آراءموضوعات رئيسية
تسجيل المتقاعدين.. / المرتضى محمد أشفق

مع أني لم أفهم العلاقة بين الصيغة والمعنى، المتقاعدون اسم فاعل من تقاعد، وتقاعد على وزن تفاعل، ومن معانيها التظاهر بغير الواقع مثل: تناوم: أظهر النوم وهو ليس نائما، تماوت: أظهر الموت وهو غير ميت، تغابى: أظهر الغباء وهو ليس غبيا..
فما معنى أن يظهر الذي انتهت سنوات خدمته القعود وهو ليس قاعدا، وما العلاقة بين الأمرين؟
مسكين الإنسان وهو يموت طوعا، ويزعم أنه يحيا، ناسيا أن كل صباح جميل يعيشه يموته، فلا يجد من السلوان إلا الحنين إلى ماض لا يعود، حمل معه ذكرياته، وعشياته، وأماسيه الجميلة، حمل معه الإنسان يتدحرج بين ممرات الزمن الرهيب، وهو يوقع عند كل محطة عبور وصلَ استلام، وتأشيرة مرور إلى الضفة الأخرى لوادي الفناء، يبصم عليها بشيبات غافلته، وتجاعيد شقت طريقها بهدوء على صفحة وجهٍ كان أمس نضرا ناعما صقيلا كمرآة…
وتارة بشعور مباغت أن السُّلَّم الذي كان يجوزه طائرا كعصافبر الحقول، ويختزل الأدراج ثلاثة وأربعة، أصبح يخافه، ويصيبه الدوار، والرجفان وهو على العتبة الأولى..
أي إنسان لا يتسلى بلحظات طيش الطفولة؟ ونقل التفاصيل الصغيرة من رسائل الحياة إليه في رحلته نحو العدم..
أيٌّ منا لا يسترق التفكير في نزق الصبِيِّ الذي كانه؟ فيرى وهو في جلباب العمر الخلَق، وتحت عموده الفقري المتقوس من ركام السنين، يرى زمنه الجميل، قد اغتيل بين يديه، وغرب في السراب..
ذكرياتنا هي بعضنا الجميل أضعناه، وأجزاء منا تساقطت في رحلتنا إلى المجهول..
في داخل كل منا طفل بريء، يود أن ينفلت من عقال السنين، ليرقص، ويغني، ويشاغب، ويصبح شيطانا صغيرا يحاول مسك السحاب…
وصلني إشعار حتمية تسجيل المتقاعدين، صدمني القرار، والتوقيع لأنه يعيدنا إلى عهد الاسترقاق الوظيفي، والطاعة الفورية للمراسيم المختومة..
المتقاعدون فئة برزخية، يحسبهم الناس منطقة وسطى بين الحياة والموت، ويصنفونهم في درجة الأرامل، والقواعد من النساء اللائي لا يرجون نكاحا، والمعمرين من أصحاب الاحتياجات الخاصة، ينتظرون على شاطئ الحياة أن يقبضوا..
لما دخلنا المدينة ونحن جماعة من الأساتذة المتقاعدين في مهمة غير التسجيل، رأينا جماعات مختلطة من المراهقين تتجه شرقا، وأدركنا أنهم تلاميذ الثانوية، وأن دون التاسعة دقائق قليلة..
تتبعنا الجماعات تشق طرقا عرفناها، وسلكناها عقودا إلى ذات المكان…اليوم لم تعد تعني لنا شيئا، حتى أننا تحدثنا عن اليوم هل هو يوم عمل، وهل ما زالت المدارس في عطلة الفصل الأخير، وخطر بنا أننا لو جئنا نحن الثلاثة إلى المؤسسة لدخلناها دخول الغرباء، لن نلفت انتباه أحد، ولن يعرفنا أحد، وربما لم يسمح لنا الحارس بالدخول، كما منع حارس وزارة الداخلية ذات يوم وزير الداخلية المشهور أحمد ولد محمد صالح من دخولها، لأنه لا يعرفه، وغادر السلطة قبل أن يولد…
بل تذكرت أحد زملائي وكان من أعظم أساتذة الثانوية، وطوحت به الأقدار إلى بلاد أخرى، دخل علي يوما ضاحكا وقال إنه مر بجانب تلميذات، يعبثن، ويشاغبن، فسمعهن يقلن( أتفو أتفو، هاذ إياك ماهو ليهي إكرينا)..
رأيت طابورا قصيرا أمام شباك التقييد، فاندمجت فيه، لأن للطابور لغطا ممتعا، يجد فيه الناس حرية مؤقتة غير معوضة، ليتنفسوا، ويبوحوا ببعض مكنوناتهم، وينشروا في غفلة منهم بعض أسرارهم..
نصحني بعضهم بالذهاب إلى مركز في أقصى المدينة بلا زوار..ثم عرض علي أحد السائقين أن نذهب إليه..
كان خاليا، وكنت أول من سجل، لكن عقبة غير منتظرة نغصت نشوة التحرر من انضباط الإصغاء، والردود على استعلامات المسؤول عن التقييد..رفضت البصمات الاستجابة للمبصمة..وظل المسؤول يمسح يدي بخرقة يبدو أنها أعدت لأمثالي من تعساء المسجلين، ويمسح الشاشة، ويأمرني أحيانا بتمرير باطن يدي على دراعتي،
وينصحني بعدم التوتر، والجهاز الماكر يظهر القبول، ثم يتراجع عنه، كطفل يعطيك، ثم يبكي لتعيد إليه العطية..ثم بدا للجهاز بعد محاولات خمس أن يظهر نجاح العملية..
تذكرت أن مبصمة شنكيتل رفضت تسجيل بصمتي، رغم حرص المشرفين من تلاميذي السابقين، وآلمتني خسارة اشتراكي لولا أن إحدى المراهقات- طالبات التسجيل- يبدو من كتبها أنها تلميذة في السنة السادسة من التعليم الأساسي، قالت لي لما تكررت المحاولات الفاشلة( أنت مخلاك كاع تم اغسل أيديك)..
ما كنت أحسب أن بصماتنا تشيخ، وأن شيب البصمة هو اختفاء خطوطها، وتحولها إلى بقعة ناعمة كقطعة بلور..
ما كنت أحسب أن عملية التسجيل هي نبش لقبور بصامتنا، وتحسس الرميم المشتت في تضاعيف الليالي والأيام..
أسفي للوالدة Eddehma Rim ، أم المتقاعدين..كم ستطول معركتها مع المبصمة، أنصحها بأن تتدرب أسبوعا قبل أن تذهب للتقييد، على(تبزاز احجار سموه)، ثم تذهب للتسجيل في مركز حي (دوكسه) في ألاك، فإن فيه شابا طيبا، لا يهان عنده العجزة، صبورا حتى النصر على تكرار المحاولات الفاشلة لتسجيل البصمات المتوارية في شيخوخة الزمن..
فما معنى أن يظهر الذي انتهت سنوات خدمته القعود وهو ليس قاعدا، وما العلاقة بين الأمرين؟
مسكين الإنسان وهو يموت طوعا، ويزعم أنه يحيا، ناسيا أن كل صباح جميل يعيشه يموته، فلا يجد من السلوان إلا الحنين إلى ماض لا يعود، حمل معه ذكرياته، وعشياته، وأماسيه الجميلة، حمل معه الإنسان يتدحرج بين ممرات الزمن الرهيب، وهو يوقع عند كل محطة عبور وصلَ استلام، وتأشيرة مرور إلى الضفة الأخرى لوادي الفناء، يبصم عليها بشيبات غافلته، وتجاعيد شقت طريقها بهدوء على صفحة وجهٍ كان أمس نضرا ناعما صقيلا كمرآة…
وتارة بشعور مباغت أن السُّلَّم الذي كان يجوزه طائرا كعصافبر الحقول، ويختزل الأدراج ثلاثة وأربعة، أصبح يخافه، ويصيبه الدوار، والرجفان وهو على العتبة الأولى..
أي إنسان لا يتسلى بلحظات طيش الطفولة؟ ونقل التفاصيل الصغيرة من رسائل الحياة إليه في رحلته نحو العدم..
أيٌّ منا لا يسترق التفكير في نزق الصبِيِّ الذي كانه؟ فيرى وهو في جلباب العمر الخلَق، وتحت عموده الفقري المتقوس من ركام السنين، يرى زمنه الجميل، قد اغتيل بين يديه، وغرب في السراب..
ذكرياتنا هي بعضنا الجميل أضعناه، وأجزاء منا تساقطت في رحلتنا إلى المجهول..
في داخل كل منا طفل بريء، يود أن ينفلت من عقال السنين، ليرقص، ويغني، ويشاغب، ويصبح شيطانا صغيرا يحاول مسك السحاب…
وصلني إشعار حتمية تسجيل المتقاعدين، صدمني القرار، والتوقيع لأنه يعيدنا إلى عهد الاسترقاق الوظيفي، والطاعة الفورية للمراسيم المختومة..
المتقاعدون فئة برزخية، يحسبهم الناس منطقة وسطى بين الحياة والموت، ويصنفونهم في درجة الأرامل، والقواعد من النساء اللائي لا يرجون نكاحا، والمعمرين من أصحاب الاحتياجات الخاصة، ينتظرون على شاطئ الحياة أن يقبضوا..
لما دخلنا المدينة ونحن جماعة من الأساتذة المتقاعدين في مهمة غير التسجيل، رأينا جماعات مختلطة من المراهقين تتجه شرقا، وأدركنا أنهم تلاميذ الثانوية، وأن دون التاسعة دقائق قليلة..
تتبعنا الجماعات تشق طرقا عرفناها، وسلكناها عقودا إلى ذات المكان…اليوم لم تعد تعني لنا شيئا، حتى أننا تحدثنا عن اليوم هل هو يوم عمل، وهل ما زالت المدارس في عطلة الفصل الأخير، وخطر بنا أننا لو جئنا نحن الثلاثة إلى المؤسسة لدخلناها دخول الغرباء، لن نلفت انتباه أحد، ولن يعرفنا أحد، وربما لم يسمح لنا الحارس بالدخول، كما منع حارس وزارة الداخلية ذات يوم وزير الداخلية المشهور أحمد ولد محمد صالح من دخولها، لأنه لا يعرفه، وغادر السلطة قبل أن يولد…
بل تذكرت أحد زملائي وكان من أعظم أساتذة الثانوية، وطوحت به الأقدار إلى بلاد أخرى، دخل علي يوما ضاحكا وقال إنه مر بجانب تلميذات، يعبثن، ويشاغبن، فسمعهن يقلن( أتفو أتفو، هاذ إياك ماهو ليهي إكرينا)..
رأيت طابورا قصيرا أمام شباك التقييد، فاندمجت فيه، لأن للطابور لغطا ممتعا، يجد فيه الناس حرية مؤقتة غير معوضة، ليتنفسوا، ويبوحوا ببعض مكنوناتهم، وينشروا في غفلة منهم بعض أسرارهم..
نصحني بعضهم بالذهاب إلى مركز في أقصى المدينة بلا زوار..ثم عرض علي أحد السائقين أن نذهب إليه..
كان خاليا، وكنت أول من سجل، لكن عقبة غير منتظرة نغصت نشوة التحرر من انضباط الإصغاء، والردود على استعلامات المسؤول عن التقييد..رفضت البصمات الاستجابة للمبصمة..وظل المسؤول يمسح يدي بخرقة يبدو أنها أعدت لأمثالي من تعساء المسجلين، ويمسح الشاشة، ويأمرني أحيانا بتمرير باطن يدي على دراعتي،
وينصحني بعدم التوتر، والجهاز الماكر يظهر القبول، ثم يتراجع عنه، كطفل يعطيك، ثم يبكي لتعيد إليه العطية..ثم بدا للجهاز بعد محاولات خمس أن يظهر نجاح العملية..
تذكرت أن مبصمة شنكيتل رفضت تسجيل بصمتي، رغم حرص المشرفين من تلاميذي السابقين، وآلمتني خسارة اشتراكي لولا أن إحدى المراهقات- طالبات التسجيل- يبدو من كتبها أنها تلميذة في السنة السادسة من التعليم الأساسي، قالت لي لما تكررت المحاولات الفاشلة( أنت مخلاك كاع تم اغسل أيديك)..
ما كنت أحسب أن بصماتنا تشيخ، وأن شيب البصمة هو اختفاء خطوطها، وتحولها إلى بقعة ناعمة كقطعة بلور..
ما كنت أحسب أن عملية التسجيل هي نبش لقبور بصامتنا، وتحسس الرميم المشتت في تضاعيف الليالي والأيام..
أسفي للوالدة Eddehma Rim ، أم المتقاعدين..كم ستطول معركتها مع المبصمة، أنصحها بأن تتدرب أسبوعا قبل أن تذهب للتقييد، على(تبزاز احجار سموه)، ثم تذهب للتسجيل في مركز حي (دوكسه) في ألاك، فإن فيه شابا طيبا، لا يهان عنده العجزة، صبورا حتى النصر على تكرار المحاولات الفاشلة لتسجيل البصمات المتوارية في شيخوخة الزمن..