شبيكو”/ الدهماء
الثَّراء طموح كامن في الانسان ، وللمال سطوته ونعيمه وهيبته،.. ما منَّا إلا ويحبّ المال وراحته، وإنْ قال بعكس ذلك، فهو يتزلَّف سمعة الزَّاهدين مكابَرة، أو تلميعا لحالة العجز،.. إلا أن تحصيل المال بالطرق التقليدية الرتيبة أصبح من شأن أولي العزم في الصَّبر والقناعة، ..
اسْتُلهمت قواعد “شبيكو” ممَّا كان يعرف محلِّيا ب “بايِّيرَاتْ”، أيْ ” les bailleurs”، و”البايير”، هو مُؤجِّر ماليّ، يتواجد في مراكز القمار، ينتظر على هامش جلسة اللَّعب، يتصيَّد الضَّحية التي سَتَخسر حتى آخر فلس ونفس، ليهبَّ لإنقاذها من الخروج من حلقة لعبة القمار، بأن يمنحها المال اللازم لاستمرارها، مقابل شروط اسعاف “غريق” مثلها،.. من المنصف أن تكون الشروط مجحفة، وقد يرهن الغريق الخاسر سيارته، منزله، يحرر شيكات بفوائد مضاعفة،.. كل ما يملك يَقْبَل فيه ثمنا بخسا مقابل تمكينه من السيولة في تلك اللحظة،… هيَّ حربٌ على الله وعلى عباده، واستزادة من المال في جشع يشبه الهيستيريا.
انقلبت التَّراتبية المالية التقليدية، فاليوم تظهر طبقات مالية بسرعة وتختفي بنفس السرعة، والفاعل مُضاربات خياليّة، يتقبلون فيها الخسارة بشكل مريع!، هي عمليات مالية خارجة عن إطار المعاملات المعتادة.
ولدت البدعة المالية “شبيكو” من رحم كَسَلنا البدوي، فهي تُبَشِّر بكسْب وفير من دون جهد كبير!،.. بَسَطَ “شبيكو” نفوذه في فترة وجيزة، مُتجاوزا الحدود الأخلاقية، ومعتديا على الحُرُمات الدينية والاجتماعية، ..
بدأ “الشَّباكه” معاملاتهم بالرِّبا الصِّرف، كأن يَستلم المُرابِي شيكًا مقابل مبلغٍ وفوائده، ، ثم في وقتٍ لاحقٍ حاولوا ترميم صورة ” شبيكو” بأسلمته في اتجاه المُرابحة، كأن يَمنح المُقرض بضاعة بفوائدها، سيبيعها المُقترض في السُّوق بأقل من قيمتها، الأصلية ليتحصَّل على مبلغ نقدي، فيزيد بذلك عمدا من مُجمل خسارته… وحتَّى في هذه الحالة، ظل الرِّبا هو الضَّابط لأصول المعاملات وإن سَتَرتْ رأسها بحجاب المُرابحة.
وجْهٌ آخر، وهو رهن العقارات والمنقولات (ادْريكَهْ) كضمان على مُدَّة مُعيَّنة. وغالبا ما تصادر بعد العجز عن التسديد وبالكاد تُقوَّم بنصف ثمنها..
أسوأ أنواع “الشباكه” ما يعرف ب “البُومْبَايَهْ” “les pompistes” الذين يضاعفون المبلغ في مُتتاليات عددية لا متناهية، على القيمة الحائنة وليس على القيمة الأصلية للدَّين ، وهو ربا الأجل، الذي يَشترط الزيادة عند حلول أجله، أو لتمديد مدته.
فالمرابون يعرفون جدا كيف يحمون مصالحهم، ويستعيدون أموالهم عبر توريط الضَّحايا وتكبيلهم بالأوْصال والشِّيكات، و بالشُّروط الضَّامنة لمضاعفة أموالهم،..
“التشباك” تفشَّى بشكل مُفزع في مختلف الطبقات والخلفيات، صعودا ونزولا مع السلم الاجتماعي، خصوصا في المعتصمين مِنَّا بوهم بتحصين الرُّتب الاجتماعية التقليدية بالمال،.. حُجز بعض المَدِينين رهائنَ لدى الدَّائنين على طريقة العصابات،.. تشتَّتَ عشرات الشباب في الخارج، انشطرتْ أُسرٌ، وأسر أخرى كثيرة تترنَّح، دخل كثيرون السِّجن،.. قصص لا حصر لها محزنة ومؤسفة.
في الغالب يتصيد “الشَّباك” الآكل الغانم، ضحيته المأكول الغارِم، مُستغلاًّ ظروف ضعفه بحرفية المستثمر المستنير، ومُراهنا على مرتكز الفضيحة،.. حتى أنهم إصبحوا يبحثون بأنفسهم عن الضحية المثالية يغروها إلى أن يورِّطوها.
ضَّحايا “شبيكو” في الأكثر هم من نوعِ: مسؤول سابق، تقلَّبت به الظّروف، ومازال عاجزا نفسيا عن التنازل عن مستوى من الإنفاق، كان يوفره له المال السَّهل يومًا، ويبحث عن السيولة برغبة شهوانية،.. ابنٌ مدلَّلٌ لأسرة ثرية، ليس على تماسٍّ مع الحاجة، متعوِّد على الانفاق بلا حدود، يكبر وتكبر معه متعة المزيد من الإنفاق، وتتطلَّب منه تقبّله في أوساط “الجَوْ” أن يكون حاتميًّا مُسرفا، لكنه مُطمئن لتحمّل أسرته لتبعات نزقه المالي.. شبابٌ من (أولاد لخيام لكبرات وأبناء المشايخ)، بلا دخل،.. وُرِّثوا رأس مالٍ رمزيٍّ من المروءة الاجتماعية، يُعقِّد وجودهم في الدنيا، ويرزحون تحت ثقل الماضي مع ضعف ذات يد الحاضر،.. سيدة مُتمسِّكة باستحضار أيام ترفٍ نائياتٍ، تكابد لتحافظ على أُبَّهة مركزٍ اجتماعي جفَّت منابع تغذيته،.. وغالبا ما تمارس النساء “التشباك” في الذَّهب والعملات الصعبة…
إن الكثير من مظاهر البذخ التي تطالعنا في الشوارع وفي بعض بيوت عِلْية القوم، تُخفي وراءها رهانات مأساوية في قيود “شبيكو”.
في لحظة الحقيقة لن يكون أمام هؤلاء، إلا تقبّل السِّجن والعقوبات، أو الهروب للخارج، أو الاستنجاد بالأسرة والقبيلة في نوع من الابتزاز الاجتماعي، .. والنتيجة، عذاب قوامه التَّستر على غبار معارك أخلاقية شرسة، مقابل التفقير الجماعي لأبرياء يستمر ” الشَّباكه” إلى اليوم في اغتصاب مالهم وعرقهم بجريرة سفهاء من قومهم.
المُرابون، في منأى عن الأذى تمامًا حتى اللَّحظة، ورغم مدّونة التجارة، والتّعديلات التي أُدخلت عليها، مازال “الشَّباكه” يتبخترون في جنة ربحيَّة خياليَّة، تزداد ازدهارًا من مآسي مغفلين يحتل الأسى جفون أهلهم.
العقلانية لا تستورد، ولا يُعتمد فيها على القضاء ولا على الحكومة، هي تربية مدنية ذاتية، .. حين يَقبل الشَّباب أن يرمي اسمال منظومة بالية من العادات، وضعها قوم تحت الأرض لأنفسهم وزمانهم، ولم تعد صالحة لعصرنا المادي، كثير الأعباء المالية، .. الانفاق على طقوس الزواج، العقيقة، المجاملات الاجتماعية، الضيافة الفوضوية…كل ذلك يدفع في اتجاه “الشباكه”.
تعليق واحد