شذور شعريّة ونثريّة: “عشّ النّحل”/ د. نهلة غسّان طربيه:
10 أبريل 2023، 19:43 مساءً
ما بين أحدِ الشعانين.. وأحدِ الفصح.. طريقٌ قصيرة تخطو عليها طفولةٌ سوريّةٌ جميلةٌ.. جميلة
ما بين الأحدَين.. يأتي ألفُ عيد وعيد: قد يكون عيدَ الفطر.. أو عيدَ الأمّ.. أو أربعاءَ أيّوب.. أو خميسَ الأسرار.. أو الجمعةَ العظيمة.. أو سبتَ النور.. أو عيدَ ميلاد صديقةٍ هنا.. أو صديقٍ هناك.. أو عيدَ الجَلاء.. أو قد يكون عيدَ ميلاد ملكةِ الأعياد الربيعية.. الحبيبةِ أمّي!
هكذا يكون الأسبوع ما بينهما.. أحد الشعانين.. وأحد الفصح.. أحَدَين كذراعَي طفلةٍ نشأَت على أفراحِ المحبّةِ والجَمال. ذراعان ممدودتان يمنةً ويسرة.. تعانقان العيدَ بكلّ أسمائه. فتلكَ الطفلةُ تَرَعرعتْ على هذه المسمّيات في دارتها الدافئة.. حيث كانتْ مدرسةُ الأبِ والأمِّ تكتب بطباشيرةٍ بيضاء الأسماءَ الرّيّانةَ بمعاني العيد.. عيداً إثر عيد.. فحفظتْها الصغيرةُ وأشقاؤها عن ظهر قلب.
ما بين أحدِ الشعانين.. وأحدِ الفصح.. يختلط فرحُ تلك الأعياد جميعِها باختلاف ألوانِها فيصيرُ قوسَ قزح لأوّل الربيع. يصيرُ فستاناً أبيضَ وأصفر.. طُرِّزَ على صدره عشٌّ صغير بجواره عشٌّ صغيرٌ آخر.. أعشاشُ ملتصقةٌ بخطوطٍ مستقيمة تعلو بعضاً منها في سنتمتراتٍ مدروسةٍ بدقّة متناهية زهرةٌ بديعةُ اللون مطرّزةٌ بِيَدِ أمٍّ فنّانة تسكب ذوقَها الرفيع عبر ثقبِ إبرةٍ وحفنةِ خيطانٍ ملوَّنَة. كانتِ الأعشاشُ تبدو كما لو أنّ عَدَّها يكادُ لا ينتهي.. تشكّلُ كلُّها معاً ماتسمّيه الخيّاطات ” عشَّ النحل” أي “خليّةَ النحل”
يالروعةَ ذيّاكَ الفستان الذي كان لتلك الطفلة وكثيراتٍ من أقرانها أحلى ما في العيد. كانت تمرّر أصابعها الغضّة على أعشاشِه الصغيرة.. والأزاهيرِ التي تعلوها والتي كانتْ بالنسبة لها بيوتاً بينها حدائق.
كانتْ تارةً تخالُها بيوتاً في “مدينتها البحرية”.. بيوتَ صديقاتِها في المدرسة.. فتغنّي معهنّ للبحر.. لِشِباك الصيد الطافحة بموسم السمك.. للقوارب الخشبية الصغيرة التي كانت تزيّن شواطىء المدينة البحريّة المزدانةِ ساحاتها بالأعياد الكثيرة تلك.
وكانت تارةً أُخرى تخالُ تلك الأعشاشَ الصغيرة بأزاهيرها الملوَّنة.. بيوتاً في قريتها الجبلية التي ينام فوق سطوحها القمر.. وتتسلّق أشعّةُ الشمس فوق شبابيكها المفتوحة على المدى الأخضر.
في أحد تلك البيوت كانت تصنعُ أُمٌّ جميلة ” أقراصَ العيد” اللذيذة.. اللذيذة.. الحلوةِ منها والمالحة. وفي بيتٍ آخر كانت تلوِّنُ جدّةٌ ماهرة بَيضَ عيد الفصح بقشور البصل المغليّ فيصبغها بلَون شمس الغروب
ما بين شمعةِ أحد الشعانين التي كانت تزيّنها لها أمّها بزنابق بيضاء تقطفها عمّتُها الحنون من جنينتها الصغيرة.. وبيوتِ فستان العيد بلَونَيه الأبيض والأصفر.. كانت هناك أراجيح تعلو.. تعلو.. بها وبصديقاتها المحتفلات بعيد الفطر السعيد.. ثم تنخفض.. فتجد نفسها معهنّ أمام بائع “غزل البنات”.. يشترين تلك الغيومَ الورديَة من على عربةٍ خشبية وليس من أعلى السماء
اليوم ترمق الطفلة الكبيرة أمَّها ترتدي نظّارةً طبّيّة وبيدها خيط وإبرة تطرّزُ قبّعةً لحفيدها الجديد. ترمقها مليّاً.. تقطف لعينيها الثمينتين.. كلّ ماطرّزتْهُ لها يوماً على فستان العيد الأبيض والأصفر من أزاهير ملوَّنَة. تربطها معاً بشريطتين: واحدةً بيضاء والأُخرى صفراء. تدندنُ لحنَ أغنيةِ فيروز “طريق النّحل” وهي تُهدي إضمامةَ الزهر من على فستانها لأمّها وتقول: كلّ عامٍ وأنتِ بألف خير في كلّ عيد.. ما بين أحد الشعانين.. وأحد عيد الفصح.. ياأمّي. مازالت كلّ تلك البيوتِ التي طرّزتِها لي يوماً على صدر فستاني.. البيوتِ التي يسكن فيها كثيرٌ من الأحبّة في وطني.. تمدّ قلبي بنبضه إذ تسكن بجواره. كلُّ تلك البيوت وطني. مازالت كلّ تلك البيوت هي لي العيد.. كلَّ عيد. مازال فستان ” عشّ النحل” الأبيض والأصفر هو أجمل فساتيني. أنتِ يا أمّي كلُّ تلك البيوت.. “عشُّ النّحل”.. وطنُ الأعياد.. واليومَ.. اليومَ.. أنتِ عيد الفصح.. في باقةِ أعياد.