من وحي مقامي في جول/ سيد احمد ولد باب
أنا أيضا كنت هناك… لم أكن هناك ترفا أو ترصدا لفرصة سياسية ما، أو دراية مني مسبقة، بأهمية الحدث الذي سيجتمع فيه مجددا، أبناء الوطن الواحد في فعاليات بهيجة امتلأت بدموع الفرح، و قد رأيت ذلك بأم عيني، و غمرتها نشوة كسر الجدران السميكة و هزها شغف المحبة الدفينة المتجذرة بعيدا في أعماق الأرض و التاريخ المشتركين..
. كنت هناك في إطار عمل يقتضي أن أبحث عن آلام الأنفس الطيبة التي تعيش بعيدا عن المراكز الصحية، على أمل أن تساعدني مشيئة الله في تخفيفها…!و لا أكشف لكم حقيقة سرا إن قلت لكم أن عملي هذا، شرع وافق هوى في نفسي. كان إذا لي لقاء مع مهرجان جول على غير ميعاد…!
لم أكن هناك، من أقل الناس فرحا به، كنت من أشدهم رغم ملاحظتي لظواهر نشاز ؛ وهي الظواهر التي أشعر بالحاجة في ذكرها لكم هنا.
الظاهرة الأولى تتعلق بطابع حيوية المهرجان. فقد ظهرت في فعاليات المهرجان بشكل جلي،ظاهرة تمجيد مسؤولي الدولة الكبار و مدحهم لذواتهم لا على أدائهم لمسؤولياتهم، بشكل فيه مباشرة مبتذلة و نفي للذات ؛ على حساب الدولة الحاضنة لنا جميعا، و كأنها مجرد خلفية نرسم عليها صورهم بكل زخرف الدنيا.
و لكن و حتى إن استحقوا كل ذلك الثناء، أليس الوطن أولا بالمديح قبلهم ؟ هذه الظاهرة إن دالت على شيء فهي تدل على نقص عميق في منسوب الوطنية في دمائنا و عن عجز واضح لتقبل مفهوم الدولة المدنية في عقولنا.
حقيقة إن هذا السلوك يناقض خطنا الجلي الذي رسمنا لأنفسنا من أجل بناء دولة جمهورية قوية أثبتنا عزمنا عليها، بشواهد كثيرة لا يتسع المقام لذكرها…
ثم، ألا توجد لغة أخرى لخطبائنا و شعرائنا للتودد لمسؤولينا الكبار – إن كان لابد لهم من ذلك، أمام الملإ – أكثر نضجا و بلاغة من ذكر تأديتهم الكاملة لواجباتهم أو عملهم في اجتهادات صادقة من أجل رفع مستوى الحياة فينا ؟الظاهرة الثانية تتعلق بأهمية الظهور عند بعض ضيوف المهرجان، بالصوت و الصورة للتقرب من أهل القرار تحسبا لنيل مسؤولية عليا فينا… هذه الظاهرة و إن دأبنا عليها فهي دخيلة على طبيعتنا التي ستلفظها لا محالة يوما. فالطبيعة أقوى من أي دخيل عليها Refouler le naturel, il revient au galop كما يقول الفرنسيون.حقيقة إن المسؤولية في بيئتنا لا تنتزع بكثرة الظهور و إنما تكتسب بالرزانة و الكياسة…فعلينا أن نستحضر أن كل الشعوب صنيعة بيئتها و أننا نحن، من شعوب نحتتها الصحراء الكبرى على الاهتمام الشديد بالقيم خاصة أسيادنا (أي مسؤولونا)، فهم متمسكون بالنبل و الإباء، اللذين يحددهما فينا سلوك، كلامه قليل، أغلبه إيحاء و تحرك محدود فيه قناعة قوية بالنفس…
بيئتنا الجافة إذا نحتتنا على ذلك النحو تماما كما نحتت بيئة الغابات الرطبة أهلها على نحو يناسبها و كما نحتت بيئة الغرب المعتدلة أبناءها على نحو يمثلها هي الأخرى… فلا يغرننا اختلاطنا بالغرب في هذه العقود الأخيرة حتى نظلم منظومتنا الاجتماعية…
و لنعد إلى طبيعتنا، فكلامنا و إن قل، زكي يجد دائما ترجمة بالأفعال العظيمة و بالأخلاق المجيدة و بقاء كبارنا، بعيدا تحت خيامنا و أكواخنا ليس غيابا عن شأننا العام و لا تهاونا بمصيرنا المشترك. بالعكس، إنهم حاضرون و واثقون بملكيتهم لزمام الأمور الحقيقية هنا… فهذه أرضهم!أما الظاهرة الأخيرة التي أود أن أتطرق إليها هنا فإنها تتعلق باللمسة الشبابية للمهرجان فقد لمع المهرجان كثيرا ؛ صحيح ! و الفنون أصلا، صرخة تضرع من أجل الكمال.
و على ذلك الأساس فهي لا تتحمل شيئا.إن عدم التزام هذا المهرجان حقيقة بخطه التحريري الخادم للحدث العظيم في كل مجرياته كان من منظوري المتواضع، خللا ينبغي أن يشار إليه. هذا لأن هذا اللقاء الكبير يستحق لوحده مهرجانه كله و أكثر… فنحن حقيقة، أمام حدث جلل، غير عادي، يتجسد في لقاء عظيم طال انتظاره مع أهل أعزاء… كان إذا من الأفضل علينا، من أجل تحضيره جيدا، أن نضع عفويتنا و ثقتنا العمياء في الأشياء جانبا و أن ننتبه جيدا لكل صغيرة و كبيرة، لنديره على قدر وزنه الكبير. فاللحظة، أكرر، لحظة عناق عظيمة تحمل عبق حفظ ود الآباء و الأجداد و متعة الجيرة و قدسية اللوح المحفوظ و الاشتراك في الخندق الواحد في وجه عاتيات الزمن…
لقد ذهبت إذا إلى جول، لتخفيف معاناة الناس فيها و في ضواحيها بالأقراص و الإبر… فوجدت هناك أنه قد يتحتم علي أيضا استخدام القلم هو الآخر كوسيلة أخرى لتخفيف معاناة أناس طيبين نبلاء، عصيون على الهوان، سبق أن القيتهم في ما مضى في محطات من حلي و ترحالي في هذه الفانية و عرفت فيهم من النضج و الشيم و الخصال العالية ما يثلج الصدور. هؤلاء يعيشون بيننا. يروننا في صمت و لا يراهم أغلبنا. هؤلاء هم من يتأذون حقيقة كثيرا أمام كل إخفاق لنا في تأدية واجباتنا في حق وجودنا على هذه الأرض لاسيما في المناسبات المهمة من مسارنا… و لابد أن درجة شعورهم بذلك الأذى قد تضرر منها صحتهم و قد يتسبب ذلك في هدر مؤلم لسنين ثمينة جدا من أعمارهم – لا تنسوا أنني طبيب – كانت لتكون نعمة لا تضاهى يستفيد منها أبناؤهم و ذووهم لو كنا دائما على مستوى مسؤولياتنا اتجاه أهلنا بالمفهوم الواسع للكلمة