ذكريات من ليلة عاشوراء.. الدهماء
تعوَّد سكان لِكْصَرْ القديم، في فترة سابقة من حياتهم على احياء ليلة عاشوراء “تامْخاريتْ”، يُشارك الجميع،.. سودًا، بيضًا، وخلساء نص-نص مثل حضرتي، في طقوس ذات طابع احتفالي،.. يغمرها الفرح وتغلب عليها الطَّرافة،.. وأظنّها عادات استقدمتها الأسر السَّنغالية وانتقلت عدواها المرحة بسرعة بين سكان تلك القرية…خصوصا أن من ضمن سكانها العديد من أسر “البيظان” التي عاشت في السنغال ردحا من الزمن و عادت بعد الإستقلال.
كان الأطفال يجوبون الأحياء أرتالاً ، يرتدون ازياء تنكّرية، الذكور في ازياء الإناث والعكس، مع أقنعة من بودرة “تالك” البيضاء ، والحِمِّيرَه، و الفحم ،..
كنا نتمتع بالبهجة التي تتطاير حولنا في صوَّر لم يغادر طيفها مخيلتي.
يردد الأطفال أهازيج بالولفية على قرع علب القصدير، ” تانْجبون الله” ، ” تاتاجبون الله” ويرد المتفرجون ” آمين!” ،.. تجود ربات البيوت على الطائفين بما تيسر من الحلوى وقطع السّكر والتمر،… والطَّرد والشَّتْم الودود.. يضرب بعضنا البعض، نبتلع دموعنا ولا نشتكي، نرقصُ على الأنغام في شعوذة جسدية مستجلبة هي الأخرى من السنغال.
تتم السّعادة الكبرى حين يتطوع منعش من فرقة “صَبَرْ” بالسَّير أمام الأطفال، ينقرُ على طبله الصغير، الحادّ الصّوت “تَامَا” فيتحوُّل المشهد الى ما يشبه عرض حملة المشاعل وراء الموسيقى العسكرية … عجيج وضجيج ورقص وغبار.. كأنها معركة متنقلة.
يباح لنا كأطفال ” سرقة ” الأحذية واختطاف الأواني ليلة عاشوراء، لا يعترينا من التصرف خجل.. فستعاد “المسروقات” صباحا لأصحابها… فسكان القرية يعرفون بعضهم جيدا و المناخ بريء وآمن ،.. وبعيدٌ من صورة مدينة اليوم التي تحتقن العدوانية و الانحراف في عروقها.
يصوم الكبار يوم عاشوراء، ويضاعف أرباب الأسر النفقة في ليلة ” التوسعة ” على العيال، و الفقراء، و “الكوَّاسه”، في تواضعٍ وسكينة تحملها أنفس خيِّرَة، بدون مُصوِّراتٍ ولا دعاية، ..
تُحضِّر الأمهات عينات من الكسكس الخاص بالمناسبة ، يسمى بالولفية ” تشيري سين” و” تشيري امْبومْ”، بصلصة الفستق السوداني، ويحْرقن “الفاسوخ” لِتُحصِّن أسرهن من السحرة الذين “ينشطون” ليلة عاشوراء! … تُبسط حصائر كبيرة من “أزران” و “ارعيعيد” في الشارع أمام بيوت الأثرياء، تصفُّ فوقها أواني الطعام ، ثم يُطفأ الضوء حتى يتسنى لكل عابر سبيل وجائع أن يأكل في ستر تحت قناع الظلام، دون إحساس بحَرجٍ أو جَرْحٍ للكرامة، أو مِنَّةٍ من صاحب الوليمة…ويُحَرَّمُ علينا تَذكُّر أو ذِكْر من أكل على الحصائر ليلتها… كم كان جميلا عالم آبائنا!
هذه القرية الصغيرة كانت مثالا للتّعايش السّلمي، السّعيد بين مختلف العرقيات، و التي و إن كانت مازالت تتعايش، فلم تعد مع الأسف تتواصل،… كانت أيضا مثالا للتسامح الديني، فقد كان العالم الرَّباني، صوت الحق وكلمة الله على الأرض ، بداه ولد البصيري بين ظهراننا، ولم يستنكر على العامة “الكصرويين” أفراحهم البريئة، ولم يرميهم بسبَّة “التشيع” ولم يُسيّس البراءة أو يُمذهب الفرح.. ولذلك تشعَّب حبّه في أرواحنا، فهو من معالم وجدان أهل القرية المشيدة على جدار القلب دون دعامات قبلية أو جوهية.. كان الحفاظ على الملَّة في شريعته بالحزم لا بالحزام..
التَّطرف لم يُرسّخ دعائمه في الرعب عن قلة كفاية، بل لأنه ببساطة نجح في قتل كل بارقة فرح فينا، وحلَّق بالإنسان في الظلمة، وجعل منه مذنبا محتملا يتحمَّل اوزار جدل نمضي فيه دون أن ينتهي بنا الى شيء…
اختفت من حياتنا كل مظاهر للفرح الجماعي،.. هذه الأفراح البريئة تُعين على مواصلة السير في قفر الحياة،.. من يدري قد يفيق الفرح ثانية من طول هجعته.