الاستقلال كان فرنسيا، ولكن العَلم وطني! / م. محفوظ بن أحمد
الجمهورية الإسلامية الموريتانية دولة مستقلة؛ تفخر بكل أبنائها البررة بها، وتعتز بتنوعهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتحمد الله سبحانه أن هداهم لصراط مستقيم يوحدهم كلهم ويجمع أفئدتهم ويؤلف بين قلوبهم وعواطفهم؛ لم يشذ عنه في السابق أحد منهم قاطبة… إنه الدين الإسلامي السني، وبالأخص مذهبه المالكي السائد.
هذه حقيقة ووحدة أعيت الاستعمار الكافر، وغلبت التيارات الشيوعية الملحدة، وسلَّمت بها الهيئات والأنظمة الطامعة “المتمصلحة”.
لكن دعونا نعترف بحقيقة تاريخية لا تغير شيئا من هذا الواقع المحمود، وهي أن تنظيم هذه الدولة و”استقلالها الوطني” كانا على يد الدولة الفرنساوية وبإرادتها ومساعدتها… ولم يكن ذلك تحت أي ضغوط محلية؛ لا عسكرية ولا سياسية.
ببساطة استفدنا من مشاكل فرنسا وتعرضها لهزائم عسكرية وضغوط سياسية داخلية وخارجية… فكان قيام دولتنا واستقلالها الوطني، هبة من الله سبحانه على يد مستعمر خبيث لا يكن لديننا وثقافته العربية، ولا لغاتنا كلها، ولا لوحدتنا… إلا البغضاء والعداء. فلله الحمد رب السماوات والأرض.
ومن الوارد، بل المؤكد، أن فرنسا كانت تدرك أنها لو لم تبادر بهذه الخطوة (الاستقلال) لتعرض وجودها للمقاومة المسلحة من أجل الاستقلال الوطني.
ففي نهاية عقد الخمسينيات وبداية الستينيات، كان الشعب الموريتاني قد أصبح يتوفر على درجة من الوعي، وعلى نخب من المثقفين المؤمنين بضرورة الدولة المستقلة؛ وعلى استعداد لقتال الفرنسيين وتعبئة الشعب من أجل إحياء الجهاد تحت قيادة “المقاومة الوطنية” ـ هذه المرة ـ لطرد الفرنسيين واللحاق بركب الدول المستقلة، إذا قرر الفرنسيون البقاء وضم البلاد إليهم، كما فعلوا في الجزائر وبلدان أخرى.
ولا أعتقد أن أحدا كان سيتخلف عن حمل السلاح وقتالهم من أجل ذلك، بمن فيهم المرحوم المختار ولد داداه ورفاقه.
لكن مقاتلة فرنسا، من أجل أمر هي تبذله (الاستقلال) وفي ظل وجودٍ لها رمزي فقط (لا توجد جيوش لها بقواعد عسكرية ثابتة، ولا مصانع ومزارع ولا مستثمرون مستوطنون… كما في بعض دول الجوار)، كان سيكون أقرب إلى “الفانتازيا” الحمقاء منه إلى المصلحة والحكمة. لم نحتج لتلك المقاومة التي كنا بالطبع على استعداد لها وقدرة عليها.
وإذا وجدت مقاومة وطنية وسقط شهداؤها من أجل الاستقلال والحرية في أماكن كثيرة من عالم النصف الثاني من القرن 20، فليس على بلدان أخرى لم تحتج لذلك أن تختلق لنفسها “مقاومة وطنية” مسلحة، ولا أن تشعر بالنقص بسبب عدم وجود ذلك!
والمفارقة هي أن الشعور بثقل الاستعمار الفرنسي البغيض قد ازداد وظهرت دواعيه مع الاستقلال الوطني وبعده! متمثلا في فرض لغة المستعمر ونفوذه وثقافته وملاطفته…
ولكن الواقعية والثقة في الخطوات المتدرجة ببطء وحذر للتخلص من كل ذلك، تجعل من الظلم اتهامَ المؤسسين بالعمالة لفرنسا والخضوع المطلق لإرادتها؛ لقد اتضح أنهم كانت لهم نفس الأهداف الوطنية ولكن بأسلوب أطول نفسا وأكثر تسامحا؛ وللبعض ـ مع ذلك ـ كامل الحق في انتقادهم على ذلك.
*
الحاصل أن الفرنسيين “استفادوا” ابتداء، من حالة الفوضى (السيبة) وانعدام الأمن في البلاد الموريتانية، ليحظوا بالقبول والتعاون من بعض مَن أرَّقَهم ذلك الوضع الشاذ. فتصدى لهم من رفض وجودهم بسبب “كفرهم”، خوفا على الدين، وقاتلهم أو هاجر عنهم جهادا في سبيل الله فقط؛ فلما ظهر أنهم الأقوى وأنهم يحترمون ديانة وتقاليد المجتمع، هادنهم. كما ارتد إليهم أكثر الناس، وتعاونوا معهم… حتى انتهت المواجهات معهم كليا قبل أربعة عقود كاملة من الاستقلال سنة 1960.
وفيما بعد “استفاد” أهل هذه البلاد من نتائج هزائم فرنسا في أوروبا وآسيا، ويأسها من السيطرة على الشعوب الأخرى بالقوة؛ فرمت إليهم “الاستقلال الوطني”، قبل أن نكتشف جميعا أهمية الاستقلال وقيام الدولة الوطنية ذات السيادة، فنقرر الحصول على ذلك عنوة.
وإذا كانت فرنسا ظلت تتدخل في صميم سياسة البلد الداخلية، وتتقرب منها نخبته، بحكم التكوين والحاجة وربما الولاء… فإنها لم تتدخل في الأمور الرمزية المتعلقة بذلك الاستقلال. ولم تستأثر تلك الأمور باهتمامها؛ خاصة العَلَم الوطني الذي هو أبعد ما يكون من عَلمها، رمزا ولونا ومعنى. وقل نفس الشيء أو أكثر في النشيد الوطني!!
إذن فإن القول بأن عَلمنا ونشيدَنا والصفة المميزة لدولتنا (الإسلامية)… فرضتها فرنسا؛ هو مغالطة كبرى، رغم أنه يجوز القول بصدق إنها فرضت علينا “الاستقلال الوطني” قبل أن نقاتل من أجله. تماما كما فرضت علينا اسمنا ذاته (موريتانيا)!!.
لهذا يكون من العجب العجاب أن يُعمد لتغيير الرموز التي كانت من خالص تفكيرنا وصميم اختيارنا… في حين تظل خيارات تبعيتنا الموضوعية لفرنسا مستمرة إلى اليوم؛ وأهمها اللغة الفرنسية والتعليم الخاص والسياسة والإدارة…
ثم يأتي من يخادع الناس ليقول إن تغيير تلك الرموز الوطنية هو من أجل ترسيخ الاستقلال وتكريم من قاوموا من أجل الاستقلال… ليبرر رؤيته الخاصة المضلِّلة أو المضلَّلة؛ غير مبالٍ بما يثيره ذلك أيضا من مشاكل الفرقة والتمزق، وبدون أي فائدة عامة منه للوطن!.
إن من ارتأى ذلك، لا يغير العَلم والنشيد الوطنيين فقط وينتهي كل شيء؛ ولكنه يجعل تغييرهما والتلاعب بذلك التغيير واستغلاله في المزايدات السياسية والحزبية… من خيارات كل نظام يحكم هذا البلد؛ مما يُفقد الاحترام ويُمزق الولاء المعنوي الجامع لذينك الرمزين الوطنيين.
96 تعليقات