التخويف من الحرية في نهج النُّخَب المغربية/ نجيب مجذوب
16 فبراير 2023، 00:36 صباحًا
سيسجل التاريخ ذات يوم بأن النخب السياسية والحزبية والفكرية في مغرب اليوم كانت منفصلة تماما عن الزمن المغربي، وعن القضايا الكبرى والمشكلات الحقيقية لمجتمعها.
يتأكد هذا بوضوح على إثر النقاش العقيم والمتكرر الذي يطفو على السطح من حين لآخر بخصوص الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي، والذي جاء فيه: (كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكوّن جريمة الفساد، ويُعاقَب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة).
إشكالية حقوقية تندرج في إطار الحريات الفردية تتحول بسرعة البرق إلى قضية أخلاقية كبرى، وإلى نازلة فقهية ودينية تتناسل بشأنها المواقف وتحتد النقاشات. فحينما يسوء طرح مسألة حقوقية من البدء، وتوضع في سياق ملتبس وبمفردات قلقة وملغومة وفي غير موضعها الصحيح فلا غرابة بعدئذ أن تنشط الدكاكين الإعلامية المأفونة والمنابر الدعوية المأزومة بمختلف مشاربها وتوجهاتها ومصالحها لعرض تحليلات وتقديم حلول لا تمس في المحصلة لب الموضوع.
إن اختزال النقاش الدائر في المادة 490 من القانون الجنائي المغربي مدعاة للاستغراب حقا، وإن تقسيم المعنيين به إلى معسكرين اثنين ينم عن استقطاب حاد، ويوحي بوجود شرخ خطير في الهوية يراد له أن يكون وأن يستمر وأن يتعمق بين «نحن وهم»: بين دعاة الفضيلة ودعاة الرذيلة؛ بين أهل الجنة وأهل النار؛ بين متدينين وغير متدينين!
والأنكى من ذلك إيهام الناس من خلال هذه الضجة الإعلامية المغلوطة والاجتهاد الفقهي المبالغ فيه بأن القانون وُضع ليحمي الفضيلة ضد الرذيلة في المجتمع، وليضمن للناس دخول الجنة بدل التردي في درك جهنم. ومن عادة الاستبداد في كل زمان ومكان أن يقتات من النقاشات البيزنطية العقيمة وأن يشجعها، لتتراجع الأسئلة الجوهرية وتختفي. فالسؤال الأهم حقا هو: هل تمثل حرية الفرد خطرا حقيقيا على الدين وإيمان الناس وعلى سلطة الدولة؟
ففي الوقت الذي تتوالى في مغربنا العزيز محاكمة المعارضين السياسيين والأصوات والأقلام المخالفة في السنوات الأخيرة بتهم جنسية وأخلاقية لم يعد خافيا على أحد طابعها المفبرك وأهدافها المغرضة، يتم من جهة أخرى دعوة الدولة لتبذل مزيدا من الجهد في سبيل مراقبة الناس، والتجسس على مضاجعهم والتحكم في تحركاتهم ورقابهم بذريعة حماية الأخلاق العامة و«حفظ الأنساب» وهلم جرا! وهذه لعمري مفارقة كبرى. ومن أجل عزف هذه الأسطوانة المشروخة بإتقان يتم انخراط أوركسترا الشيوخ وأشباه الفقهاء والدعاة في أدائها لصبغ النازلة بصبغة فقهية وشرعية، وليتم خرس الأصوات ولجم الأفواه بذريعة تطبيق شرع الله وحماية المجتمع والمحافظة على الأنساب!
إنها محاكم تفتيش جديدة تزعم المحافظة على الأمن والشرع معا. إنها حالة انفصام حاد تعيشها النخب، وحالة نفاق خطيرة ألمت بالمجتمع.
لكن ماذا يجري في الواقع اليومي؟ يولد في المغرب حوالي 50.000 طفل سنويا خارج إطار الزواج، بمعدل 136 طفل يوميا. 25 رضيعا منهم يتم التخلي عنهم يوميا برميهم في القمامة مع الأزبال!
هذا ما صرحت به الراحلة السيدة عائشة الشنَّا (1941-2022)، الرئيسة السابقة لجمعية التضامن النسوي من أجل مساعدة الأمهات العازبات وضحايا الاغتصاب بالمغرب، ونقلته عنها جريدة «لوموند» الفرنسية. أما الواقع فهو أفظع وأمرُّ وأقبح مما عبرت عنه هذه الناشطة الاجتماعية الراحلة التي كانت مطلعة عن قرب على المآسي الاجتماعية في هذا المجال بحكم عملها في الميدان، وليس داخل المكاتب المكيفة المغلقة لمراكز البحث والإحصاء. وبسبب عملها الجمعوي والإنساني هذا جرى وصف هذه الناشطة الراحلة بأقبح النعوت وأرذل الأوصاف بأقلام وألسنة أشخاص يحسبون أنفسهم ضمن النخبة المغربية!
ليس عيبا أن يقال هذا وليس إثما أن يكتب، وإنما العيب كل العيب والإثم الأكبر هو أن يتم التستر على الواقع المر بخطابات أخلاقية وديماغوجية منفصلة تماما عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية التي يشهدها المغرب منذ سنوات طويلة. هيهات من أن نفلح في حجب شمس الحقيقة بواسطة غربال أخرق.
هل المادة 490 من القانون الجنائي المغربي وضعت حدا لهذه المأساة المستمرة منذ عقود؟ وما ذنب هؤلاء الأطفال المتخلّى عنهم؟ ثم ما مصير النساء اللواتي أصبحن يشكلن في المغرب ظاهرة «الأمهات العازبات»؟
نفاق ونفاق ونفاق؛ وحالة إنكار نعمقها بسجال فقهي مغلوط، ونغلفها بخطاب أخلاقي وتربوي ترقيعي منفصل عن واقع الناس ومعاناتهم اليومية. أما الدولة فهي ليست غائبة عن هذه المعمعة العبثية. فهي دؤوبة على إحصاء أنفاس المواطنين، وحريصة على التجسس على خميل مضاجعهم. وحينما تكثر أشغال التجسس وتتعدد بؤر المراقبة تعمد إلى بناء وإنعاش ترسانة من القوانين التي تتكفل بذلك وتسير في هذا الاتجاه. وكلما ارتفع صوت معارض سياسي بين حين وآخر تسرب الدولة العميقة شريطا مرئيا أو مسموعا عنه من الأرشيف لتلجم صوته وأصوات من يفكرون مثله. أما إذا كانت بعض القوانين الجاري بها العمل «لخدمة الصالح العام» عبثية أو جائرة أو بلا آثار فعلية ملموسة، فآنذاك يتم تفعيل أبواق أهل الجنة ودعاة الفضيلة ضد أهل النار ودعاة الرذيلة! وهذا ما يجري من حين لآخر مع كامل الأسف. حتى بات الخوض في مثل هذه القضايا الشغل الشاغل لبعض الأحزاب السياسية المغربية وقطب الرحى في برامجها المهترئة الفاشلة.
لن تتخلى السلطات الحاكمة ببساطة عن الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي في نهاية المطاف، ليس لأنها أحرص من غيرها على الآداب العامة وحفظ الأنساب، وإنما لأنه (الفصل 490) يمثل أحد أدوات التحكم الناجعة لديها. ولا غنى عن أداة من أدوات التحكم التي تكتسي صفة القانون، وتلبس لبوس الشرع والدين. وطالما بقيت معظم نخبنا المغربية محافظة على روح الخنوع والذل والجبن التي باتت ملازمة لها خلال العقدين الأخيرين سوف نظل في مجال الحريات نحرث البحر ونفتل في حبل الاستبداد إلى ما لا نهاية. هذه النخب أثبتت عجزها وفشلها إلى حد الجبن والاستسلام، لهذا لا يعوّل عليها. لقد أصبحت تمثل دكاكين مفلسة، لكن مربحة في بورصة التخويف والتجهيل وتزييف الوعي، وصارت هي نفسها عائقا أمام أي إصلاح أو أمل في التغيير. يستوي في ذلك الإسلامي واليساري، المحافظ والعلماني…
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا غُلامُ إِنِّي أُعلِّمُكَ كَلِمَات. احْفَظ الله يَحْفَظْكَ؛ احْفَظ الله تَجِدْهُ تُجاهَكَ؛ إِذا سَألتَ فَاسْأَل الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله. وَاعْلَمْ أنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتبهُ اللهُ لَك. وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْء قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ. رُفِعَت الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُف».