ملامح مخاض أمني في الساحل: اللاءات الأمنية للجزائر/ حسام حمزة
إلحاح الجزائر على وجوب التمسّك باتفاق الجزائر 2015 باعتباره حجر الزاوية في هندسة بناء الأمن والاستقرار في مالي الآن ومستقبلاً هو إلحاح يهدف إلى التوكيد.
خلف حركيّتها الدبلوماسية الملحوظة في الساحل تقبع شواغل الجزائر وهواجسها الأمنية التي تستحثها نذر اضطراب أمني عميق ما فتئت تطفو إلى سطح الأحداث في دول الساحل منذ كانون الأول/ديسمبر المنصرم، ووراء ما قد يؤوّل على أنّه تحرّك خارجي روتيني في الجوار تستوجبه التزاماتها إزاء المجتمع الدولي باعتبارها راعية لاتفاق السلم والمصالحة في مالي، توجد مقتضيات دور الجزائر الإقليمي ومركزها في منطقة رخوة أمنياً سمة استقرارها أنه غير مستتب.
حسبنا دليلاً على هذا العناوين الكبرى لمخرجات زيارات وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف إلى كل من موريتانيا، مالي والنيجر والتي تحيل جميعها إلى خانة مجابهة التهديدات الأمنية وتفاقمها وفق مقاربات مستقلة ومنسّقة تحافظ على سراب الاستقرار المتبقّي في الإقليم وتحول دون تردّي أوضاعه. وناهيك بهذه العناوين، عضوية الدول الثلاث المذكورة في لجنة قيادة الأركان العملياتية المشتركة المنشأة بمبادرة من الجزائر في نيسان/أبريل 2010 بتامنراست (الجزائر) في سياق مأسسة البعد الجهوي للأمن الجزائري الذي أسبغت به المقاربة الأمنية الجزائرية منذ بداية الألفية.
وفضلاً عن هذا، يبرز الحضور اللافت للجنرال جبار مهنى، المدير العام لمديرية الوثائق والأمن الخارجي (الذراع الخارجية للمخابرات الجزائرية) إلى جوار الوزير في كل اللقاءات التي أجراها مع نظرائه في كل من موريتانيا ومالي والنيجر، حضور يجلي الدلالات الأمنية للزيارة ويكاشفنا بأنّ النوازع المحرّكة للاستراتيجية الجزائرية في الساحل في هذه الظرفية الحرجة هي إمّا أمنية خالصة أو تكتسي طابعاً أمنياً ذا أبعاد جيوستراتيجية.
ومما لا شكّ فيه أن ظهور جبار مهنى، بوصفه قائداً من قيادات الصفّ الأول في المخابرات الجزائرية، هو ممّا لا ينبغي السهو عنه عند كلّ محاولة فهم لغايات التحرّك الجزائري الأخير. ولئن ارتكزنا على علم مسبق بأنّ ظهور القيادات الأمنية هو مما لا يحبّذ في أعراف النظام الجزائري، فيمكننا الإقرار بأنّ الظهور كان مقصوداً بغية ضخّ جرعة أكبر من الصرامة والحزم الأمنيين من الجزائر في مضامين رسائلها إلى دول جوارها.
من الضروري أن نشير إلى أنّ تواتر جملة من المؤشّرات السياسية والأمنية في مالي يشرعن الارتياب من المزالق المحتملة لصراع كامن بين أزواد وحكومة باماكو بدأت بعض ملامح استعاره تلوح مجدداً في الأفق. ذلك تحديداً ما دقّ نواقيس التوجّس لدى الجزائر وسائر دول جوار مالي بعد أن أعلنت تنسيقية الحركات الأزوادية (CMA) الموقّعة على اتفاق الجزائر في آذار/مارس الماضي، أنّ مسوّدة الدستور التي اقترحها هاشمي غويتا في 27 شباط/فبراير لم تنطوِ على أيّ جديد يخدم الأزواد أو يدفع إلى التفاؤل بمستقبل مسار السلام الذي يحدّد اتفاق الجزائر معالمه ومقاصده.
نحن إذاً بصدد توتـر جديد في سيرورة الاضطرابات المتتالية بين تنسيقية حركات الأزواد وحكّام المرحلة الانتقالية، سبقته مقاطعة التنسيقية أعمال إعادة صياغة الدستور في كانون الأول/ديسمبر 2022 في أعقاب اتهام وزير الخارجية المالي، عبد الله ديوب، لها بـ “عرقلة العمل” وتلويح منها –في إثر ذلك-بورقة الانسحاب الكلي من اتفاق السلم والمصالحة. وقبل شهر تقريباً، وفي 5 نيسان/أبريل تحديداً، أصدرت تنسيقية الحركات الأزوادية بياناً ندّدت فيه بحركة طائرات حربية تابعة للجيش المالي حلّقت فوق أقاليم أزواد.
تفضي هذه الحالة من التشظّي السياسي والتوتر المزمن بين الأزواد والحكومة الانتقالية في مالي، والتي تعكسها خطابات تبادل الاتهامات بين الطرفين، إلى تعطيل الاندماج الأمني والعسكري المنشود بين الجيش المالي وجماعات الشمال المسلحة مؤدية إلى عجز أعمق عن حوكمة الأقاليم الصحراوية أمنياً تستغلّه التنظيمات الإرهابية من أجل التمدّد.
إنّ هذا ما حصل في الـ 13 من نيسان/أبريل حين تمكّن “تنظيم الدولة في منطقة الساحل” من السيطرة على قرية تيدرمن ليُطبق بذلك حصاره لمدينة ميناكا الواقعة شمالي شرقي مالي على الحدود مع النيجر.
من الملحّ أن نذكّر هنا بأنّ معركة تيدرمن كانت آخر معركة يخوضها مسلحو تنظيم “داعش” في محيط ميناكا إلى غاية الآن في سلسلة معارك لم تتوقّف منذ منتصف العام 2022. وقبلها، خاض تنظيم “داعش” عدّة معارك في تمالات في تشرين الأول/أكتوبر 2022، وفي تادجالالت في كانون الأول/ديسمبر2022، وأغاتانغابو في آذار/مارس 2023، كانت كلها مقدّمات منحت التنظيم فرصة التقدّم والتحكّم في أقاليم واسعة شمالي شرقي مالي.
وممّا يفرغ عبثية على المشهد الأمني في ميناكا أنّ التنافس على التحكّم فيها يحدث بين فصائل تتبع تنظيمين إرهابيين؛ تنظيم “داعش” وتنظيم القاعدة، في حين يقف الجيش المالي في ثكناته في تيسيت موقف المتفرّج العاجز عن خوض المواجهة العسكرية ضدّ الجماعات الإرهابية.
تكفي هذه التفاصيل الملخّصة لرسم صورة فشل دولتي وعجز عسكري فادحين في منطقة حدودية يجسّدهما إخفاق كل من باماكو ونيامي في حوكمة أقاليمهما الحدودية، وليس ثمة ما يمنعنا من توقّع تمدّده وانتشاره شرقاً وغرباً في عمق أقاليم مالي والنيجر نحو مدن أخرى، أو شمالاً في الصحراء نحو الحدود الجنوبية للجزائر.
فالمشكلة في وضعها الراهن، وبفعل غياب ما قد يوقف سريانها أفقياً و/أو عمودياً، يمكن أن تتجاوز نطاق تمركزها لتتحوّل إلى انشغال أمني إقليمي، ولا سيما بالنسبة للجزائر التي تراقب عن كثب كل ما يحصل في إقليم ينتمي إلى منطقة مجالها الحيوي وأمنها القومي.
هذه التطوّرات وما انبثق عنها، وما قد تؤول إليه الأوضاع في الساحل بسببها، والتقاؤها مع الانعكاسات عبر-الحدودية للاضطرابات المقبلة شرقاً من السودان، هي ما عجّل في رأينا التحرّك الدبلوماسي الأمني الجزائري الأخير، وهي ما يفسّر –في الآن ذاته-الإصرار الجزائري على وجوب تثبيت اتفاق السلم والمصالحة الموقّع في الجزائر عام 2015 كأرضية لا مناص منها لبناء السلم والأمن في مالي.
من المؤكّد أيضاً أنّ الاتفاق العسكري الموقّع بين الجزائر والنيجر والذي يقضي بتسيير دوريات عسكرية مشتركة على حدودهما البرية المشتركة، فضلاً عمّا اتفقتا عليه من تعزيز للتنسيق الأمني الثنائي بينهما، وفي إطار لجنة قيادة الأركان العملياتية المشتركة، كترتيب إقليمي متعدّد الأطراف للتنسيق العسكري، هي إجراءات حفّزتها حركية التهديد المتفاقمة بسبب حالة الارتباك السياسي والأمني الذي تعيشه مالي.
في المحصّلة، تسوقنا المعطيات السابقة وتحليلها إلى استنتاج ثلاث لاءات أمنية بالنسبة للجزائر قياساً إلى الظرفية الإقليمية الراهنة ولتطوّرات الوضع الأمني في الساحل. أولاها هي رفض حازم لكل ارتكاس أو نكوص عن تطبيق اتفاق السلم والمصالحة في مالي ولكل إخلال محتمل ببنوده. في هذا السياق، فإنّ إلحاح الجزائر على وجوب التمسّك باتفاق الجزائر 2015 باعتباره حجر الزاوية في هندسة بناء الأمن والاستقرار في مالي الآن ومستقبلاً هو إلحاح يهدف إلى التوكيد.
ثانياً، رفض المماطلة غير المبرّرة في استعادة الشرعية الدستورية في مالي ولا سيما بعد أن أجّل الاستفتاء على الدستور الذي كان مقرّراً يوم الـ 19 من آذار/مارس 2023. ويبدو أن إعلان الرئيس الانتقالي العقيد هاشمي غويتا عن موعد الـ 18 من حزيران/يونيو كموعد جديد للاستفتاء على الدستور يندرج ضمن ما اتفق عليه مع الجزائر خلال زيارة عطاف الأخيرة.
أخيراً، فإنّ إصرار الجزائر على التنسيق العسكري والعملياتي بين دول المنطقة في إطار لجنة قيادة الأركان العملياتية المشتركة، يحمل “لاءً” ضمنية لأي استدعاء لأطراف أجنبية لخوض المجابهة العسكرية والأمنية ضد الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة والتي تلحّ الجزائر دائماً على أنها تقع على عاتق دول المنطقة وجيوشها دون سواها.
إن هذه اللاءات الأمنية، بقدر ما تعكس حرص الجزائر الشديد على أمنها وأمن حدوها وتطلّعها إلى هندسة أمنية إقليمية مستقلة بآليات ذاتية تتحكّم فيها دول المنطقة، بقدر ما تعبّر أيضاً عن إدراك الجزائر لحجم المسؤولية الأمنية المترتّبة عن مركزها الإقليمي في الساحل وفي المغرب العربي، مركز وأدوار سنشهد مستقبلاً بلا شك مزيداً من الترسيخ لها.