نعم لقد خسرنا.. ووحدة الساحات فشلت.. والتردد دمرنا/ لينا الطبال
21 ديسمبر 2024، 18:06 مساءً
د. لينا الطبال
نعم، لقد خسرنا، ولكن هذا لا يعني النهاية…
يحول المسار التصاعدي الهزيمة إلى قوة دافعة، نستخلص منها الدروس ونعيد صياغة أدوات المواجهة بصلابة، حتى تغدو نقطة انطلاق نحو نصر قادم. اذاً، لنتراجع خطوة واحدة فقط الى الوراء، نرتب فيها صفوفنا ونعود بعدها بخطوات أكثر ثباتا واعمق تأثيرا… لكن أرجوك، لا تحزن، ولا ترسل لي على الواتس آب بعد اليوم تخبرني أنك “حزين ومثقل”.
أحد سيناريوهات سقوط سوريا نقلها وزير الخارجية الإيراني، عباس عرقتشي، حين أبلغ الرئيس السابق بشار الأسد أن الجيش العربي السوري لن يحارب، موجها له هذا السؤال: “هل تعتقد أننا سنحارب عن جيشك؟”
البراغماتية الانتهازية هي الطريقة المثلى التي تحمي بها الدول مصالحها في أوقات الأزمات السياسية الدولية والإقليمية.
احفظوا جيدا، ان لا أحد يخوض حروب الآخرين دون مصلحة واضحة، ولا أحد يتحمل عبء الدفاع عن قضايا لا تُدرج ضمن اولوياته.
الانتقائية الديبلوماسية هي فقط من ترسم خريطة العلاقات الدولية، في حين يفرض السؤال التالي نفسه: كيف يمكن لنا أن نعيد صياغة معادلات القوة لنقف بأنفسنا، دون انتظار دعم قد لا يأتي؟ … فعلا، لن يأتي أحد لينقذنا.
أنور ياسين، الذي اعتقلته إسرائيل وهو في السابعة عشرة من عمره، والذي قضى 17 عاما في سجونها واجه سجانه الذي قال له: “ستخرج ولن تجد شيوعيا واحدا”، رد عليه انور: “سأبدأ بنفسي”.
اجل… الالتزام بالمبادئ يشكل أساس المقاومة، فالأشخاص قد تتغير أو ترحل، لكن الفكرة لا تموت وتستمر في التجدد.
أنور ياسين، بطل عملية جبل الشيخ… ذلك الجبل الذي يتباهى نتنياهو اليوم بالسيطرة عليه، وضمّه إلى كيانه، هو حلمه الاستراتيجي الذي يتيح لإسرائيل الاشراف على سوريا، الأردن، فلسطين، ولبنان. جبل الشيخ، الذي تشبّع بدماء أنور ورفاقه، سيبقى نابضا بتضحيات ابنائه …
يوجد دائما علاقة طردية بين المقاومة وبين الأرض، كلما ازداد تمسك الشعب بأرضه، تصاعدت مقاومته دفاعا عنها، فالأرض تلهم المقاومة… كما ان نجاح المقاومة في الدفاع عن حقوق شعوبها يعمق التزام هذه الشعوب بها، مما يجعل العلاقة تصاعدية ومتبادلة التأثير والتلاحم المستمر.
بكل أسف لم تتمكن “وحدة الساحات” من التقاط هذه العلاقة معنا، نحن شعوب المقاومة، وأضيف، انها فشلت في ترجمة طموحاتنا على أرض الواقع.
ربما وحدي من يتساءل، لذلك اسمحوا لي أن أطرح تساؤلي بصمت، دون تعليق: هل إيران حقا حليفة المقاومة؟
الحلفاء، كما اعرفهم في العلاقات الدولية، هم الدول التي تتبنى نهجا مشابها للولايات المتحدة في التزامها المطلق بدعم حليفتها إسرائيل، دون تردد أو مساومة، ضمن سياق تحالف براغماتي منفعي يخدم مصالحهم المشتركة. فهل تنطبق هذه المعايير على إيران؟…
لو فقط… ، عبارة تحمل رغباتنا المؤجلة في فعل لم يكتمل.
ماذا لو؟، سنظل نطرح الأسئلة التي لا نجد لها إجابات… ماذا لو عبرنا في 8 أكتوبر نحو الجليل؟ لو استقبلنا المد البشري للشعوب العربية وفتحنا الحدود؟ لو ذهبنا الى ما بعد بعد حيفا؟ لو استرددنا الجولان؟… هل كنا خسرنا سوريا؟ والقادة؟ وغزة؟ والسيد؟ … لماذا اذاً؟ أسئلة أخرى دون اجابات…. لماذا بعد استشهاد السيد لم يتم تغيير الخطة؟؟ لماذا لم يجر التصعيد؟؟ لماذا لم نمطر تل أبيب بالصواريخ؟ لقد حسم الشباب في الميدان النصر لمصلحة المقاومة، فمعركتهم كانت ملحمة إعجازية في دحر اسرائيل… كان لدينا ما يكفي من الأسلحة لتحقيق ربما الانتصار او على الأقل لتغيير ميزان القوى. لكننا وقعنا في فخ الانتقائية الديبلوماسية، بتعبير مختلف: لماذا تم ربط المقاومة بقرارات إقليمية ودولية ؟؟…
صحيح إن احتمالات الفعل قد تكون مُكلفة، لكن التردد أثبت أنه أشد فتكا بنا ولم يجلب لنا سوى الهزيمة.
هناك من قرر كسر هذه الحلقة، يحيى السنوار، قلب المشهد راسا على عقب.
ولنفترض جدلا ان إسرائيل نفسها فتحت المجال لعملية طوفان الاقصى، ربما كفخ لخلق ذريعة لاجتياح واسع للمنطقة. وهناك احتمال لصحة ذلك، لكن ما حدث في غزة يوم 7 أكتوبر تجاوز كل التوقعات. 7أكتوبر لم يكن مجرد ضربة عسكرية، بل كان عملية خاطفة وساحقة، كشفت هشاشة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وأثبتت أن المعادلات يمكن أن تنقلب حين تتوفر الجرأة والإرادة.
في مواجهة “ماكينة” عسكرية ضخمة ونظام دولي منحاز، حققت المقاومة في غزة وفي لبنان انتصارا على إسرائيل التي أرغمت على وقف الحرب في لبنان، وها هو نتانياهو مجبر على مفاوضة حماس والرضوخ لتبييض السجون. هو انتصار على “طريقة الملك بيروس ” Victoire à la Pyrrhus حيث التكلفة تفوق المكاسب… لكنه انتصار… هذا الانتصار أثبت أن أساليب المقاومة القديمة لم تعد صالحة، وأن الجرأة وحدها قادرة على فرض معادلات جديدة … نحن هُزمنا فقط عندما سقطت سوريا.
لا تجادلني بأن الجيش السوري لم يتم اختراقه ومنعه من أي تقدم ومواجهة… الم يتم احباط الشعب السوري ومصادرة فرحته وبيعه وهم الثورة؟؟ وحرية زائفة؟ ووطن غير وطنه؟ وعلم بشع تتوسطه ثلاثة نجوم حمراء. وأي مجد للنجوم حينما تأتي من العدم …
قد تجلس لساعات، ثابتا في مكانك، حيث لا أفكار تمر بخاطرك… ثم فجأة تبدأ بالهذيان وتتسائل هل بإمكاني عبور الزمن؟
بكل تأكيد… في فيزياء الكم ان السفر إلى المستقبل أمر ممكن التحقيق، لكن السفر إلى الماضي إما صعب للغاية أو مستحيل تماما…. لكنك تقول انك في هذه الحرب عبرت إلى هناك…الى الماضي؟؟… الى ثورة 1936 ونداء عز الدين القسام، إلى النكبة 1948 وشاهدت عبد القادر الحسيني يسقط على مشارف القسطل. حضرت العدوان الثلاثي 1956، ونكسة 1967، وبكيت جمال عبد الناصر 1970. ثم عبرت إلى أكتوبر 1973، فخطاب السادات في الكنيست 1977. غزو لبنان 1982، بشير الجميل رئيسًا، حبيب الشرتوني، فأشلاء ومجازر ودماء.
ثم الانتفاضة الأولى 1987، تكسير العظام، المبعدون إلى مرج الزهور 1992، وصولا إلى أوسلو 1993، وشارون يقتحم الأقصى فالانتفاضة الثانية وايضا تحرير الجنوب2000 ، كتائب شهداء الأقصى، أبو علي مصطفى، ومخيم جنين 2002 ورائد الكرمي. ثم النصر الإلهي في 2006، وسمير القنطار ببدلة الجندي المقاوم. غزة 2008، ثم غزة 2012، وأيضا غزة 2014، وأخيرا غزة في طوفان الأقصى 2023.
17سبتمبر البايجر يُطلق إنذار القادة، 20 سبتمبر قيادات الحزب تُغتال، ثم مشهد نصرالله شهيدا… وسوريا في يوم الاحد 8 ديسمبر.
هل شعرت ان الزمن هو خط مستقيم؟ او هذه التواريخ والاسماء متشابكة كالتشابك الكمي… وهل تظن ان الاحداث المستقبلية لها تأثير على الماضي؟ عشت اذا كافة التفاصيل وكنت هناك… لكن دعني اسألك الان: هل تريد تكرار نفس الأخطاء؟
هذه الهزيمة أعادتنا عشرين عاما إلى الوراء… لكن ديناميكية التحول الإيجابي للهزيمة تتيح للخاسر إعادة ترتيب الصفوف على أسس أكثر صلابة واستعادة المبادرة لمواصلة المقاومة.
تأمل جيداً كل ما حققناه من انتصارات في عالم كانت فيه الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة الأولى بلا منازع.
اليوم، الصورة تغيرت. هل لاحظت صعود الصين؟ العالم لن يبقى أحادي القطب؛ بل يتجه نحو نظام ثنائي القطبية، تتصارع فيه قوتان عظيمتان على النفوذ والهيمنة.
برأيك، هل ستقبل الصين باستمرار هذه الفوضى في الشرق الأوسط؟ والتنين الصيني، الذي كان سابقا يتخذ موقف الحياد ويلعب دور الوسيط، بدأ يتحرك فعلا، مستغلا هذا الصراع لتحقيق مكاسب جيوسياسية في إطار منافسته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
لا تجادلني ان الصين تدعم فقط إسرائيل، واعرف انه على الصعيد الديبلوماسي إسرائيل هي الدولة الإقليمية الوحيدة، والثانية دوليا بعد الولايات المتحدة، التي تمتلك أربع قنصليات وسفارة في الصين. وليس هذا فقط، بل إن إسرائيل تعد الشريك الثقافي الأكبر لها في المنطقة، وهي بعد روسيا، سمحت لها الصين بافتتاح فرع جامعي مستقل على أراضيها هو “معهد إسرائيل للتكنولوجيا – تكنيون”، عدا عن انها شريك اقتصادي مهم جدا للصين.
لكن دعم الصين للقضية الفلسطينية واضح، وتاريخي منذ الستينيات، طالما دعمت الصين كافة القرارات الدولية المؤيدة لفلسطين، وهي تشير الى ما يتعرض له الفلسطينيون بـعبارة “الظلم التاريخي”.
وبعد 7 أكتوبر خاطرت الصين بعلاقتها مع اسرائيل وادانت الإبادة في غزة ووصفت هجمات إسرائيل بـ”الأعمال الإرهابية” وامتنعت عن تصنيف حماس أو حزب الله كمنظمتين إرهابيتين.
باعتبارها قوة صاعدة، تتبنى الصين استراتيجية مرنة مصلحية، تركز بحذر على استغلال الفرص المتاحة لتعزيز حضورها ونفوذها في النظام العالمي. واصبحت اليوم نتقد صراحة واشنطن وتكشف عن ازدواجية معايير الغرب الاوروبي، وفي نفس الوقت تعزز مكانتها في تمثيل مصالح “دول الجنوب”، ساعية لتحقيق التوازن في النظام الدولي.
هذه التغيرات قد لا تبدو بعيدة عن قضيتنا، وهي تحمل أفقا جديدا. عالم متعدد الأقطاب يعني فرصا جديدة، ومساحات يمكننا المناورة فيها… المقاومة ليست فقط في الميدان، إنها أيضا في القدرة على قراءة المشهد الدولي والتحرك ضمنه، وهذا ما علينا فعله الآن: إعادة البناء، استغلال التغيرات العالمية، والاستمرار مهما كانت الظروف.
لا تنس أن ما حدث هناك في غزة، وفي لبنان وفي سوريا كان مخططا له. لقد تم الإطاحة بسوريا في اقل من أسبوع، لكن تذكر جيدا نحن أيضا قادرون على إسقاط كيانهم في أقل من أسبوع، فالحرب القادمة لن تكون مجرد التحام قوى كما في الماضي. الحرب القادمة لن تكون طويلة وممتدة، بل خاطفة عليهم كما كانت خاطفة علينا.
لن ننتظر عشرين عاما لاستعادة توازننا وقوانا… المعادلات قد تتغير بسرعة، لكن المقاومة ثابتة وجاهزة… نحن لم نستسلم، نحن فقط نتراجع خطوة واحدة إلى الوراء، لنعود بعدها بخطوات اسرع واقوى…سنعود بقوة جارفة، في لحظة ما، وبومضة من الزمن، قد يتبدل كل هذا الذي تظنه لن يتغير…لكن أرجوك، لا تحزن.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس