المثقفون الطماعون لا يعول عليهم/ سيد احمد ولد عبد القادر ولد خو
“كل حب يكون معه طلب لا يعول عليه“
“من صحبك لما يستفيده منك فلا تعول عليه، فإنه ينقضي بتحصيل ما يرجوه منك وربما كفر تلك النعمة إذا أراد الفراق فكن منه على حذر.”
ابن عربي
لقد كان ولاء المثقفين العرب في أكثر حالاته ولاء للسلطان على حساب الأوطان والأمثلة على هذا كثيرة تمتد من الجاهلية إلى أيامنا هذهويستوي فيها الشعراء والكتاب وحتى الفقهاء.
ولا ترجى لأمتنا نهضة ما لم يراجع المثقفون سلوكياتهم ويأخذوا في الاعتبار مسؤولياتهم الجسام في تحمل الأمانة إذ هي اللب والجوهروالأساس وإنما الدين النصيحة (حصرًا) ؛ يقول الحضرمي، عالم المرابطين ومنظرهم : “ويأيها المستشار إنك مشارك في عقلك ومروءتكوموثوق بدينك وأمانتك فإن خنت في رأيك وقصرت في جهدك فقد انتفيت بقدرك من جميع خصالك ولا خير في العيش بعد ذلك” (الأحكامالسلطانية).
مثقفونا اليوم ،–إلا من رحم ربك–، هم ورثة شعراء البلاط يقفون بالأبواب حتى يأخذوا ما تيسر من الهدايا، فإن أعطوا منها رضوا وإن لميعطوا منها إذا هم يسخطون (على شاكلة ابن أبي وثعلبة بن حاطب وذي الخويصرة التميمي)؛ ألسنتهم حداد وولاؤهم مشروط، يمدحونالسلطان بما ليس فيه أو يسبونه بما لم يقترف، بوصلتهم جيوبهم ومعداتهم وأولويتهم مصالحهم ولا سبيل للتخلص من ابتزازهم إلا إذا تبرأالحكام من أن يحمدوا بما لم يفعلوا… فرحم الله مثقفا أهدى إلى السلطان عيوب حكمه !
ما زلنا الورثة الحقيقيين للنابغة وأبي تمام وابن هانيء.
نعم، ما زلنا نعيش مبالغة النابغة في مدح النعمان:
وإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبدُ منهن كوكب .
ما زلنا نعيش محاولات جمع كل الخصال وإسقاطها على السلطان كما فعل أبو تمام:
إقدامُ عمروٍ في سماحة حاتمٍ في حلم أحنف في ذكاء إياس
والأخطر من ذلك أنه ما زال فينا أحفاد ابن هانيء الذين لا يتورعون عن تأليه السلطان:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ فاحكُم فأنتَ الواحدُ القهَّارُ
وكأنَّما أنت النبيُّ محمَّدٌ وكأنَّما أنصارُكَ الأنصارُ
أنتَ الذي كانَت تُبشِّرُنا به في كُتْبها الأحبارُ والأخبارُ
هذا إمامُ المتَّقينَ ومن بهِ قد دُوِّخَ الطغيانُ والكفَّارُ
هذا الذي تُرجى النجاةُ بحبِّه وبهِ يحطُّ الإصرُ والأوزارُ .
والأمر والأدهى أن فينا أحفاد ابن دراج ومريديه الذين يمدحون الحاكم حتى إذا أطيح به مدحوا القادم الجديد (دون خجل) وهكذا دواليكولنعرض أبلغ مثال على ذلك من خلال مديحيات ابن دراج.
رحم الله احمد بن دراج وعفا عنه، لقد كان شاعرا مفلقا لا يشق له غبار وكان من حسن حظه أن شهد انتصارات الأمة فخلدها غير أنه لكثرةترحاله بين الأنظمة السياسية كان يمجد سيد الحين طمعا فيما عنده حتى إذا دالت دولته لم يتوان من التغني بأعداء سادة الأمس.
لقد خلد ابن دراج الدولة العامرية وتغنى ببطولات المنصور وأبنائه، فعند خروج المنصور لمحاربة مغراوة جاءت:
لك الله بالنصر العزيز كفيل
أجد مقام أم أجد رحيل
إلى أن يقول:
يسيرها في البر والبحر قائد
يسير عليه الخطب وهو جليل
جواد له من بهجة العز غرة
ومن شيم الفضل المبين حجول
به أمن الإسلام شرقا ومغربا
وغالت غوايات الضلالة غول
ولما قال صاعد البغدادي في مدح ابن أبي عامر:
يا أيها الملك المنصور من يمن
والمبتني نسبا غير الذي انتسبا
بغزوة في قلوب الشرك راتعة
بين المنايا تناغي السمر والقضبا
عارضه ابن دراج برائعة مطلعها:
حسبي رضاك من الدهر الذي عتبا
وجود كفيك للحظ الذي انقلبا
يا مالكا أصبحت كفي وما ملكت
ومهجري وحياتي بعض ما وهبا
إلى أن يقول:
عبد لنعماك في كفيه نجم هدى
سار بمدحك يجلو الشك والريبا
إن شئت أملى بديع الشعر أو كتبا
أو شئت خاطب بالمنثور أو خطبا
وتتالت القصائد عصماء في كل مناسبة: نصر “شنت ياقب“، مقدم ملوك النصارى طلبا للصلح والأمان، الانتصار على مملكة ليون …
لم يزل ابن دراج في بلاط العامريين حتى توفي المظفر فرثاه وهنأ أخاه بالولاية من بعده في قصيدة مطلعها:
ما أطبق الهم إلاريثما انفرجا
ولا دجا الخطب إلا وشك ما انبلجا
ما كاد يبدو الضحى بالحزن مكتئبا
حتى رأينا الدجى بالنور منبلجا
فلما ثار المهدي على الدولة العامرية، وقف ابن دراج على بابه منشدا:
قل للخلافة قد بلغت مناك
ورأيت ما قرت به عيناك
مهدي أمة أحمد وكريمها
وحليمها يأوي إلى مأواك
وبعد أن ثار سليمان المستعين بالله على المهدي قال ابن دراج في المستعين:
هنيئا لهذا الدهر روح وريحان
وللدين والدنيا أمان وإيمان
بأن قعيد الشرك قد ثل عرشه
وأن أمير المؤمنين سليمان
ثم مدح الحموديين، القاسم وعلي، فلما جاء المرتضي آخر المروانيين، أنشده ابن دراج:
جهادك حكم الله من ذَا يرده؟
وعزمك أمر الله من ذَا يصده؟
وبعد أن غدر خيران العامري بالمرتضي واستتب له الأمر بالمرية، أنشده ابن دراج:
لك الخير قد أوفى بعهدك خيران
وبشراك قد آواك عز وسلطان
هو النجح، لا يدعى إلى الصبح شاهد
هو الفوز، لايبغى على الشمس برهان
ونجده بعد ذلك في بلنسية يمدح الفتيين العامريين، مظفر ومبارك، بقصيدة طويلة يقول فيها:
هلمي إلى بحرين قد مرج الندى
عبابيهما لا يسأمان انتظارك
ثم عرج ابن دراج بعد ذلك على الفتى لبيب صاحب طرطوشة قبل أن يستقر –بعد طول الترحال والسرى– في سرقسطة حيث أكرمه منذر بنيحي التجيبي وفيه يقول عدة مديحيات منها:
بشراك أيتها الدنيا وبشرانا
أحياك بالعدل من بالأمن أحيانا
فلما توفي المنذر بكاه ابن دراج ورثاه مبايعا لابنه يحي المظفر ومكث فترة في سرقسطة يمدح يحي كما كان مع ابيه:
أياديك ردت يدي في يديكا
وبرك قاد عناني إليكا
وفي آخر أمره خرج من الثغر الأعلى قاصدا صاحب دانية الذي يمدحه بقصيدة مطلعها:
إلى أي ذكر بعد ذكرك أرتاح
ومن أي بحر بعد بحرك أمتاح
وبالجملة فإن ابن دراج كان ذلك النابغة الذي أطاعته القوافي فغناها لكل السلاطين يمدح هذا حتى إذا أطاحت به ثورة أو غيلة وقف فيبلاط صاحب الملك الجديد وكأنه لم يمدح أحدا من قبله.
لا نريد من مثقفينا أن يكونوا من مريدي غرامشي وفوكو ولا حتى من تلاميذ الجابري والعروي بل نكتفي بقليل من الاعتزاز بالنفس فكما قالشاعرنا: من فاتنا يكفيه أنا نفوته !
وذلك من باب : يجوع المثقف ولايأكل بقلمه…
إلى متى سنظل عبيدا للطمع وما ذا سيروي التاريخ عنا للأجيال القادمة؟
وعلى أي فالمثقفون الطماعون لا يعول عليهم !
سيداحمد ولد خو
موظف سابق بالأمم المتحدة