طبيعي أن تتعدد المواقف والرؤى السياسية، فردية كانت أم جماعية، خاصة في أجواء يفترض أو يؤمل أنها أجواء تنافس ديمقراطي بين عدة مترشحين، لكل منهم رؤية أو تصور خاص وجمهور معين يعتمد عليه أو يوجه له خطابه.
وبالنسبة لي حاولت على الدوام أﻻ أكون مرتهنا، إلا لما يمثل رأيي وقناعتي الشخصية، مع احترامي لكل اﻵراء اﻷخرى، ولذلك لم أنتسب يوما، من الناحية التنظيمية، إلى أي تنظيم حزبي أو حركي في أي مرحلة عمرية، من المراهقة إلى الكهولة مرورا بمرحلة الشباب والحماس واﻻندفاع..
وحين بدأ المسار التعددي، أو ما سمي “المسلسل الديمقراطي”، في موريتانيا عام 1991، رأيت كما رأى كثيرون غيري، أن المعارضة هي الخيار اﻷمثل ﻹحداث التغيير المنشود، وكان ذلك رأيي خلال اﻻنتخابات الرئاسية في السنة التالية.
لكن حين قررت المعارضة عدم المشاركة في اﻻنتخابات النيابية في السنة ذاتها (1992)، لم أكن ممن يرون أن ذلك هو الخيار الصحيح، ﻻ بالنسبة لترسيخ وتعزيز المسار الديمقراطي الوليد، وﻻ لمصلحة المعارضة ذاتها وحضورها سياسيا وشعبيا (عبرت عن ذلك في مقال بإحدى الصحف المشرقية، وسلمت نسخة منه للرئيس أحمد ولد داداه بناء على طلبه). وكنت على ثقة من أن قادة المؤسسة العسكرية حينها، ليسوا على استعداد للتخلي عن السلطة وتسليمها كليا للمدنيين، خاصة أولئك الذين كانوا جزءا أساسيا من السلطة التي انقلبوا عليها وانتزعوها منهم. لكنهم كانوا مهيئين، بل مضطرين، لو وافقت المعارضة، ﻹشراك المدنيين في السلطة، بما في ذلك القبول بحصول المعارضة (وكانت تستطيع) على أغلبية برلمانية، تحت ضغط المستجدات الدولية واﻹقليمية حينها، بعد سقوط اﻻتحاد السوفييتي وانهيار كتلته الشرقية، وما ساد من اعتقاد (تبين زيفه ﻻحقا) بأن الليبرالية الغربية قد انتصرت كليا ونهائيا، ولم يعد مقبوﻻ إﻻ ما يساير نهجها ويحاكيها، ولو شكليا..
لكن عدم اقتناعي بموقف المعارضة، لم أجد فيه ما يدفعني للانتماء أو اﻻنحياز لمواﻻة لم تكن مقنعة بالنسبة لي هي اﻷخرى، كما لم أكن أرى حتمية اﻻنتساب ﻷي من الطرفين، فهنالك خيار ثالث يتمثل في الحياد أو اﻻستقلالية، وهو خياري المفضل بشكل عام..
وحين أفرطت السلطة في القمع واﻻستبداد، كنت ممن رحبوا بسقوطها عام 2005، خاصة بعد الوعود والقرارات التي اتخذت خلال الفترة اﻻنتقالية 2007 – 2005، وكان اﻷمل كبيرا بأن اﻻنتخابات الرئاسية عام 2007 ستكون جسر اﻷمان للعبور إلى اﻻستقرار السياسي والنهوض التنموي، وقد جرت اﻻنتخابات بصورة جيدة عززت هذا اﻷمل، رغم بعض الثغرات اﻹدارية والرقابية.
لكن سرعان ما بدأ المسار يتعثر والصراعات السياسية تتفاقم، ليأتي انقلاب جديد عام 2008، لم أكن من مؤيديه لكني تفهمت بعض اسبابه الموضوعية..
وبعد أن انتهت التجاذبات السياسية الى إقرار انتخابات رئاسية عام 2009، كنت ممن أيدوا خطاب المرشح محمد ولد عبد العزيز قائد اﻻنقلاب اﻷخير، باعتباره خطابا يعبر عن الكثير من المطالب والطموحات الشعبية، وقد بقيت على هذا الموقف بعد فوزه في اﻻنتخابات وخلال فترة رئاسته اﻷولى (2014 – 2009).
ثم جاءت الفترة الرئاسية الثانية، ولم تكن اﻷولى قد حققت الكثير مما وعدت به، بل إن بعض المجاﻻت حدث فيه ما يشبه اﻻنقلاب على اﻻنقلاب، دون التنكر لبعض الخطوات اﻹيجابية والمشاريع التي أنجزت أو اكتمل إنجازها في تلك الفترة.. وهكذا وجدت نفسي مرة أخرى خارج معسكري المواﻻة والمعارضة، في انتظار ما تفرزه اﻷحداث من مستجدات..
اﻵن وقد انتظم – أو كاد – صف المترشحين للانتخابات الرئاسية المنتظرة بعد أقل من شهرين، أرى أن من واجب كل ناخب وطني أن يعبر عن رأيه في هذه اﻻنتخابات اﻻستثنائية، التي نأمل أن تؤسس لمسار ديمقراطي حقيقي، يرسخ احترام الدستور والتداول السلمي للسلطة. كما أنها أول انتخابات رئاسية يشرف عليها رئيس منصرف بحكم الدستور، دون أن يكون مترشحا وحيدا أو مترشحا بين المترشحين، وهذه سابقة بالغة اﻷهمية سياسيا وديمقراطيا وأمنيا أيضا، ويجب الحرص عليها وترسيخها والبناء على أساسها مستقبلا.
وقبل أن أحدد موقفي من المترشحين، أود التأكيد على نقطتين أساسيتين،أوﻻهما، أنني أفضل المنهج اﻹصلاحي المتدرج، على النهج الثوري المتهور أو المتعجل، خاصة في المجتمعات الهشة التي ﻻ تمتلك نظاما مؤسسيا فعاﻻ يستطيع امتصاص الصدمات ومواجهة التحديات..
الثانية، أنني لست ممن تغريهم الشعارات لذاتها، أو تستهويهم المصطلحات الرنانة دون تمحيص لمضمونها.. وعليه فلست ممن يرتضون “القبيلة الحزبية” أو النقابية أو الشرائحية أو القومية، أو قبائل أصحاب المزارع وتجار السلاح، ويرفضون قبيلة النسب واﻻنتماء لجد واحد أو حلف مشترك بين جدود. لكني أومن أن اﻻنتماء لقبيلة الوطن يجب أن يعلو كل اﻻنتماءات، على أن يوفر الوطن ﻷهله، في الحاضر أو المأمول، أكثر مما يقدمه لهم أي انتماء آخر، من أمن وكرامة وتسهيل لسبل الحياة المعيشية، وليس مجرد الجباية الضريبية وتضييق المعايش..
وما ينطبق على القبيلة يسري على الجهة كذلك، في أي مجال أو مكان..
أما بالنسبة للمترشحين لرئاسة الجمهورية اﻹسلامية الموريتانية في انتخابات 2019، فلكل منهم ما يستحقه من اﻻحترام والتقدير، لكنني سأركز على اثنين منهم، أتوقع أن يكونا هما اﻷوفر حظا لدى الناخبين، وهما محمد ولد الغزواني وسيدي محمد ولد بوبكر.
المترشحان يشتركان في العديد من الخصال اﻹيجابية، ومنها الحرص على اﻻلتزام اﻷخلاقي في التعاطي مع الخصوم والمنافسين السياسيين، ويحظيان باحترام واسع في اﻷوساط الشعبية والسياسية على السواء، دون أن ينسب ﻷي منهما ما يعيبه في مجال التسيير واحترام المال العام. كما يشتركان في الخبرة العملية بمختلف جوانب وملفات الشأن الوطني، وإن كان الغزواني أكثر خبرة في المجالين العسكري واﻷمني، بينما يتقدم ولد بوبكر في المجالين اﻹداري واﻻقتصادي، مع أن الفصل هنا نظري بحت، فاﻻ إدارة ناججة ولا اقتصاد منتج دون أمن واستقرار، وﻻ يستتب الأمن دون إدارة واعية واقتصاد سليم. ولكل من المترشحين علاقات واسعة على المستوى الخارجي، وعلى أكثر من صعيد، لكن التحالف الذي عقده ولد بوبكر مع بعض القوى السياسية المحلية، قد يشكل عقبة أمام تعامله مع بعض الشركاء اﻹقليميين والدوليين المهمين لموريتانيا، في حال وصوله إلى موقع الرئاسة.
انطﻻقا من كل ما سبق، وتأسيسا على مبدأ اﻹصلاح المتدرج، وتجنبا ﻷي انعكاس سلبي لبعض التحالفات اﻻنتخابية، وأخذا في اﻻعتبار موقف المؤسسة العسكرية ومحورية دورها أمنيا وسياسيا، فإني أرى أن المرشح محمد ولد الغزواني هو اﻷقرب لتحقيق متطلبات المرحلة المقبلة وطنيا، واﻷنسب لقيادة الدولة الموريتانية خلالها، وعليه أدعم ترشحه لرئاسة الجمهورية، متمنيا له النجاح والتوفيق، وراجيا أن يكون في ذلك ما يخدم مصالح الوطن و”القبيلة الوطنية” بكل مكوناتها.