لبنان: التخويف من المقاومة.. أمريكا تصنع الرواية !/ د. صادق النابلسي
14 سبتمبر 2023، 19:03 مساءً
ثقيلة هي المفارقات في هذا البلد. تمضي حياة الناس هنا،غريبة الأطوار. ما من مخلوقات على هذه الأرض، بقدر ما نعلم، تحيا على مثل هذا الكم الهائل من التشتت والتفلسف.
لا يتبادل الناس لغة واحدة، وإنّما صيحات يستشعر المرء منها الكثير من التعارض في الأولوياتوانعدام التوافق على أوضح الواضحات. الطريق نحو الاعتراف بالمقاومة وإنجازاتها وعرٌ وغريب. أن تقاتل وتضحي وتُستشهد من أجل وطنك باتجاهاته الأربع وحدوده القانونية الدولية، ليس جميلاً ونبيلاً دائماً. قد يبدو للمؤمنين بمساحته التاريخية والجغرافية والإيمانية كذلك، ولكنّه لآخرين،الأمر لا يعدو كونه محاولة فرض وقائع طائفية وأمنية وسياسية.
خلال السنوات الماضية وبرعاية أمريكية مباشرة جرى تشويه النظرة إلى المقاومة وسلاحها في المجتمعات الطائفية غير الشيعية،ليكون استحقاق التفوّق من جماعة على جماعة محسوساً فيه بالقدر الأكبر من الحدّة. تريد أمريكا أن يكون الموقف من المقاومة مشحوناً بالريبة والتحفظ، ليحتل بعدها الخوف موقعاً مهماً في المخيّلة الجَمْعيّة.
أمريكا صنعت الرواية وشاركها في الإخراج الأقربون والأبعدونالذين تحمّسوا وتطوّعوا لإثارة الخواطر الطائفية بما يرتب الكثير من النتائج السلبيةوالآثارالنقدية والعدائية ضد المقاومة وثقافتها.
مع أنّ أهداف المقاومة الوطنية واضحة غاية في الوضوح، إلا أنّ القوى المناوئة لها عندما تغذيها شياطينها الطائفية أو السياسية تتصرف بصورة عمياء، وإن لم تفعل ذلك أمام رعاتها اعتبرت نفسها عديمة المعنى. أمّا الجمهور فالحق، ليس كله على نحو واحد. بعضه أخضع نفسه لهذا الانضباط الطائفي أو الحزبي، وبعضه الآخر يصح فيه ما قاله مريد البرغوثي متسائلاً ومجيباً في الوقت عينه عن الشعور الذي يسكن غريباً في العلاقات الإنسانية:”لماذا هناك دائماً خيطٌ من الخوف في قماش الطمأنينة؟ لماذا يدخل المرء في عِراك ليس لأنه شِرّير بل لأنه خائِفْ؟”ومشكلة هؤلاء الخائفين قلة كفاءتهم في إدراك الواقع، (الواقع الذي يتصل بالصديق، والواقع الذي يتصل بالعدو، والواقع المرتبط بمفهوم السيادة وبناء القوة الوطنية وطريق عمل القوى الاستعمارية، والواقع الأهم المتصل بالاحتلال الذي يشكل عبئاً ثقيلاً على الأمن والاستقرار ووحدة المجتمع وتعافي الدولة وقدرتها على تحقيق الإنماء والاستفادة من الموارد). وعليه، كلما نقص هذا الإدراكازداد تشوشهم وتنامى شعورهم بعدم الأمان، فيصبحون بحاجة إلى أوهام يتكئون عليها بحثاً عن الأمان الذي ينشدونه في تصرفات لاعقلانية.
ومشكلة هؤلاء الذين يتقاطعون مع القسم الأول من الجمهور على الخوف، أنّ عدوهم ليس الجهل وحده، بل التجهيل، المتمثل في تغييب العقل الجمعيمن خلال السعي الممنهج لحرمانه من معرفة الحقيقة (حقيقة المقاومين وأخلاقهم وتوجّهاتهم وأهدافهم على سبيل المثال)، والمسارعة الدائمة لتقديم حقائق وسردياتملتبسةومزيفة وتغذيته بها، وتسخيرها فقط لخدمة توجّه سياسي وثقافيغالباً ما يكون تحت رعاية ووصاية وأولويات خارجية.
لا يشفع للمقاومة اتصالها بالمصالح الوطنية الكبرى.فهي تحتاج، على الرغم من كل هذه السنوات من التألق الأخلاقي في أفعالها، والتجسّد المرئي لحلمها وحكمتها وتواضعها وتسامحها، إلى أن تبرر وجودها وتكرر على نحو ما ضرورتها الوطنية.
أكثر من ذلك، أمام كل منعطف وحدث تجد نفسها عرضة لشتى المساءلات والتحقيقات والتشهير حول نشاطاتها وارتباطاتها، فيما الفريق المعارض لها بمنأى عن الحساب حول تقاعسه وبلادته وتخليه عن المسؤولية!كيف يحدث أنّ فئة تتلاقى وتتفاعل مع أفكار وتوجهات معادية للسيادة والاستقلال، وهي بالمناسبة شعارات ترفعها هذه الفئة باستمرار، مربوطة بعلاقة غير مقدسة بالطائفية والمال وأعداء لبنان، لها كل هذا الحق بخلق ظروف الفتنة والاندفاع بها إلى مشروع مخيف وشبه مستحيل وهو العلاقة مع إسرائيل؟ هذا سؤال سوف يتوقف التاريخ أمامه مندهشاً. ومع ذلك لم تتخذ المقاومة منها موقفاً عنفياً بل انحازت إلى الحوار والعقلانية في تبيان الحقائق والمصالح الوطنية والتأكيد على أنّ السلاح إلى صدر العدو هو ورقة لبنان الرابحة.
حقاً، بأي وسيلة يمكن، أن تقول المقاومة للبنانيين إنّها لهم ومن أجلهم. وأنّ ما قامت به وما تزال في ظل غياب الدولة القوية القادرة على منع العدو من العدوان والهيمنة،ليس فيه تنافس من أجل مال أو سلطان. لا تريد من أحد أن يمدحها بكلمة ولا أن يجازيها بمنصب.مع ذلك،المقاومة في لبنان مثل فارٍّ من العدالة يُراقَب ويُرصَد وتُقطع في وجهه الطرق ويُشهر في وجهه السلاح وتُصادر أسلحته. ومثل سجينة تتعرض للإهانة والإدانة الدائمة، في حين أنّ مَن يفعل ذلك ضدها يُمنح أوراق اعتماد في السلطة وُيشاد بأفعاله باعتبارها أفعالاً تستقيم معها الهوية الوطنية. أيا منطق غريب يجري في هذا البلد!
مَن يخرق قواعد السلوك الوطني الشريف؟ هل هو مَن يسعى لحماية لبنان من الغزو والتدمير ونهب الثروات، أم مَن يطلق نشاطه في سلسلة من الأحداث تبلغ ذروتها بالفتنة والتقسيم؟ سيقول هذا الصنف من اللبنانيين الذي يتحفز دوماً لمغامرة حرب أهلية: في السلاح، ينبغي أن تكون لنا الحقوق نفسها. يحملون سلاحاً، فنحمل سلاحاً. هذه هي المساواة. لكن المقاومة تحمل سلاحاً في وجه العدو الإسرائيلي والتكفيري. وأنتم مع الاثنين تعاملتما في أكثر صور الارتداد والخزي الوطني بشاعة! المقاومة حملت السلاح ولم توغل بدماء أحد من اللبنانيين في حين أنكم حين حملتم السلاح “سال بالدم أبطحُ”! المقاومة جعلت لبنان قوياً مهاباً والعدو مربكاً مردوعاً وأنتم جعلتم لبنان مستنقعاً للأكاذيب. أي سلاح تريدون حمله خصوصاً في هذا المفصل التاريخي الذي تريد فيه أمريكا أن تنفذ السياسات الكفيلة بضمان استمرار إسرائيل كقوة غالبة، وبحيث تظل إرادتها العسكرية والسياسية غير قابلة للتحدي ودورها الاقتصادي غير قابل للمنافسة!
لماذا يصرّ هذا الصنف على أن يجعل لبنان مكشوفاً في هيبته، ضعيفاً في وحدته، يتورط باسترضاء الغرب ثم الظهور الخانع أمامه كخنوع النعاج. بل من الغريب جداً هذا المستوى العالي من التنسيق والاستعداد للدخول معهبترتيبات سياسية وأمنية واتخاذ أشد المواقف تطرفاً إزاء أي محاولة لتأخير نزع سلاح المقاومة.
لا شك أنّ أمريكا كانت معنية بشكل مباشر خلال السنوات الماضية باستغلال أي شعور عدائي داخلي ضد المقاومة لتؤسس لمشروعية ضرب المقاومة. وقد رصدت مبالغ طائلة لهذا الهدف، وبات لديها جيش من المفكرين والإعلاميين والمثقفين ورجال الدين الذي يؤمنون بالتحالف بين الفكر والسلاح للتخلص من المقاومة. هؤلاء احترفوا تهييج القوة الطائفية وهيئات المجتمع المدني واستثارة هواجسهاومخاوفها حتى تندفع أبعد كل يوم على طريق الحرب الأهلية.وهذا الذي حصل على (كوع الكحالة) جزء من طقس العبور من الخوف الوهمي إلى نصوص وبناءات نفسية وسياسية وميدانية أكبر. المطلوب إحداث مشاغلة مع المقاومة تتيح تبرير العنف. جعل الصخب والبلبلة اللذين يحدثهما الطقس الغرائزي مقدمة لتحشيد عسكري على نطاق واسع. وأيضاً حشر المقاومة بامتحان صفاتها الأخلاقية في سرد درامي على الهواء مباشرة حيث يُؤتى بالنائحات لسرد حكايات كاذبة وللاضطلاع بدور الشاهد الجماعي وراوي المعاناة التي يتعرض لها المسيحيون خاصة واللبنانيون عامة.
أهمية تكوين خوف وهمي لتوكيد علاقات غير متناظرة بين المقاومة وبيئات أخرى، يفسرها ما جاء في الكحالة وقبلها في “شويّا وخلدة والطيونة”. إنّ من خطط لهذه الأحداث لم يكن يريد أن تبقى إشكالية السلاح إشكالية نصية وثقافية فحسب، بل أدرك أن تطبيقات العنف هي الأساس في تحديد اتجاه شامل للتحول.
عبر مسار طويل من التحديات صادفت المقاومة في طريقها أنماطاً متنوعة من الحروب الصلبة والناعمة. في حين تأتي قضية الخوف من سلاحها أشد إثارة للدهشة إذا ما انتزعت من سياقها الحقيقي ونُظر إليها بعين طفل. لا أحد من كل هؤلاء الناقمين على المقاومة وسلاحها يستطيع أن يجيب بصورة علمية وعادلة عن هذا الخوف الذي سببته المقاومة له أو لبيئته. إذليس بوسع المقاومة أن تُخيف أحداً من اللبنانيين إلا مَن وقف في صف أعداء الوطن صراحة وعلانية. المقاومة هي لحماية لبنان واللبنانيين وطمأنتهم على وجودهم وأمنهم وعيشهم وحياتهم. وستظل هذه القاعدة قائمة وأبدية. غير أنّ السيل المتدفق من الأكاذيب حول سلاح المقاومة من مؤسسات إعلامية وثقافية ومراكز صنع الرأي العام هو الذي يصك ويشيع هذا الخوف ويسعى إلى تحويله بعد ذلك إلى استراتيجية صدام ومواجهة. وقد استطاعت هذه الحملة التي بدأت قبل العام 2006 أن تغطي الحياة السياسية بضباب كثيف تضيق معه مساحة الرؤية، ويشاع الشك، ويتعمق الخوف حتى إذا وقع حادث عَرَضي ظهرت الجماهير وكأنها قد فقدت توازنها، وبدت القوى وكأنّها على جهوزية لتعبئة إمكاناتها المادية لمواجهة المقاومة!
لكن في المقابل مَن يطمئن المقاومة على وجودها والمقاومين على أمنهم وحياتهم؟ في الواقع، ليس المعارضين للمقاومة مَن يحتاجون إلى مَن يُطمئنهم، ووقائع ما جرى ويجري يضيء الصبح لذي عينين. وإذا كانت هذه القضية المتوهمة لم تسوَ بعد في أذهان قسم من الجمهور اللبناني وتزداد تفاقماً باستجابة الإعلام الخبيث لها بفعل المال الذي يصنع الأفكار المسيئة وغير الصحيحةعن المقاومة. إلا أنها بالفعل تحوّل الانتباهعن الذي يحق له الخوف. ومَن له الحق بالخوف هو المقاومة وبيئتها اللذان يتعرضان لهذا الكم الهائل من الأعداء في الداخل والخارج ومن الشرق والغرب. الحرب على المقاومة تدخل يوماً بعد يوم مرحلة جديدة منالخطورة عبر العقوبات الاقتصادية تارة أو عبر خلق الإرهابيين المتخصصين الأكثر كفاءة في الوحشية وفعل الإبادة الجماعية،أو عبر كيان صهيوني يهدد باستمرار باقتلاع جذور البيئة المقاوِمة وإخراجها نهائياً من أرضها. مَن يجلس تحت جرس من أجراس الخطر هي المقاومة وأهلها. فيما لا يكاد مَن يعارضها إلا ادعاء الخوف والعيش بوهم لا يمكن للمرء أن ينتشل نفسه منه إلا بتدريب العقل على التفكير بطريقة صحيحة، ولقد أحسن الكاتب الأمريكي “جيرالد سينكلير” حين قدم بعض النصائح التي يرى أن اتباعها يساعد على التخلص من الأفكار السلبية، من هذه النصائح كتابة الأفكار السلبية على ورقة ثم تمزيقها ورميها في سلة المهملات. لا شك أنّ خوف بعض اللبنانيين من المقاومة من الأفكار السلبية التي يجب أن تكتب على ورقة ثم يتم تمزيقها وبعدها تُرمى في سلة المهملات!