من مَكبِّ الذِّكريات.. العصر الجاهلي لديمقراطيتنا / الكاتبة مخفية الاسم “الدهماء”
استدعانا حاكم المقاطعة مساء اليوم السَّابق للانتخابات، اتحفنا بعرضٍ عن الديمقراطية ونزاهة الإدارة والإجراءات الفنية…
استلمتُ منه 1600 أوقية قديمة هي نفقة المكتب طيلة اليوم!،.. 10 اشخاص بين المدنيين والعسكريين وجيش من ممثلي اللوائح..
أطلعنا على لوازم الاقتراع التي سنتسلمها صباحاً من عناصر الجيش : السَّاتر، اللوائح، الحبر القابل للغسل بسهولة، بطاقات الناخب التي لم تسحب وحزمة من الشموع!.
أبكرتُ السَّادسة صباحا أحمل فطور أعضاء المكتب الذي كان – كغدائهم – على نفقة أسرتي،.. فقد أردتُ أن أغطِّي عيوب حداثة السِّن ونقصِ التجربة بالحاتمية،.. كان أول الواصلين من أعضاء المكتب أستاذ من أهل “بوتلميت”، رزين هادئ، تبادلنا التحية وأخبرته عن جهلي التام بما أنا مقدمة عليه، فطَمأنني، لحِق به أستاذ من أهل “لعيون”، كان لطيفا لطف المقبل على الحياة بظرف مُجسَّد،…. ومن دون مقدمات قال: « أيوه احنا ألاَّ جيْنَ سارْيين والمطيورْ رئس المكتب مافاتْ جَ »،.. فنبهه زميله “التلميتي” إلى وجودي، فرد عليه في عفويه: هاذِ، .. إمي انتِ رئيسة المكتب؟ ، .. حكَ!،.. إبرَّكها…
كان التَّنافس محمومًا بين مُرشَّحَيْنِ من أصحاب الجاه والمال، مرشح مستقل و آخر عن الحزب الجمهوري الحاكم، وتتنافسُ من ورائهما قبائلهما بما أوتيت من مال ونفوذ،.. لائحة المكتب تضم ألف مُصوّت، ومن 9 الى 10 مترشحين: جمهوري، إسلامي عن اتحاد القوى الديمقراطية (التكتل الآن)، بعثي، ناصري، مترشح عن مسعود، و أكثر من مستقل… والطابور طويل جدا،.. استعنت “بالتلميتي” المُجرِّب، وقد كُنَّا جميعا أسرى دماثته، .. انطلق التَّصويت بسلاسة، استطيبتُ بسرعة حلاوة إصدار الأوامر لعناصر الجيش: ادخلْ، خُذْ،.. وجدتُ نفسي في الرئاسة وشعرت بالشّموخ!، ..
بدخول وقت الزَّوال تحوَّل التَّصويت الى مهزلة كبرى،.. استقبلنا طوفانًا من بطاقات التعريف الصَّفراء الجديدة.. يعني أن كل طرفٍ طبع وزَوَّر بطاقات تعريفٍ للألف المُسجَّلة على اللائحة، والشخص الواحد ، يتقدم إلينا وقد لجَّ في حماقة بخمس بطاقات تعريفٍ تحمل خمسة أسماء مختلفة، لكنها تحمل نفس الصُّورة.. و أيضا بنفس الملابس التي تسترهُ في اللحظة ذاتها التي يقف فيها أمامنا!.. عبث و حماس جاوَزَ الجاهلية في جاهليتها في فيلم هندي رديء ومُمِل ،.. تشنَّج الجو، وبدأتْ مُنمنمات الشَّتائم تتطاير باتجاهنا من كل قادمةٍ تتخلَّع في مشيتها.. فنحن من الإدارة والإدارة من الحزب الجمهوري ومنافسوه يتضرَّعون لنا عبر نوافذ الِقسْم بالخزي ولا يتورَّعون!
دخل عليَّ صديق وأخ من الرِّضاعة، من مواليد منتصف السبعينات، صافحته وذكرتُ اسمه الحقيقي بعفوية وأنا أبادله التَّحية، تأمَّلتُ البطاقة التي تحمل صورته فوجدته يدعى احبيب ولد اعل مولود 1941 في المذرذرة، توقيع مفوض الميناء!،.. لم أتمالك، فانخرطتُ في موجة من الضَّحك قصمت هيبة الرئاسة ، فثار عليَّ ممثلو المترشحين،.. وككلِّ رئيس ضعيفٍ كنت مُنصرفة إلى السِّلم وقاية من شرِّهم،.. توقَّفَ التَّصويت على اثر الضَّجة، اسْتُدعيَّ الوالي المُساعد، كان وقتها الوزير السابق حبيب ولد همت، كرَّرتُ أمامه مقولة رفعْتُها مُعنعنة عن توجيهات حاكم المقاطعة بالأمس:« إنْ جاءكَ شخص لا تعرفه يحمل بطاقة والدك مستوفية الشروط دعهُ يُصوِّت» ، إذن لا مشكلة!.. فانسحب الوالي المساعد… دخلتْ عليَّ ابنة عمِّي الشقراء وقد أصبحتْ تُدعى آمي جاكيتي من مواليد بابابي!، رفضتها فقط لأن بطاقتها لا تحمل ختمًا، شتمتني وعادت إليَّ بعد ثلاثين دقيقة وقد وضعت عليها ختم مُفوَّض بوتلميت! .. طُويَّتْ لها الأرض.
كان من بين المترشحين مفخرة أساطين الرياضيات والفيزياء أحمدو شاش، و يمثله شاب ناصريّ، يعاني فرط النَّشاط والتّذمُّر، جرَّبتُ فيه السُّلطة أكثر من مرة، زجرا وطردا، فما كان منه إلاَّ أن أحضر أستاذي أحمدو ومعه أفراد من طاقمه قد انهكتهم الحملة، فكانوا أقرب الى ملامح مقاتلين من أرتيريا وصلوا رأسًا من الجبهة مع الحبشة،.. بقايا من قوم يعرب لا تجدي معهم اغراءات الصيد عند منعطفات الدُّروب.. كان استاذي الألمعي يتلظى غيظا و يستصرخ ضمائر أعضاء المكتب للتَّنبه لمهزلة التزوير ويتحسَّر بحرقة على حلم رائق يراه يتحقق بصورة مشوهة.
أمضيتُ يومي أعلو وأهبط في سراب الرِّئاسة.. وقبل أن يلفظ اليوم العبثي أنفاسه الأخيرة، بدأ العراك بالأيدي والحجارة في ساحة المدرسة بين أنصار الخصمين الأساسيَّين على الترتيب في الطابور، لأن الحسم سيكون للأسرع في استخدام بقية البطاقات المزوَّرة.. كانت مُجرد ملهاة تُجسّد انحرافات الطَّواغيت من السَّاسة ورجال الأعمال وتَلَطُّخ أياديهم بشقاء الإنسان.
صوَّتَ أعضاء المكتب في الختام، ومنحتُ صوتي لأستاذي أحمدو،.. تحلَّقنا حول الصندوق مع ممثلي اللوائح، تفوح من ثلثيهم رائحة الهزيمة، وبدأنا العدَّ على ضوء الشموع ككهنة في أبرشية ريفية، أو لصوص في كهف يتقاسمون الوطن غنيمة،.. طبعًا فاز الحزب الجمهوري، سجَّل الممثلون تقاريرهم، ودارَ أغلبها حول وقاحة التَّزوير وعدم أهليَّة الرَّئيسة…
سَلَّمتُ الحاكم النتائج والتقارير وخرجتُ أجرُّ الحافظة (ترموس) التي أحضرتُ معي في الصَّباح،.. الزَّحمة خانقة، لم أهتدِ لسيارة شقيقي الذي كان في انتظاري، فركبتُ مع زميلة، مديرة في شؤون المرأة،.. عند ملتقى مدريد لاحظ السائق وجود سيارة تتعقَّبُنا، ثم تأكدّنا، فدَهَمَنا فزَعٌ لاذِع، اتجهنا صوب مفوضية لكصر وبلَّغْنا عن الحادثة،.. خرج مفتش الشرطة المداوم يستوضح المتعقِّبين عن غايتهم، وكانوا من جماعة مسعود، فأخبروه أننا “اختطفنا” صندوق التَّصويت!،.. فتَّش الشرطي سيارتنا ليتَّضح أن المُختَطَفَ الحافظة المحمولة ( ترموس)، أخبرهم، لم يقتنعوا بل لطمه أحدهم بكلمة بذيئة تفيد بالعامِّية السَّاقطة “كَذَبْتَ”، وتفيد بلغة أهل الفقه “خروج ريحٍ ونحوه”،.. فما كان من الشّرطي إلاَّ أن لطمه بلَكمةٍ عنيفة انسحبنا تحت نيرانها…
أفقدني هذا اليوم الجاهلي المنحوس حاسَّة الاشمئزاز السياسي، فالسّياسة لعبة – رغم رواجها – لها سيئات أكيدة وحسنات مشكوك فيها.. ومع ذلك مازلتُ أعيش على استحداث الأمل من العدم الديموقراطي، و أحيي من يستخلصون العزم من التَّحدي.
147 تعليقات