انتخابات موريتانية تهجرها “العطور” وتقاطعها المعارضة.. والخاسرون : الديموقراطية وبائعو الشاي والمتسكعون وموردو البطاقات..
نواكشوط – من الشيخ بكاي– جرت العادة خلال المواسم الانتخابية ان يغص المقر الرئيسي للحزب الجمهوري الديموقراطي الحاكم في موريتانيا بالناس طوال ساعات اليوم، وان يهجر معظم السكان ليلاً قصورهم وبيوتهم الى الخيم المنصوبة على جنبات الشوارع وفي الساحات العمومية. لكن زائر المقر قبل ايام فقط من موعد الاقتراع في الانتخابات البلدية المقررة الجمعة المقبل يشك في قدرات أنفه وعينيه وأذنيه.
يتحسس الزائر الذي يعرف المقر في مناسبات سابقة، أنفه وهو يصعد هذه المرة السلالم الى الدور الاول في المبنى الهادئ علّه يشتم، كما هي العادة، روائح “آنجيل” و”أوبيوم” و”أدن”، وعطوراً مختلفة راقية ومتوسطة اخرى تسرف المرأة الموريتانية في استهلاكها. فيقول في نفسه: “ربما كنت مزكوماً، او ان حاسة الشم تعطلت”. لكن ماذا عن حاستي السمع والرؤية؟ انني اسمع جيداً، وأرى جيداً، فأين الصخب والزحام اذن؟ ولا تحمل روائح العطر والبخور التي تميز مقرات الحزب الحاكم في المناسبات اي معنى سلبي. انها فقط تقود الى هذا الحضور الرائع واللافت للمرأة الموريتانية في السياسة وخبرتها الواسعة في ادارة الحملات الانتخابية للرجال. وهي الخبرة التي انضافت اليها اخرى في النضال حيث سجلت “انثى” المعارضة سبقاً على “الذكر” خلال شهر رمضان الماضي حيث جلس الرجال المعارضون على الهاتف في البيوت والمكاتب ونزلت نساء المعارضة، طيلة الشهر الكريم، الى الشارع لمواجهة رجال الشرطة في سلسلة احتجاجات على اعتقال الخصم الرئيس للسلطة، احمد ولد داداه. فنشرن في مقر حزبه روائح عطر خاص لونه احمر و”ينسكب” من اماكن “داعبتها” هراوات او شظايا قنابل غازية.
في احدى الصالات الواسعة لمقر الحزب الحاكم في الدور الاول يجلس ثلاثة من موظفي الدولة، وفي الصالات الاخرى عدد مماثل، او اقل او اكثر قليلاً. ومن حين الى آخر يدخل شخص او اشخاص للسؤال عن امر او فرد ويعودون ادراجهم.
تقول سيدة لاخرى بصوت خفيض: هذه الحملة ليست “مشعشعة” تعني: ليست باذخة. وتحرك شفتيها بطريقة خاصة، وتسأل عن احد مسؤولي الحملة ثم تنصرف. وتدخل اخرى بصحبة رجل يبدو من مظهريهما انهما من سكان الاحياء الشعبية الفقيرة. تشير المرأة الى حزمة بطاقات الناخب وبطاقات الهوية في حوزتها وتقدم نفسها: “انا رئيسة لجنة قاعدية … انا حزبية وسأصوت للحزب، ولست انا المشكلة. المشكلة تتعلق بمن يريدون نقوداً مقابل بطاقاتهم، وقد سحب مني كثيرون البطاقات لأنني لم احصل لهم على شيء”. وتبدي السيدة قدراً ضئيلاً من الحرج حينما تبلغ انها تتحدث الى صحافي، لكنها تقول: “هل تحدثت عن اسرار؟ وهل هذا الصحافي هنا الا لأخذ نصيبه؟”. وتغادر رئيسة اللجنة القاعدية كما جاءت، فـ”المسؤول ليس هنا”.
في الصالة الكبيرة يقرأ الموظفون الثلاثة الجرائد ويستخدمون الهاتف ويشربون الشاي الموريتاني “المنعنع” يقدمه عبدالرحمن، احد الذين يفتقدون الحملات الانتخابية الباذخة.
ويفتح عبدالرحمن مقهى صغيراً يقدم الشاي والقهوة للزوار والعاملين في مبنى الحزب. وهو يتلقى شهرياً 20 الف اوقية نحو 90 دولاراً في مقابل تأمين الشاي. ورفع المبلغ الى 50 الف لمناسبة الحملة. وبرغم ان عبدالرحمن لا يتحدث ولا يحتج فانه اول الخاسرين فلو كان الزوار بحجمهم في مناسبات سابقة لكان حقق ارباحاً طائلة.
اين النقود والعطور؟ هل هي ايضاً تقاطع الانتخابات مع جبهة احزاب المعارضة بقيادة احمد ولد داداه. لا يبدو ذلك. لان المعارضة “مفلسة” برغم حملتها المضادة النشطة من اجل اقناع الموريتانيين بمقاطعة الاقتراع.
ويعتقد العارفون بالشؤون السياسية في البلد ان الذين سيقاطعون الانتخابات بتأثير المعارضة هم فقط اعضاؤها وانصارها، لا قطاعات جديدة من الرأي العام. فلماذا اذن هجر انصار السلطة مقر الحزب الحاكم ولم يبدوا اكتراثاً بالحملة؟
“الامين العام مشغول وسيستقبلك بعد ان ينتهي من شغله”، يقول لي احدهم لكن الجلسة تطول. وتمر ساعة بعد الدوام الرسمي ويخرج الامين العام “فمن يتحدث اذن؟”. “لسنا مخولين. هو وحده من يتحدث او يطلب منا الحديث” يرد احدهم. لكن يتطوع جالس بحديث “غير رسمي” و”من دون الاشارة الى اسمي” فيشرح: “لا ضرورة لتدافع الناس امام مكتب الامين العام فهو ينظم العمل في شكل لامركزي وقد اعطى كل رؤساء المكاتب صلاحياتهم كاملة”. ويفسر هذا المسؤول غياب الخيم والليالي الانتخابية الساهرة بـ”شعور مناضلي الحزب بالأمان”.
وفي الواقع يبدو من المؤكد فوز قائمة حزب السلطة من دون مشاكل في العاصمة نواكشوط في ضوء غياب المعارضة وانحسار التنافس في هذا الحزب ومجموعة سياسية صغيرة منشقة عن تجمع المعارضة الرئيسي “اتحاد القوى الديموقراطية”.
وتختلف الاجواء في بعض المناطق الداخلية في البلاد عنها في العاصمة حيث يبدو الوضع ساخناً في الدوائر التي يواجه فيها الحزب الحاكم اعضاء فيه انشقوا “موقتاً” عنه ليرشحوا انفسهم في مواجهته. وغادر كثيرون نواكشوط لمساعدة اقربائهم وحلفائهم ضد خصوم محليين.
وعموماً تبدو الحملة الانتخابية الحالية باهتة فقيرة. ومع ذلك ستحقق لكل من السلطة والمعارضة الغرض المطلوب اذ سيسيطر الحزب الحاكم على كل المقاعد في المجالس البلدية وهي مهمة لانها هي التي تنتخب اعضاء مجلس الشيوخ (احدى غرفتي البرلمان). اما المعارضة فستستغل الاقبال الذي يتوقع ان يكون ضعيفاً جداً في حملتها السياسية ضد السلطة، وستفخر بأن الموريتانيين “استجابوا” دعوتها الى المقاطعة. اما الخاسرون فسيكونون: الديموقراطية اولاً، ثم عبدالرحمن وباعة القماش، والمتسكعون ليلاً، و”موردو” بطاقات الناخب والهوية.
تفاصيل النشر:
المصدر: الحياة
الكاتب: الشيخ بكاي
تاريخ النشر(م): 27/1/1999
تاريخ النشر (هـ): 10/10/1419
منشأ: موريتانيا
رقم العدد: 13109
الباب/ الصفحة: 6
تعليق واحد