“ألو”… “نواكشوط … من الرشيد”… ” العيون .. من الرشيد”…
الرشيد (موريتانيا)- من الشيخ بكاي- (أرشيف)-يجلس ولد الداه من ساعات الصباح الأولى على طاولته الصغيرة ويمسك بالسماعة… يتصل بكل الأرجاء الموريتانية في نحو الساعة، و”يوزع” الأخبار… يحدد المواعيد ليوم الغد. ويعود يكرر: “ألو “نواكشوط”… من “الرشيد”… “نواذيبو” من “الرشيد”… “العيون” من “الرشيد”…”. ولا يخرج الشاب من “كابينة” الاتصال إلا حينما يقدم أحدهم وصفة طبية يصرفها له بسرعة، أو حينما يقف مع أحد سكان القرية الجميلة النائمة في أحضان النخيل وسط الصحراء الموريتانية ليبلغه ان ابنه، أو أخاه أو… يريد التحدث معه غداً من مدينة أو قرية أخرى.
وولد الداه من بين أعداد من سكان الريف الذين حولوا خلال الاعوام الأخيرة إلى ممرضين أو صيادلة أو مسيري مستوصفات في دورات “محلية” سريعة تقيمها الحكومة الموريتانية بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية. وتهدف السلطات الموريتانية من وراء ذلك الى سد النقص الحاد في عدد الأطباء والعجز عن تعميم الغطاء الصحي بالطرق المألوفة.
ولم يعد الطبيب في الريف الموريتاني – المترامي الأطراف والمعزول عن المدن – ذلك الملاك ذا اللباس الأبيض الذي لا يراه الناس إلا في جولات قليلة يوزع أثناءها نصائح وعقاقير، أو حينما تحل أوبئة أو يهدد المرض حياة شخصية ريفية مهمة، فقد أصبح لأهل الريف مستوصفاتهم الخاصة التي يسيرونها بأنفسهم ويشرف عليها أبناؤهم.
ويتلقى الشبان والشابات دورات تدريبية مكثفة على العلاجات الأولية وعلى الأدوية واستخدامها. وتقام هذه الدورات في أغلب الأحيان محلياً. وبرغم أن معظم من يخضعون لهذه الدورات هم من الشباب إلا أن القابلات التقليديات اللواتي هن في الغالب متقدمات في السن يطورن أحيانا خبراتهن المكتسبة بالممارسة عبر هذه الدورات.
وتبيع “الصيدليات” التابعة لهذه المستوصفات الأدوية بأسعار رخيصة تجعل الدواء في متناول الكل لكنها مع ذلك تساهم في استمرار توفير الدواء ودفع رواتب العاملين. وتعود الفكرة إلى منظمة الصحة العالمية لكن “اليونيسيف” تولت تقديم الأجهزة والأدوية وتدريب الكادر الصحي.
ووفرت المنظمة للمستوصفات أجهزة اتصال عبارة عن راديو كان لها دورها الكبير في ربط سكان الريف بعضهم ببعض وبالمدن الكبيرة.
ويتدافع سكان قرية الرشيد والقرى الأخرى مع الصباح إلى المستوصف ليتحدثوا إلى أبنائهم وأصدقائهم في كل أرجاء البلاد أو لأخذ الرسائل الشفهية التي سجلها “الممرض – الصيدلي” بالأمس، أو لترك رسائل يبلغها المعني إلى من هي مرسلة إليهم .
وحوّل جهازُ الاتصال ولد الداه إلى مركز اهتمام في القرية ومصدر مهم للأخبار.
وتراوح الأخبار بين: “فلان قادم في السيارات من المكان الفلاني”، أو “فلان سيتزوج”؛ وبين الأخبار السياسية في العاصمة، مثل التعديلات الوزارية والاعتقالات. ويستخدم راديو المستوصف أيضاً أصحاب قطعان الماشية في إصدار الأوامر إلى رعاتهم بالتوجه إلى أمكنة معينة ذات مراع خصبة.
وبرغم أن الهدف من هذه المستوصفات كان تخفيف معاناة سكان الريف وخلق فرص عمل، فإن الدور “الاتصالي” لا يقل أهمية، إذ إن المناطق الريفية الممتدة على مساحات شاسعة معزولة تماماً عن بقية الأرجاء. لا طرق معبدة… ولا هواتف..
وكانت موريتانيا أنهت قبل عام مشروعاً “طموحاً” تمثل في ربط عواصم الولايات البالغ عددها 13 بشبكة الهاتف. ومكن هذه المدن من استقبال البث التلفزيوني للمرة الأولى .
وتزامن تنفيذ المشروع مع تنفيذ آخر أمد المدن بالكهرباء والماء. ومع انه لا يتوقع في أمد متوسط تعميم مشاريع مماثلة في القرى الريفية، فإن المشكلة محلولة ما دام ولد الداه ونظراؤه يلتقون طوال اليوم عبر شبكة “اليونيسيف”.
تفاصيل النشر::
المصدر:الحياة
الكاتب: الشيخ بكاي
تاريخ النشر(م): 30/3/1998
تاريخ النشر (هـ): 2/12/1418
منشأ:
رقم العدد: 12810
الباب/ الصفحة: 1