روافضُ الانتخابات، نواصبُ الديمقراطية/ محمد محمود أبو المعالي
من أقبح مخلفات الانتخابات الصورية التي عانت منها بلادنا خلال تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الحالي ـ وهي تحبوا وتكبوا في بواكير ديمقراطية “لابول” ـ هو رفض المغلوب تلقائيا للنتائج حتى قبل الاقتراع، لأنها كانت محسومة قبل التصويت، والعملية الانتخابية الزائفة حينها مجرد تبييض للنتائج المعدة سلفا. ورغم التطور الكبير الحاصل في ميكانيزمات العملية الانتخابية في بلادنا بعد ذلك، ودخول الأطراف السياسية المعارضة والموالية في تشكيلة اللجنة المشرفة على الانتخابات، وما صاحبه من تعزيز لترسانة المنظومة القانونية ذات العلاقة بالانتخابات، إلا أن قرار رفض النتائج من طرف الأطراف السياسية الخاسرة للانتخابات، ظل أقرب غائب ينتظر، وأدنى قرار يتخذ، وكأنه يصدر توأما سِياميا مع قرار الترشح لها أصلا، حتى أننا أصبحنا نرفض نتائج انتخابات لم نتمكن من حيازة لوث للطعن فيها ولو شكليا، ناهيك عن حيازة دليل قاطع أو برهان ساطع على بطلانها وجورها، وما نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة منا ببعيد. متلازمة الرفض التي رافقت مسارنا الانتخابي، شكلت عيبا خَلقيا وخُلقيا في مسيرتنا الديمقراطية، فشِلت نخبنا السياسية في تجاوزه، والإقرار بحقيقة أن التنافس الديمقراطي يُفضي حتما إلى فائز وخاسر، في عملية ذات دوران زمني معلوم، وأجل مسمى، يكفي للاستعداد تارة أخرى للمعركة الانتخابية القادمة، بأساليب ديمقراطية محكمة وأدوات سياسية أكثر إقناعا وأشد تأثيرا. كما أن تحكم روافض النتائج عند كل استحقاق في توجيه قرار نخبنا السياسية، كان كفيلا بخلق ما بات يعرف عندنا بأزمة ما بعد الانتخابات، كلما رفعت الستائر من مكاتب التصويت وحُصِل ما في صناديق الاقتراع، فيحول هذا الرفض التلقائي تلك النخب السياسية إلى نواصِبَ للديمقراطية، ينادون بها ويجحدون بأركانها ويكفرون بنتائجها. واليوم تمر بلادنا بهذه المرحلة بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، رغم التطور الذي حصل في وسائل وتعاطي بعض قوى المعارضة مع مجريات ومخرجات العملية الانتخابية والذي أحالها إلى نتائج متطابقة ـ أو كادت ـ مع النتائج المعلنة من طرف اللجنة المستقلة للانتخابات (النتائج المعلنة من حزب تواصل، والمرشح سوماري أوتما، مثالا لا حصرا) ، ورغم أن أي مرشح لم يتقدم أمام المجلس الدستوري بطعن حتى ولو كان شكليا فارغ المضمون، إلا أن التصعيد في الخطاب رفضا للنتائج وتحريكا للشارع وتجييشا له، شكل تجليا واضحا من تجليات أزمة الرفض المزمنة، والتي آن الأوان لنخبنا السياسية مولاة ومعارضة أن تتجاوزها، وأن تتوصل إلى ميثاق شرف مشهود، ينبذ كل أنواع التزوير في الانتخابات، ويأبى أي قرار برفض النتائج إن لم يكن مؤسسا تأسيسا مبينا لا لبس فيه ولا تدليس. ولأن تداعيات ما بعد الانتخابات الأخيرة، أحالت إلى دعوات النزول إلى الشارع هرجا ومرجا، فاتحة أبواب الاختلال المُتلِف، والفوضى الفتاكة، كانت الدولة مجبرة على استخدام القوة التي تحتكرها بفعل القانون والدستور، واللجوء إلى وسائل حفظ النظام وبسط السيطرة، كما التزم بذلك رئيس الجمهورية في خطاباته إبان الحملة الانتخابية في نواذيبو ونواكشوط، وهنا يأتي الدور على وزارة الداخلية المسؤولة عن أمن الوطن وتأمين المواطن، والتي يسارع بعضنا اليوم، إلى تصويب سهام الاتهام ونصال النقد اللاذع إليها، حتى تكسرت النصال على النصال، وكأن حفظ الأمن وضبط الشارع حيف وعسف وطغيان، والديمقراطية والحرية لعب ولهو بأمن البلد واستقراره، وتفاخر بالدعوة للفوضى والنهب والحرق والإهلاك. ولا ريب أننا ندرك جليا أنه إن تراخت قبضة الدولة الأمنية ساعة من نهار أو ليل، ولم تأخذ على يد الناهب والمشاغب الخارج زُلَفا من الليل بطرا وابتغاء الفتنة والشغب، تكون الديمقراطية أول الضحايا، ويكون المواطنون أرواحا وأعراضا وممتلكات، أسهل فريسة وأيسر طريدة، للفوضى وانعدام الأمن، لذلك فإن المزايدة على أجهزة حفظ الأمن والجهات المسؤولة عنها، يعد نوعا من التلاعب بالمشاعر ودعوة مبطنة لمباركة انفلات ماحقٍ واضطراب مهلكٍ لا يبقي ولا يذر. فالأمن والسكينة والهدوء أساس للحفاظ على كيان الدولة، التي نسعى بواسطة الديمقراطية والانتخابات إلى ترسيخ مؤسساتها وتعزيز الحريات بين أفرادها، وتمليك الشعب ناصية القرار فيها، فإن اختل الأمن، وارتجت السكينة، وطغى الجيشان والاضطراب على الهدوء والطمأنينة، غابت الدولة من الأساس، وبات الحديث عن دَمَقرطَتها أو تعزيز مؤسساتها وترسيخ الحريات فيها، نقْشا على الماء أو غرسا في الهواء، وما الجار ذو القربى والجار الجنب منا ببعيد.