حين ينتصر الإنصاف على الإهمال: خطوة في طريق العدالة الاجتماعية/ محمد لحظانه *

أطلّ علينا مجلس الوزراء المنعقد يوم الأربعاء 11 يونيو 2025 بما طال انتظاره، حين صادق على تسوية الوضعية المهنية لعمال وسائل الإعلام العمومي وشركة الكهرباء. قرارٌ طال أمده، لكنه حمل في توقيته ومضمونه دلالات أعمق من مجرد تصحيح تقني لوضعيات إدارية؛ إذ لا يمكن حصره في بعده الإداري أو تأطيره كإجراء روتيني ضمن مساطر التوظيف والدمج، بل يمثل توجهًا صريحًا نحو إزالة ظلم مزمن امتد عبر سنوات وأجيال، عانى فيها المتضررون بصمت، وانتظروا من الدولة أن تعود إلى جادة الإنصاف.
وإذا كان هذا القرار مناسبةً للفرح والارتياح، فإنه يجب أن يكون أيضًا فرصةً للترحم على أولئك الذين رحلوا قبل أن تُنصفهم الدولة، وقبل أن تُعيد إليهم، ولو رمزيًا، بعضًا من اعتبارٍ سُلب ظلماً. هؤلاء الذين عاشوا على الهامش الإداري، وغابوا وفي نفوسهم حسرة على حق ضائع، يستحقون اليوم أن يُذكَروا في لحظةِ اعترافٍ تأخّرت كثيرًا، لكنها جاءت على الأقل لتقول: لم ننسَ. لقد طُويت ملفات هؤلاء في أدراج النسيان، لا لنقص في الكفاءة أو خلل في الأداء، بل لأن العدالة الاجتماعية كانت دومًا ضحية للتجاهل والانتقائية.
واليوم، حين تعود هذه الملفات إلى الواجهة، فإنها لا تعود بوصفها استحقاقات مؤجلة فقط، بل بوصفها شهادات دامغة على أن عهد الإهمال قد ولّى، وأن للحقوق من ينهض بها مهما طال الانتظار. وما يلفت الانتباه في هذا السياق أن النظام لا يكتفي بتنفيذ برنامجه الانتخابي كما هو، بل يتعداه إلى فتح ملفات قديمة ظلت مغلقة لعقود، في بادرة تُجسّد إرادة حقيقية لتصحيح أخطاء الأنظمة السابقة، والاعتراف بالمظالم التي تراكمت بصمت في زوايا الإدارة والذاكرة الجماعية للمتضررين. وهو ما يُضفي على هذه الخطوة بعدًا أخلاقيًا يتجاوز الحسابات السياسية الضيقة، ويكرّس رؤية إصلاحية ناضجة تُواجه الماضي بشجاعة لا تخلو من إنصاف.
وإذا كانت هذه التسوية قد جاءت في إطار ما تفرضه الأطر القانونية والتنظيمية، فإنها – في عمقها ودلالتها – تتجاوز مجرد تطبيق لنصوص نافذة، لتجسد دعماً فعلياً وواعياً لتوجه السلطات العليا نحو تعزيز احترام حقوق الإنسان، لا بالشعارات العابرة، بل من خلال أفعال ملموسة تُعيد الثقة في الدولة، وتُكرّس مبدأ الإنصاف بوصفه ممارسة عملية لا مجال فيها للتمييز أو التسويف.
ويمكن اعتبار هذه الالتفاتة خطابًا عمليًا مباشرًا للذين يتعجلون رؤية الإنجازات الاجتماعية، مفاده أن هذه القضايا ليست مؤجلة، بل هي جزء أصيل من أولويات النظام، وأن الجهد الإصلاحي لا يغفل الجانب الاجتماعي، بل يسعى إلى معالجته بهدوء وثبات، بعيدًا عن الضجيج وسرعة الاستهلاك الإعلامي. وربما لا تخلو هذه الالتفاتة من دلالة رمزية تنافس حتى مدلول اسم “الإنصاف” في بعده السياسي، إذ تُظهر أن العدالة والاعتراف بالحقوق لم تعد شعارات حزبية، بل أصبحت سياسات عمومية تتجسد في القرارات والممارسات، في زمن بدأت فيه الدولة تستعيد علاقتها الطبيعية بمواطنيها. لكن مثل هذا التوجه، برمزيته ومضمونه الاجتماعي، لن يسلم – بطبيعة الحال – من هجوم شرس من بعض دعاة “النقد من أجل النقد”، الذين اعتادوا التشكيك في كل خطوة إصلاحية وابتكار الحجج لفرملة أي تقدم نحو العدالة الاجتماعية. وستُطرح – كالمعتاد – دعاوى من قبيل “إثقال كاهل الدولة” أو “الاستغلال السياسوي للإنصاف”، دون الالتفات إلى جوهر المسألة: أن إنصاف الناس لا ينبغي أن يُقدَّم بوصفه عبئًا، بل استثمارًا في الاستقرار، ومصالحة مع ما كان يجب أن يكون منذ البداية.
ولعل من طرافة التوقيت أن يُعلَن هذا الإجراء في لحظةٍ تعود فيها بعض الأصوات المشككة إلى الواجهة، كأنما لتصطدم وقائع اليوم الصلبة مع خطابات الأمس المعلّقة في الفراغ، وتُدرك أن التغيير لا يُقاس بشعارات الخارج، بل بخطوات الداخل حين تضع الحق في نصابه.
وهكذا، ورغم محاولات التقليل من هذه الإجراءات أو التشكيك في دلالاتها، فإن الواقع يبرهن على أن الدولة تتحرك بخطى واثقة نحو إرساء ثقافة جديدة في العلاقة بين الإدارة والمواطن، تقوم على العدل والاعتراف بالحقوق دون تمييز أو انتقائية. ومن هنا، فإن مسؤولية تثمين هذا القرار لا تقع فقط على كاهل الدولة، بل يجب أن يتحملها الطيف السياسي بكل أطيافه، موالاة ومعارضة، باعتبار أن الاعتراف بالحقوق لا يجب أن يُختزل في الحسابات الظرفية. كما أن الإعلام – الرسمي والخصوصي – مدعوٌ بدوره إلى مواكبة هذه الخطوة بما تستحقه من الإشادة، فهي ليست مجرد حدث إداري، بل عنوان لتحولٍ يجب تعزيزه وتحصينه في الوعي العام. وهكذا نفهم القيادة، حين تُصغي للحق وتُنصف أهله، بعيدًا عن الأضواء وضجيج الشعارات. وهكذا نفهم الدولة، حين تجعل من الإنصاف منهجًا، ومن الاعتراف بالأخطاء السابقة مدخلًا لتصحيح المسار، لا خجلاً من الماضي، بل وفاءً للمستقبل,,
- المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل