلك الاحمال ولد سواه , فاختار راكبا آ خر لا يثور غباره كالاسمنت , ولا ترتفع ضوضاؤه كالحديد….هو جار هادئ الطبع , طويل الصمت , مطرق كالمفكر في العواقب , يجثم على سرة الشاحنة , رتب محمود متاعه وخنشاته وقد حوت اعدادا من دراريع اخيه المصابة بداء ثقب الجيب وهو شيب الدراريع المنذر بدنو اجلها , وبعض الاقمصة المتساقطة الازرار, ونعالا نسائية غير متجانسة تخلصت منها زوج اخيه ….فاطمأن الى جواره وانس اليه , وتمنى ان يقتبس الناس من اخلاق “البلدوزير” …