التُّراث المزعج!…صَخَب “الهيبْ هوبْ” / الدهماء
شاهدتُ مقطعاً من فيديو لاستقبالٍ في “اترارزة”، استُخدمتْ فيه الأسلحة احتفاءً، وأثار المشهد بعض اللَّغط، ..
والمشهد بتعقيداته الكبيرة، التي يتداخل فيها الاجتماعي بالطَّبقي المشاع، أكثر اتّساعًا من قشور الفهم.
هذه الطقوس النَّبيلة -في نظر سَدَنَتِها- لا تخرج عادةً عن رفعٍ مُتبادلٍ لمنزلةٍ، بين أطراف تَعْرف قدر منزلة بعضها،.. وهيَّ مُستمدة من أدوار وظيفية تاريخية لجماعات محلية، تتوافر لها وحدة التاريخ والتقاليد و مقوِّمات الترابط بالشكل الذي رأينا..، هذه الطقوس انْ لم يكن مُتعارفا عليها في أوساطِ بعضنا كتقليدٍ،.. لحداثة سنٍّ ربَّما، أو لانعدامٍ لمثلها أصلاً في وسطه، أو لظروفٍ أمْلاها تَموضُعٌ تقليدي مُعيّن في التراتبية الاجتماعية يعفيه منها سلفًا، ولا يلزمه بأبَّهتها الاجتماعية.. فكل هذا، شأن لا يُحرِّمها ولا يُجرِّمها على المُتمسِّكين بها، مِمَّن ورثوها بقدرها ومقدارها… ولا يجب أن يندرس بهاء هذا الموروث لأنه يتعارض فقط مع مزاج بعض الأغيار عنه.. فبقدر ما لا تفيد شيئا لدى البعض، تعني كل شيء لدى آخرين وهذا حقهم.
مع بَسْط الدولة لمطلق لسيادتها، خفَّت حاجتها للأرستوقراطيات التقليدية، إلا في حيِّز مصالح سيّاسية ضيّقة ومؤقتة (الانتخابات غالبا)… العقليات كذلك تطوَّرت، وانفصمت البنى التقليدية عن رعيَّتها، زادت الثَّرَوات في اتجاه الأطراف على حساب المركز، فزاد الزُّهد في الدور الحيوي للإمارات والمرجعيات الصوفية وزاد الاستقلال عنها،.. أصبح رعايا الأمس التابعين من كبار التجار والملاك ورجال الدولة، فاستحدثوا كيانات نفوذ موازية لأشياخهم وأمرائهم، هذه الكيانات لم تستغن فقط عن المركزيات السلطوية والدينية التقليدية، بل اضعفتها، فالكثير منهم أفقره الزَّمن، وأصبح مُشغَّلاً رغم ما يحمل من ألقاب النّبل التاريخي..
التَّنقيص المجاني لا يليق بشَرف المواجهة مع التاريخ،.. فليس من الغريب أن يَحمل السِّلاح بعضُ المنحدرين من نسْل مقاتلين أشاوس حتى الأمس القريب،.. تمامًا كما يحمل آخرون رموزا على صلة بحيثيات خلفيات ماضيهم… وليس غريبا أيضا أن يحتفي من احتفى بمن قدم إليه بالشكل الذي رأينا،…هُمْ جسَّدوا فقط تاريخًا أغلبنا غائب عنه.
التَّصورات التي طَفت، كثيرا ما يأججِّها اليوم تضخُّم الرَّغبة في نسف الماضي جُملة، والجنوح الهستيري للتزهيد في الموروث، فمن بيننا المتمسّك بأن تموضعه الآن يستدعي الانطلاق من نقطة صفر يتساوى فيها الجميع بخلفية تاريخية فارغة!..
فكل صورة لحدث تَستنطق ذكرًا لرموز الماضي، تُحرِّك آليًّا عاصفة هجوم بنعوتها السَّلبية على ما كان يعرف “بمجتمع النبلاء”،.. وتجعلهم في مواجهة مفتعلة مع دكتاتورية رأي “عموم الناس”،.. هذا غلط، فلا تُجدي تغذية الاذهان بالقراءة المُريبة لسلوك التراث في تغيير أحداث التاريخ!.. التَّاريخ لا يُكيَّف بالمزاج.
مجموعات النبلاء، اصبحت اليوم خارج دورة التأثير المباشر على اتباعها التقليديين، بالأحرى اخضاعهم، وقطعًا خارج التأثير على القرار السِّيادي، لكن لها امتيازاتها الرَّمزية من التقدير المتوارث في الأذهان، ولن يتسنَّى لا للعامة من المنزعجين، ولا للدولة تغيير مسار العواطف الايجابية اتجاههم،.. وحده الزمن العامل الحاسم في الغائها أو حفظها،.. ثم ما شَأن الدولة وهذه الانطباعات الموروثة، مادامت لا تتصادم مع قيَّمها بشكل مباشر،.. ما دام النبلاء لا يحتكرون –مثلا- الحق في اقطاعات خاصة، أو يقفون في وجه مجتمع أكثر انصافا وكفاءة، أو يتمتَّعون دون غيرهم بنفوذ على العدل، أو لا يدفعون الضرائب، أوْ لاَ يخضعون للقانون السَّائر على الجميع.
بالمقابل ما من مُعترضٍ على رقص آلاف الشباب كل مساء تقريبًا على صَخَب “الهيبْ هوبْ”، مُنتشيًّا بعبق دخّان الحشيش الرَّخيص،.. هل ثقافة الاجتثاث هذه هي المُحصِّنة لسلامة المجتمع، والدّافعة به في اتجاه العدل وقيَّمِ الجمهورية بأسلحة مسخٍ مكتومة الصَّوت والصِّيت.
في الغَرْب، في مَلَكيَّاته الدستورية، وفي جمهورياته المُنبعثة من ثورات عتيقة، مازالت المقامات والتَّسميات النبيلة معمولاً بها وبطقوسها الاحتفالية منذ العصور الوسطى إلى اليوم… مازال يوجد أشراف ونبلاء، وعائلات كبيرة ورجال دين لهم تاريخ متسلسل من المجد والرّفعة والنفوذ المستمر، وقوة التأثير في المجتمع، يورِّثها سلف لخلف ، وهم أسياد قوم ونبلاء… ونحن لسنا استثناء.
……..
أتُوق مثلكم لدولة عصرية.. ولا يربطني انتماء تقليدي بالمشيخات الصّوفية ولا بالإمارات التقليدية.. هي كلمة انصاف .. من باب “انزلوا النَّاس منازلهم” ، كما أني على يقين بأن التَّنكر للماضي ليس الوصفة المثالية للتّصالح مع المستقبل.