عن الفساد…/ محمد المنى
ينقل أحد الرواة الثقات عن محمد الحافظ ولد بلعمش، وهو تاجر معروف في السبعينيات، كان يمتلك أكبر وأقدم محلات لبيع الأثاث في نواكشوط، قوله في مجلسه ذات مرة، إنه يعلم بالتحديد ذلك اليوم الذي ولد فيه الفساد وبدأ ينتشر ويتوسع ويترسخ في موريتانيا الرسمية ويكشف عن وجهه على الملأ دون خجل ولا وجل. فسأله أحد الحاضرين: كيف كان ذلك؟ ومتى كان؟ فرد قائلا: إنه اليوم الذي فقد فيه «المكتوبُ الرسميُّ» حرمتَه. ثم أضاف شارحاً: بعد أسبوع واحد على انقلاب 10 يوليو، وذات ضحوة من ضحوات ذلك الشهر، جاءت إليَّ في محلي ثلاث من زوجات الحكام العسكريين الجدد، كلٌ على حِدة، وبحوزتها bon de commande (نموذج طلب)، لشراء غرفة نوم من النوع الفاخر، فكنت أخبر كل واحدة منهن بأن الرقم المخصص في الوثيقة أقل من السعر الذي نبيع به غرفة نوم من ذلك النوع، فترد بأنه لا مشكلة في ذلك بالنسبة لها، فلا شيء أسهل من تغيير الوثيقة المالية، ثم تذهب لتعود بعد قليل بوثيقة تغطي كل مطلوباتها ومشترياتها من المحل. ويضيف محمد الحافظ: ذلك أمر لم نألفه من قبل، إذ لم يكن لأعلى مسؤول أن يزيد بأوقية واحدة على مخصص التأثيث المقرر له رسمياً، أما الوثائق المالية فلم يكن أمرُ تغييرها أو استبدالها ليخطر على بال أحد من الناس قبل ذلك التاريخ!
وقبل نحو أربعة أعوام من الآن بثت إحدى قنواتنا التلفزيونية المحلية برنامجاً «وثائقياً» كرّسته للإشادة بمحامد أحد الضباط الرئيسيين في حركة 10 يوليو وخصاله العالية، حيث تحدث بعض المطربين والمطربات عن عطائه الباذخ واللامحدود وعن الهدايا الكثيرة والثمينة التي كان يغدقها عليهم، لاسيما بعد الانقلاب، مما يستحيل أن يفي به راتبُ أكبرِ موظف في الدولة آنذاك! وهو نفسه الضابط الذي يتداول الناس قصصاً حول ولعه المفرط بالمطربين ممن يتغنون بأمجاد عائلته وبطولاتها الكثيرة، حتى أنه أثناء الحرب كان يغادر مواقعه على الجبهة، ليس جبناً، وإنما لأن نفسه تاقت إلى ليلة باذخة مع أحد مطربيه المفضلين، بعيداً عن غبار جبهة الحرب ودخان بارودها، حيث يؤتى بالذبائح والنحائر من مؤونة الجنود ومخصصاتهم المعيشية في وحدته العسكرية، ليحيي سهرة «التمجاد» مع مطربه المحبوب!
ويذكر المختار ولد داداه في مذكراته السياسية، «موريتانيا على درب التحديات»، أنه قبل وقت وجيز من انقلاب 10 يوليو، قام بجولة على بعض المناطق العسكرية في الشمال، وفي أكجوجت اجتمع مع كبار الضباط لتدارس وضعية قواتنا في الحرب وخططها واحتياجاتها، وأنه أطلعهم في نهاية الاجتماع على جانب من الأخبار التي تصله حول تصرفات غير منضبطة لبعض القادة في مخصصات وحداتهم العسكرية من أموال وتموينات، مشدِّداً على شرف الجندية ومحذّراً من الإساءة إليها بتصرفات كتلك، ومتوعداً بالمحاسبة وعدم التساهل مستقبلا مع أي ممارسات من ذلك القبيل. يقول «المخطار» إنه أحس بعد ذلك بأنه كان صارماً أكثر من اللازم مع جنوده، فعاتب نفسه على توجيه اللوم لقادة عسكريين أثناء الحرب وعلى جبهة القتال. كما يذكر أن تهديدَه بمحاسبة أي فساد داخل الجيش ربما كان أحد الأسباب التي عجّلت بالانقلاب عليه. لكن حين أمعنتُ النظر، يقول المختار، وجدت أنه ما كان يجدر بي أن أسكت لحظةً واحدة على فساد أصبح الكثيرون يشيرون إليه ويتحدثون عنه صراحةً، وليكن بعد ذلك ما يكون.